الجمعة, 12 يوليو 2024
اخر تحديث للموقع : منذ 3 أشهر
المشرف العام
شريف عبد الحميد

الفساد في إيران – الجزء الأول

بدون رقابة - | Sun, Nov 20, 2016 1:20 AM
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني

مدخل:

للفساد المالي والإداري عدة مفاهيم وتعريفات عالمية معتمدة، ويمكن إيضاحه بأنه كل سلوك يسعى به الفرد أو مجموعة من الأفراد إلى تحقيق مكسب شخصي بطرق غير مشروعة، واستخدام الوظيفة العمومية لتحقيق مكاسب وأهداف شخصية، ويشمل إساءة استخدام المناصب أو النفوذ أو الموارد بهدف تحقيق منافع خاصة، وتندرج تحت مظلته: الرشوة، والاختلاس، واستغلال النفوذ، والابتزاز، وهدر المال العام، والتلاعب بالعقود وإبرام اتفاقيات سرية بهدف الغش، والتهرب من الضرائب وغيرها من أنماط الفساد الاقتصادي والإداري.

وأكدت الدراسات أن هناك ارتباطا وثيقا وعضويا بين الفساد والاستبداد والتسلط، لأن النظام الديكتاتوري والمتسلط يسعى إلى شراء الولاء عن طريق منح امتيازات الريع الاقتصادي، ما يفقد العدالة الاجتماعية ويضرب التوزان الطبقي في المجتمعات، فتغيب المؤسسات الرقابية لسكوت الشخصيات النافذة عن ملفات الفساد، وذلك لضلوعها وتورطها في مثل هذه القضايا، ويصبح القضاء في هذه الظروف انتقائيا.

وتمتد جذور الفساد بكافة أشكاله في إيران إلى ما قبل الثورة الإيرانية عام 1979، إذ بنيت الثورة الإسلامية على شعارات مكافحة الفساد وترسيخ العدالة الاجتماعية والنهوض برفاهية المواطن، حيث كانت مؤسسات البلاد حضانة لكافة أشكال الفساد، إلا أنه وبعد مرور أكثر من 36 عاما، مازالت ملفات الفساد تشكل نقطة ضعف ومصدر قلق في النظام الإيراني الحالي، وأظهرت كافة حكوماته المتعاقبة سواء الإصلاحية أو المعتدلة أو المتشددة عجزا في الحد منها أو معالجتها، وأصبح الفساد المالي والإدراي متجذرا ومتفشيا في أغلب مؤسسات الدولة، وأصبحت مظاهر الرشوة والاختلاس واقعا مشهودا وتحولت إلى قضية رأي عام، ولم يعد يمر أسبوعا إلا ويتم الكشف فيه عن ملف فساد جديد.

وقد حظي موضوع الفساد بشكل عام وخاصة المالي والاقتصادي في السنوات الأخيرة بأهمية قصوى في إيران، وأحدث مسلسل الكشف عن ملفات فساد ضخمة جدلا سياسيا واسعا وضجة إعلامية كبيرة، صاحبها تراشق التهم بين التيارات السياسية وبعض الشخصيات الحكومية والرموز الدينية، وكان لاستخدام وقود الفساد في المعارك السياسية الدائرة في إيران، واستغلال ملفات الفساد كسلاح لتصفية الحسابات بين التيار المعتدل والإصلاحي من جهة والمتشدد من جهة أخرى، أثر كبير في تحويل قضية الفساد المالي والاقتصادي إلى معضلة هيكلية تعيق جهود الإصلاح لدى الحكومة والمؤسسات التي سعت إلى الحد من هذا الفساد أو محاولة السيطرة عليه، وخاصة أن جزءا من ملفات الفساد لم يتم التطرق إليها أو محاسبتها.

وكان لتزايد ملفات كشف الفساد من قبل حكومة روحاني، والتي أطالت يدها إلى ملفات فساد تورطت بها عدة شخصيات محسوبة على حكومة المتشدد محمود أحمدي نجاد، والحرس الثوري الإيراني، ارتدادات عكسية من قبل المستهدفين، بمعنى أن المتشددين والحرس الثوري أيضا عملوا على نفس الجبهة بكشف قضايا فساد تورطت بها شخصيات معتدلة وإصلاحية، وهو السبب الرئيسي في تزايد ملفات الكشف عن قضايا فساد مالية واقتصادية وإدارية.

