حتى نفهم كيفية تعاطي الدول الغربية الكبرى مع زعماء دول منطقة الشرق الأوسط، لا بد من قراءة تاريخ المنطقة في القرن العشرين بعناية مطلقة، ولا يمكن إعتماد المعادلات الحسابية الخالية من المرونة والإستثناءات والحالات الطارئة في فهم العلاقة المُعقدة بينهما، ولنا في شاه إيران مثال على ذلك.
بادئ ذي بدء، وقبل الغوص في حقبة الشاه، لا بد أن نستذكر بعض النقاط المهمة في فهم أسباب التدخل المستمر للدول الغربية في منطقتنا، وعلى رأس أولوياتها حماية الكيان الإسرائيلي، وضمان مصالحها الإستراتيجية من نفط ومناطق حيوية تحفظ لها وجودها؛ والثانية هي صلب الصراع بين القطبين السوفياتي والأميركي خلال حقبة الحرب الباردة. ولأن مسألة الكيان الإسرائيلي هي الأصل، وكنتيجة نهائية أن سبب وقوف الغرب متفرجاً أمام الإطاحة بشاه إيران هو كيفية تعاطيه مع الملف الإسرائيلي في نهاية عهده، لا بد أن نذكر الحوادث المتسلسلة مع تواريخها التي جمعت إيران وإسرائيل ضمن حلف المصالح المشتركة، مع ملخص بسيط كمقدمة حول ماهية العلاقة بينهما.
يجمع كثير من المؤرخين، إيرانيون منهم، أن التحولات الكبرى في العلاقات الإسرائيلية الإيرانية ما هي إلا نتائج لتحولات جيوسياسية وليست إيديولوجية، وأن حلاً يتم التفاوض عليه بين الإيرانيين والإسرائيليين للمنافسة الإستراتيجية بينهما سيسهل بدرجة كبيرة حل المشكلات الإقليمية الأخرى. صحيح أن في الثمانينيات من القرن الماضي، جعلت إيران من نفسها أكثر الداعمين الإقليميين مجاهرة بتأييد القضية الفلسطينية، لكن نادراً ما اقترن هذا الكلام بالأفعال لوجود عدو مشترك هو "العراق"، وبعد هزيمة الأخير عام ١٩٩١، وجدت إسرائيل وإيران نفسيهما، في غياب أي أعداء مشتركين، في منافسة على إعادة رسم النظام الإقليمي بعد الإجهاز على جيش صدام حسين. يقول هيرمان في نيويورك تايمز: "حتى عام ١٩٩٢ ظلت إسرائيل على استعداد للتعامل مع إيران، حتى عندما كان ملالي طهران يصرخون بإزالة الكيان الصهيوني!".
بعد الحرب العالمية الثانية، ذهب شاه إيران إلى المعسكر الغربي للحد من خطر السوفيات، فوجد نفسه حليف إستراتيجي وطبيعي لإسرائيل، إذ كان يؤمن أن إقامة دولة ليست عربية - إسرائيل - موالية للغرب في الشرق الأوسط من شأنه أن يعزز أمن بلاده عبر لفت إنتباه العرب إليها. على الجانب الإسرائيلي، كان مبدأ بن غوريون منذ نشأة الكيان الإسرائيلي هو "ضرورة بناء تحالف مع إيران ودول المحيط غير العربية لبُعد احتمال التوصل إلى سلام مع العرب"، وهذا ما أسموه "المبدأ المحيطي".
ظلت إيران طوال عقد الخمسينيات تنظر إلى إسرائيل كوسيلة لمنع السوفيات، وليس العرب، من إحراز تقدم في المنطقة، وكان الشاه يخشى من الوحدة العربية عبر الحركة الناصرية، معتقداً أن "القلق الإيراني من الدعوة إلى الوحدة العربية نابع من تأثير موسكو في الحكومات العربية". ومع تزايد الخطر العربي على إيران، زادت حاجة إيران العسكرية إلى إسرائيل وزادت حاجتها إلى إبقاء تعاملاتها مع إسرائيل سراً.
