الجمعة, 12 يوليو 2024
اخر تحديث للموقع : منذ 3 أشهر
المشرف العام
شريف عبد الحميد

المربط الصفوي| مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية (10)

آراء وأقوال - د. أكرم حجازي | Thu, Sep 15, 2016 9:48 PM
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني

المبحث الثاني

الخميني

أولا: عقائد الخميني

في المحصلة؛ حتى لو جرى التشكيك في كافة الروايات عن أصول الخميني، فالذي لا شك فيه، أن الرواية الأكثر دقة عنه هي تلك التي تقول بأن أصل الخميني ونسبه موضع شك وغموض. وهذا كفيل باستفزاز الذاكرة حول شخصية « ابن سبأ» جديد!!! وفي مثل هذه النهاية فلن يكون ثمة فرق بين « عبد الله» و « روح الله» و « بولس». فكلهم عمل ببراعة فائقة على استحداث دين جديد، أو بتطويره وفق ما تقتضيه الحاجة. ومع أننا مررنا ببعض عقائد الرجل؛ إلا أننا نستأذن العلماء والباحثين في تثبيت بعض من أبرزها، كما وردت في كتبه أو خطاباته، دون شرح أو تعليق، قبل التوقف عند أطروحة « ولاية الفقيه» التي استوردها من أرحام فقهاء جبل عامل و« الصفوية».

من خطاب بمناسبة ذكرى مولد الإمام المهدي في 15شعبان1400هـ:

    « لقد جاء الأنبياء جميعاً من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية، وتنفيذ العدالة، وتربية البشر لم ينجح في ذلك. وإن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسي قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم في جميع مراتب إنسانية الإنسان وتقويم الانحرافات هو المهدي المنتظر … فالإمام المهدي الذي أبقاه الله سبحانه وتعالى ذخراً من أجل البشرية، سيعمل على نشر العدالة في جميع أنحاء العالم، وسينجح فيما أخفق في تحقيقه الأنبياء».

ويتابع:

« إن السبب الذي أطال سبحانه وتعالى من أجله عمر المهدي عليه السلام، وهو أنه لم يكن بين البشر من يستطيع القيام بمثل هذا العمل الكبير حتى الأنبياء، وأجداد الإمام المهدي عليه السلام لم ينجحوا في تحقيق ما جاؤوا من أجله».

ويقول أيضاً:

    « لو كان الإمام المهدي عليه السلام قد التحق إلى جوار ربه، لما كان هناك أحد بين البشر لإرساء العدالة وتنفيذها في العالم … فالإمام المهدي المنتظر عليه السلام، قد أُبقي ذخراً لمثل هذا الأمر، ولذلك فإن عيد ميلاده – أرواحنا فداه – أكبر أعياد المسلمين، وأكبر عيد لأبناء البشرية، لأنه … عند ظهوره، فإنه سيخرج البشرية من الانحطاط، ويهدي الجميع إلى الصراط المستقيم، ويملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً … إن ميلاد الإمام المهدي عيد كبير بالنسبة للمسلمين، يعتبر أكبر من عيد ميلاد النبي محمد، ولذلك علينا أن نعد أنفسنا من أجل مجيء الإمام المهدي عليه السلام … إنني لا أتمكن من تسميته بالزعيم، لأنه أكبر وأرفع من ذلك، ولا أتمكن من تسميته بالرجل الأول، لأنه لا يوجد أحد بعده وليس له ثان، ولذلك لا أستطيع وصفه بأي كلام سوى المهدي المنتظر الموعود، وهو الذي أبقاه الله سبحانه وتعالى ذخراً للبشرية، وعلينا أن نهيئ أنفسنا لرؤياه في حالة توفيقنا بهذا الأمر، ونكون مرفوعي الرأس… على جميع الأجهزة في بلادنا … ونأمل أن تتوسع في سائر الدول، أن تهيئ نفسها من أجل ظهور الإمام المهدي عليه السلام وتستعد لزيارته».

من خطاب في ذكرى مولد الرضا الإمام السابع عند الشيعة بتاريخ 9/8/1984م:

    « إني متأسف لأمرين: أحدهما أن نظام الحكم الإسلامي لم ينجح منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، وحتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستقم نظام الحكم كما ينبغي. وأيضا: واضح أن النبي لو كان قد بلغ بأمر الإمامة طبقاً لما أمر الله به وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت خلافات في أصول الدين وفروعه». (كشف الأسرار، ص 55).