وتبدلت قضية تفشي الفساد بكافة أشكاله في إيران إلى مصدر قلق، واعتبارها أخطر من هجوم عسكري أو ثورة مخملية على النظام، وهو ما عبر عنه بعض السياسيين، منهم: ممثل طهران في مجلس الشورى الإيراني “احمد توكلي” الذي حذر من أن انتشار الفساد في إيران قد دق ناقوس الخطر، وأكد أن جذور الفساد في إيران تتمحور في الفساد السياسي واستغلال السلطة، واعتبر أن هذا الأمر سببه عدم منح الحرية في الإعلام، والذي تسبب في عدم شفافية وسائل الإعلام في إيران، وقال توكلي: إن ما يهدد مستقبل الثورة في إيران ليس هجوما عسكريا أو عقوبات أو ثورة مخملية، بل إن الفساد هو ما يهدد الثورة وهو أكبر خطر على النظام، وإذا لم نكافح الفساد في بلادنا فسيسقط النظام، وكشف توكلي في تصريح ناري وجريء أن إيران تعيش في مرحلة فساد ممنهج، وأن الأجهزة الرقابية تعج بالفساد، مشيرا إلى أن الفاسدين موجودون على رأس صنع القرار في البلاد، وشبه أيضا النائب الأول للرئيس الإيراني “إسحاق جهانكيري” الفساد بالنملة التي اخترقت كافة مؤسسات وأركان البلاد، واعتبره فسادا منظما يحتاج إلى جهد ووقت وإرادة شعبية ومؤسساتية من أجل معالجته، وفي تصريح آخر له اعتبر جهانكيري أن الفساد هو من أكبر مهددات النظام الإيراني.

أسباب تفشي الفساد في إيران:

1 – أسباب هيكيلية، وهي التي يمكن اعتبارها ناتجة عن القصور الحاصل في منظومة إيران الاقتصادية القائمة على الريع النفطي وأحادية الدخل، وما نتج عنه من ضعف في الصناعات والاستثمارات بشكل عام، وغياب القدرة التنافسية وتشجيع الانتاج المحلي، وهو ما قلل من فرص الاستثمار والطرق الربحية بصورة شرعية، ما يعني اضطرار أصحاب المناصب والنفوذ إلى التوجه نحو جني الأرباح بطرق غير مشروعة من خلال استغلالهم للمناصب، كقبول الرشاوي أو تسهيل التهريب أو اختلاس الأموال العامة تحت مسميات تتوافق مع القانون الإيراني.

2 – أسباب خاصة بالقصور القانوني، حيث يتصف القانون الإيراني بوجود ثغرات يمكن من خلالها تشديد أو تخفيف العقوبة من قبل السلطات القضائية، وهو ما أنتج ملفات فساد كبيرة لم يتم محاكمة أصحابها بعقوبات رادعة، نذكر منها قضية “مرتضى رفيق دوست” الذي انتقلت عقوبته من المؤبد إلى 10 سنوات ثم إلى العفو، وهناك الكثير من قضايا الفساد لم تمر في القضاء وتم التستر عليها بأمر من السلطات الإيرانية العليا لتورط مسؤولين كبار فيها، وبقيت وسائل الإعلام الإيرانية غافلة عنها.

3 – أسباب تتعلق بأيديولوجية النظام، فعلى الرغم من أن رموز الثورة قد أكدوا بداية الأمر على قيم النزاهة واجتثاث الفساد وإيجاد قاعدة عدالة اجتماعية تضمن حقوق وحريات الجميع، إلا أنه على أرض الواقع، فقد استخدم النظام معظم ثروات وموارد البلاد كوسائل من أجل حشد الدعم الإيديولوجي له، وقدم امتيازات اقتصادية كبيرة لبعض المؤسسات والرموز الثورية لضمان ولائهم له، ما يعني أن النظام يسمح بالفساد من قبل الرموز السيادية والمؤسسات القيادية التي تدين له الولاء وتعمل على حمايته من أجل ضمان ولائها، وأصبحت قضايا الفساد مثل توزيع أراضي الدولة وبعض ممتلكاتها لبعض أصحاب النفوذ تمر على أنها هبات وعطايا وقروض وتسهيلات، وما ساهم في تكريس هكذا حالة، سيطرة مؤسسات وتنظيمات وجمعيات ثورية تابعة للمرشد الإيراني على ثروات كثيرة ليس للحكومة أية رقابة أو حتى دراية عنها، مثل الحرس الثوري، فيلق القدس، مؤسسة خاتم الأنبياء، مؤسسة قدس رضوي، مؤسسة الباسيج، ومؤسسة المستضعفين، ومؤسسد الشهيد ومؤسسة إمداد إمام وغيرها.