نجحت إيران طوال عقد الستينات في الحفاظ على تحالف جيوسياسي مع إسرائيل. لم تمنحها إعترافاً رسمياً، ولكنها أبقت على تواجد ديبلوماسي في طهران دون الإعتراف ببعثتهم كسفارة. كانت إيران بالنسبة لإسرائيل حلقة توازن في وجه العرب. طالما إيران توازن العراق، تتحول إنتباه القوات العراقية نحو الشرق بعيداً عن الدولة اليهودية.
خلال حرب ١٩٦٧، وفي لعبة الموازنة، لم تكن ترغب إيران في رؤية إسرائيل ضعيفة ولا قوية؛ ضعف إسرائيل سيقوي العرب والعكس أيضا. بعد هزيمة العرب في هذه الحرب، انتهج الشاه سياسة علنية أكثر تشدداً تجاه إسرائيل لخلق توازن، فدعم قضايا العرب في الأمم المتحدة لا سيما قرار ٢٤٢. وبعد تولي السادات الحكم في مصر، ذهب إلى المعسكر الغربي، فتقارب مع إيران، وهي خطوة خففت التوترات العربية الإيرانية. الميزة الأهم التي حصلت عليها إيران من انتقال الحكم إلى السادات هي تراجع مستوى إثارة الرأي العام ضد إيران في البلدان العربية. تقول غولدا مئير بعد التقارب الإيراني المصري وبعد زيارتها لطهران "بعد استئناف علاقته مع مصر، لم يعد الشاه كما كان". أتت معاهدة ١٩٧٢ بين العراق والسوفيات، لتحافظ قليلاً على حلف إيران وإسرائيل لشعورهما بالخطر؛ الملحق العسكري الإسرائيلي بطهران يقول معللاً "كان العراق العدو الحقيقي لإسرائيل".
لا بد من الإشارة هنا إلى أن إنسحاب بريطانيا من الخليج عام ١٩٦٩ جعل الشاه يفكر جدياً باعتباره "شرطي الخليج"، وأدّى ذلك زيادة الإعتماد الأميركي على إيران تحت مسمى "سياسة الدعامة المزدوجة".
خلال حرب ١٩٧٣، رغم أن الشاه لم يقم بوقف تصدير النفط لإسرائيل، لعدم إيمانه به كسلاح، وقد قفزت عائدات النفط لإيران، واستُخدِمت في تحديث الجيش الإيراني؛ لكنه قام بالتقرب من العرب في صراعهم مع إسرائيل، بغية إقناعهم في سياسة "الدعامة المزدوجة" وقيادته وهيمنته على الخليج، ورأى أيضاً أن لا غالب ولا مغلوب في حرب ١٩٧٣ ستقوي مكانته، ولا حرب مطولة يريد حتى لا تكون ذريعة لتدخل أجنبي في الخليج ينافسه. عارض الشاه علناً الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ورأى في القاعدة البحرية الأميركية في البحرين منافساً لهيمنته على المنطقة. وخلال الحرب منع يهوداً أستراليين أرادوا التطوع في الجيش الإسرائيلي من الذهاب إلى إسرائيل عبر طهران.