4 – استخدام ملفات الكشف عن الفساد كسلاح لكلا الأطراف المتصارعة في إيران لضرب الطرف الآخر، ما يعني وجود حالة تنافس وسباق بين كافة الأطراف في كشف ملفات فساد تتعلق بالجانب الخصم، فعندما جاءت حكومة روحاني، اعتمدت خطط وبرامج تدعو إلى الشفافية وكشف ملفات فساد تتعلق برموز حكومة نجاد والتيار المتشدد، ما أثار غضب الطرف الآخر المدعوم من قبل الحرس الثوري، ليقوم هو أيضا بالعمل على نفس الجبهة وترصد حكومة روحاني وكشف ملفات فساد لمسؤولين محسوبين على التيار الإصلاحي والمعتدل، ما تسبب بشكل أساسي في زيادة ملفات الكشف عن الفساد في عهد حكومة روحاني الحالية.

5 –  ما زاد من نسبة انتشار الفساد وتفشيه في إيران أيضا هو أن الفساد تحول إلى نهج توزيع ثروات البلاد بين القادة والمسؤولين الذين يسعى النظام إلى تقديم تسهيلات مالية لهم بهدف دعمه سياسيا، وخاصة الأجهزة الأمنية مثل الحرس الثوري.

6 – وجود مؤسسات سياسية ودينية وعسكرية فوق القانون وبعيدة عن الرقابة القضائية والأمنية، مثل المؤسسات التابعة مباشرة للمرشد الإيراني والحرس الثوري والاستخبارات ومؤسسة خاتم الأنبياء وبعض المؤسسات الدينية الداعمة للمرشد، ومن المؤكد أنه لم يتم الكشف عن ثلث الفساد المتفشي في إيران حتى الآن، وذلك لعدم القدرة على اكتشافه أو إثباته من قبل بعض الجهات الرقابية أو المعارضة سواء في الداخل أو الخارج.

7 – تفاقم معدلات الفقر والبطالة، والتي أدت بدورها إلى خلق المزيد من الأزمات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ويرتبط الفساد بشكل وثيق بارتفاع معدلات المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، كما يعتمد الاقتصاد الإيراني بشكل أساسي على عائدات النفط والغاز، ويسيطر القطاع العام وشبه العام على نحو 85% من اقتصاد البلاد، ويعتبر الحرس الثوري أكثر مؤسسات البلاد استحواذا على الاقتصاد الإيراني، ورغم ذلك شكلت إيران اقتصادا وطنيا حل في المرتبة الـ 66 في تقرير التنافسية العالمي من بين 144 دولة، وفي المرتبة 8 في منطقة الشرق الأوسط، وبلغ الناتج القومي الإجمالي لإيران 548 مليار دولار عام 2012، في وقت بلغت فيه نسبة البطالة أكثر من 15%، ومعدل التضخم بلغ نسبة 31.5% في عام 2013، أي العام الذي تسلم به روحاني رئاسة البلاد، وورثت حكومة روحاني التي يطلق عليها اسم “الأمل والتدبير” مشاكل اقتصادية كبيرة، منها التضخم والبطالة وضعف النمو، ما جعل الاقتصاد الإيراني يستمر في معاناته من مشاكل هيكلية عمقت العقوبات الاقتصادية من حدتها.

8 – عدم وجود نية حقيقية أو مساع جادة من قبل المؤسسات النافذة في إيران كالحرس الثوري ومؤسسات بيت الخامنئي لمكافحة الفساد أو الحد منه، وذلك كما ذكرنا كون ملف الفساد أصبح جزءا من هيكلية النظام القائم في طهران.

9 – ضعف الشفافية حول الموارد والمصادر المالية لإيران، وعدم السماح لوسائل الإعلام في الخوض أو الوصول إلى بعضها، قاد ذلك إلى تجرؤ بعض المسؤولين على ممارسة الفساد لضمان هروبهم من العقوبات.

10 – تورط الجهات الرقابية نفسها إضافة إلى مؤسسات تربوية وصحية وثقافية وشخصيات كبيرة بملفات فساد، ما أجبر السلطات القضائية على التستر على بعض ملفات الفساد.

11 – العقوبات المالية والاقتصادية التي فرضت على طهران كان لها دور كبير في تفشي الفساد المالي والاقتصادي في إيران، وقد استغلت شركات ومؤسسات إيرانية هذه العقوبات لصالحها كما أكد الرئيس روحاني وعدد من رموز حكومته، وجنت المليارات بطرق غير مشروعة من خلال الالتفاف على العقوبات، حيث كان التهريب السمة البارزة في نشاط هذه المؤسسات التي ترتبط أغلبها بالحرس الثوري الإيراني.

12 – تحول الفساد إلى ثقافة عامة، ويعتبر هذا من أكبر مؤثرات تفشي الفساد في إيران، فحين يصبح الفساد ثقافة عامة، لا يرى المفسد نفسه يعمل شيء مخالف العادة، لأنه يرى الجميع يمارس نفس العمل.

ملفات الفساد المالي:

تحول موضوع الفساد المالي في إيران إلى ساحة نقاش سياسي وإعلامي منذ تسعينات القرن الماضي، في عهد رئاسة هاشمي رفسنجاني، حيث تم الكشف آنذاك عن قضية فساد كبيرة عرفت باسم قضية “التاجر فاضل خدا داد” الذي قام باختلاس 200 مليون دولار من بنك صادرات إيران الحكومي بمساعدة عدد من موظفي هذا البنك، وتبين أن مرتضى رفيق دوست وهو شقيق محسن رفيق دوست أول وزير للقوات المسلحة الإيرانية بعد الثورة، متورط في هذه القضية، وقد أظهرت هذه القضية حجم الفساد الكبير الموجود في النظام المصرفي الإيراني، وقد حكم على المتهم الأول “خدا داد” بالإعدام، بينما رفيق دوست تم تخفيف حكمه من المؤبد إلى عشر سنوات ثم الإفراج عنه، ما دفع الكثير من الناشطين إلى اتهام السلطات الإيرانية بالتواطؤ مع المفسدين بسبب نفوذهم، ثم جاءت قضية عمدة بلدية طهران “غلام حسين كرباسجي” الذي قام باختلاس نحو 900 ألف دولار من المال العام، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع وقفه عن عمله الحكومي لمدة عشر سنوات، واعتبر الإصلاحيون أن هذه المحاكمة زائفة وهدفها سياسي وهو النيل من أحد الرموز الإصلاحيين من قبل الأصوليين، وذلك بسبب دعمه ترشيح خاتمي للرئاسة عام 1997.

وشهد عام 2002 أكبر عمليات الفساد المالي والاقتصادي في إيران، قدرت بمئات ملايين الدولارات، وهي قضية رجل الأعمال “شهرام جزائري” التي اتخذت أبعادا سياسية ودينية، ومن ثم تم الكشف عن قضايا فساد مالية كبيرة في عهد نجاد، ويعتبر أكبرها ما تم التعارف عليه باسم “الاختلاس الكبير” وهي القضية التي زلزلت حكم أحمدي نجاد عام 2011، وقدر حجم الفساد فيها بنحو 2 مليار و700 مليون دولار تم تهريبها إلى خارج البلاد، وما زاد من ردود الأفعال أيضا قضية فساد شركة التأمين الإيرانية، والتي شملت اختلاسات كبيرة وتزوير وثائق ومستندات، وزج في هذه القضية 80 متهما على الأقل، وتوالت عمليات الكشف عن عدة ملفات فساد طالت حكومة نجاد من قبل حكومة روحاني، وكشفت صحيفة “اعتماد” عن قضيتي فساد مالي جديدتين حدثتا في عهد حكومة محمود أحمدي نجاد، وهما: اختلاس أكثر من ألف مليار تومان من صندوق التقاعد، واختفاء ملايين الدولارات في إحدى شركات التأمين في عهد مرتضوي، وتبقى غاية حكومة روحاني من الكشف عن هكذا ملفات هي إثبات فشل التيار المتشدد في إدارة البلاد ومحاولة تخريب صورة المتشددين من خلال إهدارهم للأموال العامة وعدم العمل من أجل مصلحة الوطن والمواطن.