بعد حرب ١٩٧٣، طرحت مصر وإيران مشروع قرار مشتركاً في الأمم المتحدة يدعو إلى جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية. ظنت إسرائيل بأن الشاه سيواصل انتقاد إسرائيل علناً من أجل ملاطفة العرب، ولكنها انصدمت بقراره توقيع إتفاقية الجزائر ١٩٧٥ مع العراق دون مشاورتهم! كان الشاه اتفق مع إسرائيل بضرورة دعم المسلحين الأكراد لإضعاف الجيش العراقي وصعود نجم الرئيس صدام حسين. ولكن أتت إتفاقية الجزائر عام ١٩٧٥ دون مشاورة إسرائيل، فتوقف الدعم الإيراني للأكراد، وتفاجأ الغرب بخطوة الشاه. بعد توقيع الإتفاقية، كتب مسؤول إسرائيلي "كنت ألعن طهران طوال مدة سفري، شعرت بخيبة أمل". بالنسبة إلى واشنطن، كانت إتفاقية الجزائر صيحة إفاقة لأنها أدركت أن مصالح إيران بدأت بالإنحراف عن مصالحها الخاصة. يقول مسؤول إسرائيلي بعد الإتفاقية: "كانت تلك غلطة الشاه الكبيرة. كان مجنوناً. كان أخرق".
عام ١٩٧٥، صوتت إيران لصالح قرار "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتفرقة العنصرية"، وقد تفاجأت إسرائيل بتصويت إيران. وبدأ الشاه يتطلع إلى الدول المطلة إلى المحيط الهندي، وتدخل في صراع الصومال السياسي، مما زاد قلق الولايات المتحدة. يقول ديبلوماسي إيراني: "كان ذلك حصيلة تصور جنون العظمة الذي تملّك الشاه حيال نفسه وحيال مكانة إيران"، ويضيف مسؤول أميركي في إيران: "لم يكن الشاه يسعى إلى أن يكون المهيمن على المنطقة وحسب، بل وأراد أن يصبح قوة على المسرح العالمي".
لاحظ مسؤولون إسرائيليون التوسع الزائد لإيران، ووصفوا ما كان يحصل "بجنون عظمة الشاه"، وقد أثّر على العلاقات الإيرانية الإسرائيلية. في حزيران ١٩٧٧ نجح اليمين وبيغن في إسرائيل، فكان مصدر إحتكاك بين تل أبيب وطهران؛ كان بيغن عازماً على فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، "توازن جديد للقوى تكون فيه إسرائيل القوة المهيمنة بالكامل"، وعام ١٩٧٧ أتى كارتر لرئاسة الولايات المتحدة مما شكل إنتكاسة أخرى للشاه، فقد كان يكره الأخير تركيز كارتر على حقوق الإنسان وتقاربه مع السوفيات. في عام ١٩٧٦ دعا الشاه إسرائيل إلى تطبيق القرارين ٢٤٢ و ٣٣٨ والإعتراف بدولة فلسطينية على أنها حقيقة.
هذا السياق التاريخي، المُجرّد من التحليل، يلخص لنا الأسباب التي دفعت الغرب أن يقف متفرجاً أمام ثورة الخميني لتطيح بالشاه، وكان بيغن قبلها يقنع السادات وكارتر في مباحثات كامب دايفيد بأن الشاه قد انتهى! من الجدير أن نشير أن الغرب لم يكن يتصور أن البديل ستكون دولة "خمينية" خالصة، إذ أن الثورة قام بها "الخمينيون"، الشيوعيون، العلمانيون، وكل أطياف الشعب الإيراني الذي رأى في الشاه الحاكم المستبد المطلق. يقول هنري كسينجر في كتابه الجديد "النظام العالمي": "من المفارقات أن صعود آيات الله إلى السلطة تم في مراحله الأولى عبر قيام أميركا بفك ارتباطها مع النظام القائم، من منطلق الاعتقاد الخاطئ بأن من شأن التغيير الوشيك أن يعجل بمجيئ الديمقراطية وتعزيز الروابط الأميركية - الإيرانية". أتت إتفاقية الجزائر التي ضربت مصالح إسرائيل في منطقة كردستان العراق، والدعم الديبلوماسي للشاه للقضية الفلسطينية عبر تأييده لقرارات ٢٤٢ و ٣٣٨، وتطلعه لمزاحمة الولايات المتحدة في الأماكن الإستراتيجية في المحيط الهندي، لتقضي تماماً على حكم الشاه، الذي كان طيلة عهده جندياً مطيعاً للغرب.
*كاتب لبناني