وبعد استلام روحاني رئاسة البلاد، وضع عدة برامج لمكافحة الفساد، استمر مسلسل الكشف عن قضايا فساد طالت رموز حكومة أحمدي نجاد، ما استوجب غضب التيار المتشدد، ومقابلته بالمثل، ففجر التيار المتشدد قضية الرواتب الفلكية لأعضاء الحكومة الذين يتحدثون عن مكافحة الفساد، فكانت ردة الفعل الشعبية غاضبة، وأحدث هذا الكشف ضجة إعلامية كبيرة، وتعرضت حكومة روحاني إلى انتقاد وهجوم شديدين، وكشف سابقا قائد الحرس الثوري الإيراني “محمد علي جعفري” أن سبب اعتقال المدير العام السابق لبنك “ملت” من قبل الحرس الثوري الإيراني هو مشاركته في ملف فساد اقتصادي كبير، وقد شارك معه أيضا بعض السياسيين، وأكد جعفري أن الاعتقالات الأخيرة لا ترتبط فقط بالرواتب الخيالية، بل إن الملف يتعلق بشبكة فساد بنكية كبيرة، وهنالك سياسيون في إيران ضالعون فيها.

 ويرى المحللون أن تدخلات الحرس الثوري في هكذا ملفات جاءت لتكون في صالح التيار المتشدد ضد حكومة روحاني، وما يعزز هذا الرأي، تصريحات رئيس منظمة تعبئة المستضعفين التابعة للحرس الثوري “محمد رضا نقدي” والتي قال فيها إنه عندما تصل العنصرية والتفريق إلى تقاضي الرواتب الخيالية، فإنه يمكن القول بكل قوة أن خطر الفساد الاقتصادي أكبر من خطر داعش.

من دون شك فإن إثارة قضية الرواتب الفلكية التي يتقاضاها بعض المسؤولين في حكومة روحاني، لها هدف سياسي واحد وهو إضعاف روحاني وتوجيه ضربة له، لذا فقد طالت الاتهامات الموجهة للحكومة الإيرانية بخصوص الرواتب الفلكية الرئيس حسن روحاني، حيث استغل خصومه القضية المشتعلة للهجوم عليه متهمينه وحكومته بتسهيل مرور التشريعات التي أجازت تمرير هذه المدفوعات الباهظة إلى بضعة موظفين كبار في الدولة، ونشرت الصحف الإيرانية التابعة للتيار المتشدد ومنها صحيفة كيهان العديد من التقارير التي هاجمت بها روحاني، وأكدت أن 400 مدير ومسؤول في الحكومة يتقاضون رواتب خيالية، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الإيراني من كساد اقتصادي.

والآن، يسلط التيار المتشدد أضواءه ويوجه سهام هجومه صوب حكومة روحاني بسبب قضية فساد كبيرة استغلها بعض رموز الأصوليين للنيل والانتقام من حكومة روحاني التي طالت يدها في كشف ملفات فساد تتعلق بالأصوليين، وهذه القضية هي فساد مالي بقيمة 8000 مليار تومان تم أخذها عن طريق “صندوق ادخار التربويين” حيث يتهم التيار المتشدد حكومة روحاني بتسهيل إعطاء قروض وتسهيلات بقيمة 8000 مليار تومان لــ 30 شخصا مقابل تلقي مسؤولي هذا الصندوق الرشاوي، ما اعتبر فسادا كبيرا من قبل أعضاء حكومة روحاني، وفي الوقت نفسه يدافع روحاني عن هذه القضية ويضع المبررات ويؤكد أن هذا المبلغ منح على شكل قروض وتسهيلات ولا يجوز اعتبار الديون المستحقة التي لم يتم سدادها حتى الآن بأنه فساد مالي، إلا أن هذه المبررات رفضت من قبل عدد من المسؤولين أبرزهم ممثل مدينتي سقز وبانه في مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) “محسن  بيگلري” والذي قال: إنني لا أقبل تصريحات رئيس الجمهورية حسن روحاني بخصوص ملف الفساد المالي البالغ 8 آلاف مليار تومان، في حين أكد بعض رموز الحكومة الحالية أن حكومة نجاد هي المسؤولة أولا عن قضية صندوق التربويين وليس حكومة روحاني.

كما صاحبت قضية الفساد المالي المتعلقة بــ “صندوق ادخار التربويين” قضية فساد من نوع آخر، وكشف “جبار کوچکی ‌نژاد” ممثل مدينة رشت في المجلس، أن أغلب مديري هذا الصندوق هم من رموز تيار مير حسين موسوي وهم العاملون الأساسيون لفتنة 88 (الحركة الخضراء التي اندلعت بعد فوز نجاد عام 2009)، وأضاف أن من بين المفسدين في هذه القضية من أخذ قرضا بقيمة 800 مليون تومان على ثلاث دفعات، ويعتبر ملف اختلاس 1200 مليار تومان من البنك الوطني أيضا من بين أكثر ملفات الفساد إحداثا لتراشق الاتهامات بين المعتدلين والإصلاحيين (حكومة ورحاني) من جهة، والتيار الأصولي من جهة أخرى.

ووصلت قضايا الفساد المالي في إيران إلى حد اعتقالات عدد من المسؤولين الإيرانيين، إذ تم اعتقال 6 من أعضاء مجلس محافظة “مرند” بتهمة الاختلاس والفساد المالي، وتم اعتقال نائب منطقة “آزاد جابهار” جنوب سيستان بلوشستان ومعه خمسة أفراد آخرين بتهمة الاختلاس والرشوة، وكان قد اعتقل سابقا “حميد بقايي” المساعد الثاني للرئيس الإيراني السابق محمد أحمدي نجاد على خلفية قضايا فساد، إضافة إلى “رضا رحيمي” النائب الأول لنجاد المتهم بعدد من قضايا الفساد التي شغلت الرأي العام.

وتحاول السلطات الإيرانية قدر المستطاع منع تسريب أي نوع من قضايا الفساد المالي إلى وسائل الإعلام، وخاصة بعد تزايدها وتحولها إلى قضية رأي عام وساحة للجدال والنقاش، ومن ثم سلاح استخدمته التيارات السياسية المتصارعة في تنافسياتها للانتخابات المتعلقة بمجلس الشورى وانتخابات مجلس الخبراء والانتخابات الرئاسية، علاوة على أن النظام الإيراني يرى مثل هذه التسريبات بأنها تسيء لصورة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي من شأنه أن يضعفها أمام الأعداء والمتربصين، إضافة إلى الخوف من تململ شعبي قد يتحول إلى غضب واحتجاجات، وقد عبر المرشد علي خامنئي مرارا عن ذلك من خلال توصياته للحكومة بضرورة مكافحة الفساد والحرص من تسرب قضايا الفساد، حتى قيل أنه أصدر فتوى حرم فيها نشر وتداول أخبار تتعلق بالفساد، إلا أن الفساد استمر ينخر في المؤسسات الإيرانية، وفي مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولي حصلت إيران على 27 نقطة من 100 نقطة حيث تمثل النقاط الأعلى الشفافية الأعلى والفساد الأقل، حيث جاءت في المرتبة 130 عالمياً من أصل 168 دولة، في تقرير سابق عام 2012 كانت إيران في المركز 133 عالميا من أصل 174 دولة من حيث الفساد.

وتحدثت العديد من التقارير الصادرة من الداخل الإيراني عن أكبر 6 عمليات فساد اقتصادي واختلاسات حدثت في إيران في الأربعة سنين الماضية، وما نتج عن هذا الفساد، وقالت إن قيمة عمليات الفساد هذه لم تكن قليلة، بل تجاوزت 32 ألف مليار تومان، ووفقا لإحصائيات مركز الشفافية الدولية، فإن إيران من بين 175 دولة في العالم جاءت في المرتبة 136 من حيث الفساد الإداري والاقتصادي، أي أن هناك 39 دولة في العالم فقط فيها فساد اقتصادي أقل من إيران، الأمر الذي جعل رئيس مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) علي لاريجاني يوجه انتقاده بشدة إلى إدارة بلاده للمشكلات الاقتصادية وعدم فاعلية القطاع الخاص، وقال إن أغلب المشاكل الاقتصادية في إيران ناتجة عن سوء الإدارة، والقليل منها فقط بسبب العقوبات الاقتصادية، ولا يجب أن نربط جميع مشاكلنا بالعقوبات، مؤكدا أن الفساد الإداري والهيكلي من المشاكل التي تعاني منها البلاد، وانتقد بشدة عدم فاعلية القطاع الخاص في إيران برغم وجود ثروات هائلة في البلاد.

ومن طرق الفساد المالي والمصاحبة لفساد إداري، التهرب من الضرائب، حيث وصلت قيمة التهرب من الضرائب سنويا في إيران إلى ما بين 120 إلى 130 ألف مليار تومان، وما قيمته 900 مليار تومان في أصفهان فقط.

وفي فترة انتخابات مجلس الشورى (البرلمان) ومجلس خبراء القيادة، استخدم الإصلاحيون مصطلح الأموال القذرة لتشويه صورة المتشددين، وأكدوا على أن بعض الأصوليين المرشحين للانتخابات قد استخدموا الأموال القذرة في حملتهم الانتخابية، وانتقد وزير الداخلية الإيراني “عبد الرضا رحماني فضلي” دخول الأموال القذرة لعالم السياسة، بينما اعتبر التيار المتشدد أن ذلك عبارة عن  لعبة قذرة يقودها الإصلاحيون من أجل الدعاية الإعلامية، وهو ما يصب في مصلحة الأعداء ضد المصالح الوطنية، وتدخل آنذاك المرشد الإيراني محاولا تخفيف حدة هذه القضية التي تحولت إلى قضية رأي عام عرضت النظام الإيراني إلى الانتقادات.

وحول حجم ملفات الفساد بشكل كامل في إيران، فقد قدرت من قبل “إسحاق جهانكيري” نائب الرئيس الإيراني حسن روحاني، بنحو 170 مليار دولار فقدت من صندوق التنمية الوطنية، وهو ما يعادل تقريبا نصف الميزانية الإيرانية.

ويعتبر المعارضون الإيرانيون أن المرشد الإيراني “علي خامنئي” ومن يشجع على الفساد، وتم الكشف عن أرصدته التي تدل على فساده، حيث قدرت ثروته بـ 95 مليار دولار، كما اعتبر خامنئي شريكا لملفات الفساد التي تورطت بها حكومة نجاد بسبب دعمه لها، والتي قدرت بنحو 70 مليار دولار تم اختلاسها من البنوك والمؤسسات الحكومية في عهد نجاد.

الفساد الإداري:

أثار حجم الفساد الإداري في المؤسسات الحكومة الإيرانية قلق العديد من الجهات المختصة وبعض المسؤولين، وقد أكد رئيس دائرة التفتيش العامة في إيران “القاضي ناصر سراج” في الرسالة التي أصدرها بمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس دائرة التفتيش العامة في إيران، أن ارتفاع ملفات الفساد الإداري في إيران أصبح أمرا مقلقا، وصرح رئيس ديوان العدالة الإدارية “محمد جعفر منتظري” في إطار حديثه عن الفساد الإداري أن الشكاوي على المدراء في الحكومة قد تزايدت، وطالب المدراء والمسؤولين بتحمل مسؤوليتهم والعمل من أجل المواطنين، كما انتقد الفساد الإداري المتفشي والإهمال وعدم تنفيذ الواجبات وحل مشاكل الناس في الوقت المقرر، واعتبر هذه الأمور من المشكلات التي يعاني منها النظام الإداري في الدولة.

وقد شهد الفساد الإداري في إيران في الآونة الأخيرة انتشارا وصل إلى وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، وتم الكشف عن تزوير شهادات بحجم أظهر تفشي الفساد، حيث أكد نائب وزير التربية للتعليم الثانوي “علي زرافشان” أنه تم الكشف عن تزوير مليون شهادة ثانوية في إيران، وكان وزير التربية والتعليم “علي أصغر فااني” قد اعتبر سابقا أن العقاب البدني وتزوير الشهادات والفساد المالي لبعض مدراء المدارس هي من أهم المشاكل التي يعاني منها قطاع التربية والتعليم.

وشهدت دورة محمود أحمدي نجاد انتشارا للفساد الإداري والمحسوبيات، حيث تم الكشف عن ثلاث آلاف منحة دراسية قدمت لأبناء الوزراء والمسؤولين وذويهم المقربين من الحكومة محمود أحمدي نجاد في ذلك الوقت.

الفساد الأخلاقي:

رغم الصورة الإسلامية التي يحاول النظام الإيراني التقيد بها في خطاباته ودعاياته الإعلامية، غير أن ملفات الفساد الأخلاقي أخذت تبوح بأسرار ما تحتضنه الدولة الإيرانية من مفاسد أخلاقية فاقت أشكال الفساد الأخرى، وقد عبر عن هذا مرارا وزير المخابرات الإيراني السيد محمود علوي الذي أكد في عدد من خطاباته بأن الأخلاق السيئة قد ازدادت في الآونة الأخيرة في المجتمعات الإيرانية، داعيا إلى ضرورة إنقاذ المجتمع منها، وقال أن قوة المجتمع لا تأتي إلا بالوحدة والتماسك والعمل بالقيم الأخلاقية الحسنة، ما يعني أن الفساد الأخلاقي أخذ في الأونة الأخيرة في إيران يرافق تفشي الفساد المالي والإداري ويرتبط به، وقدم أستاذ علم الاجتماع “زاله شادي” بحثا عن الدعارة في إيران، وكانت الإحصاءات الخاصة بالدعارة مرعبة، وتناول البحث أسباب وعوامل انتشار الدعارة في إيران، وجاء فيه أن 9% من اللاتي يمارسن الدعارة تم إجبارهن من قبل أزواجهن، و18% منهن بإجبار الوالدين.

وحملت تصريحات أمين مجلس صيانة الدستور آية الله أحمد جنتي حول تدني الأبعاد الأخلاقية في المجتمعات الإيرانية ردود أفعال واسعة في إيران، حيث أكد جنتي أثناء لقائه جمعا من أئمة المساجد أن أكبر المشاكل التي تواجهها المجتمعات الإيرانية هي نقص في الأبعاد الأخلاقية والروحية.

الفساد الاجتماعي:

مما لا شك فيه أن أشكال الفساد الاجتماعي قد ارتفعت في السنوات الأخيرة في إيران، لما لها من ارتباطات وثيقة بسياسة الدولة تجاه القضايا الاجتماعية، فلم تعر السلطات الإيرانية اهتماما بالحجم المطلوب تجاه المسائل الاجتماعية، بل كان للقضايا الإقليمية حصة الأسد من اهتمامات وأولويات السياسة الإيرانية وخاصة في السنوات الأخيرة، ما استوجب إهمالا واضحا تجاه القضايا الاجتماعية، إضافة إلى قلة عدد المؤسسات المختصة بالشأن الاجتماعي ومعالجة مشكلات المجتمع، أضف إلى ذلك ضعف ميزانية وموارد وخبرات هذه المؤسسات مقارنة بميزانية وقدرات المؤسسات الأمنية أو العسكرية أو التابعة للمرشد الإيراني والحرس الثوري، هذا كله أدى إلى بروز مشاكل اجتماعية قادت إلى فساد ممنهج أصبح جزءا من المنظومة الهيكلية الاجتماعية التي يصعب معالجتها بفترة زمنية محددة في حال قررت السلطات الإيرانية وضع برامج وخطط جدية لمكافحة الفساد في المجتمعات الإيرانية.

المصدر

تعليقات

أراء وأقوال

اشترك في النشرة البريدية لمجلة إيران بوست

بالتسجيل في هذا البريد الإلكتروني، أنتم توافقون على شروط استخدام الموقع. يمكنكم مغادرة قائمة المراسلات في أي وقت