إله المسلمين وإله الخميني

    « إننا لا نعبد إلهاً يقيم بناء شامخا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه، ويُجلس يزيداً ومعاوية وعثمان وسواهم من العتاة في مواقع الإمارة على الناس، ولا يقوم بتقرير مصير الأمة بعد وفاة نبيه». (كشف الأسرار، ص 123). وفي موضع آخر يقول: « إنه كان من الخير أن يُنزل الله آية تؤكد أن على بن أبى طالب وأولاده أئمة من بعد النبي، لأن ذلك كان كفيلا بعدم ظهور الخلاف حول هذه المسألة». ويقول عن الحسينيات: « لولا هذه المؤسسات الدينية الكبرى لما كان هناك الآن أي أثر للدين الحقيقي المتمثل في المذهب الشيعي، وكانت هذه المذاهب الباطلة التي وضعت لبناتها في سقيفة بني ساعدة وهدفها اجتثاث جذور الدين الحقيقي تحتل الآن مواضع الحق»، ( كشف الأسرار، ص 193).

تحريف القرآن

« إن الذين لم يكن لهم ارتباط بالإسلام والقرآن إلا لأجل الرئاسة والدنيا، وكانوا يجعلون القرآن وسيلة لمقاصدهم الفاسدة، كان من الممكن أن يحرفوا هذا الكتاب السماوي في حالة ذكر اسم الإمام في القرآن وأن يمسحوا هذه الآيات منه وأن يلصقوا وصمة العار هذه على حياة المسلمين». (كشف الأسرار،  ص 114)، استرشادا بكتاب « مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل» لـ، الميرزا حسين النوري الطبرسي.

أئمة الشيعة والأنبياء

« نقول بأن الأنبياء لم يوفقوا في تنفيذ مقاصدهم وأن الله سبحانه سيبعث في آخر الزمان شخصاً يقوم بتنفيذ مسائل الأنبياء». لكن: « بالإمامة يكتمل الدين والتبليغ يتم»، (كشف الأسرار، ص 154). ذلك أن: « تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن»، ( الحكومة الإسلامية، ص 113)، بل: « إن للإمام مقاماً محموداً وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات الكون، فهؤلاء: « لا يتصور فيهم السهو والغفلة»، (الحكومة الإسلامية، ص 91)، لذا؛ فـ: « إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل .. وقد ورد عنهم (ع) أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل»، ( الحكومة الإسلامية، ص52).

الصحابة وأهل السنة

في كتابه (وصيتنامة، ص19) كتب يقول: « إنني أدّعي وبجرأة بأن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في عصرنا الحاضر أفضل من شعب الحجاز الذي عاصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن شعب الكوفة والعراق المعاصرين لأمير المؤمنين والحسين بن علي (عليهما السلام)، فمسلمو الحجاز لم يطيعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتخلفوا عن جبهات الحرب بذرائع مختلفة حتى وبخهم الله تعالى بآيات من سورة التوبة وتوعدهم العذاب وكم رموا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالأكاذيب حتى أنه لعنهم من على المنبر[101]ـ على ما نقلت الروايات».  وفي ( كشف الأسرار، 126 -127) يقول: « إننا هنا لا شأن لنا بالشيخين وما قاما به من مخالفات للقرآن ومن تلاعب بأحكام الإله وما حلّلاه وحرماه من عندهما وما مارساه من ظلم ضد فاطمة … وأن مثل هؤلاء الأفراد الجهال الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موقع الإمامة وأن يكونوا ضمن أولي الأمر». بل: « إن كل ما يعاني منه المسلمون اليوم إنما هو من آثار يوم السقيفة»، ( كشف الأسرار ص155). وعن المسلمين أو « النواصب» بلغة القوم، فيقول: « الأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد، وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه»، ( تحرير الوسيلة، ج1 / ص352). إذ أن: « النواصب والخوارج لعنهما الله تعالى فهما نجسان من غير توقف»، ( تحرير الوسيلة). أما قوله في الفرق الشيعية الأخرى: « غير الاثنى عشرية … ؛ إذا لم يظهر منهم نصب ومعاداة وسب لسائر الأئمة الذين لا يعتقدون بإمامتهم طاهرون، وأما مع ظهور ذلك منهم فهم مثل سائر النواصب». ( تحرير الوسيلة).

عقيدة الحلول والاتحاد

   يصف علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، بأنه: « خليفته القائم مقامه في الملك والملكوت، المتحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللاهوت، أصل شجرة طوبى، وحقيقة سدرة المنتهى، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى، معلم الروحانيين، ومؤيد الأنبياء والمرسلين علي أمير المؤمنين»، (مصباح الهداية، ص 1). وفي ص142 يشرح بأنه: « عليه السلام صاحب الولاية المطلقة الكلية والولاية باطن الخلافة .. فهو عليه السلام بمقام ولايته الكلية قائم على كل نفس بما كسبت، ومع الأشياء معية قيومية ظلية إلهية ظل المعية القيومية الحقة الإلهية، إلا أن الولاية لما كانت في الأنبياء أكثر خصهم بالذكر». وفي كتابه ( شرح حديث السحر، ص111)، يقول: « إن لنا مع الله حالات هو نحن ونحن هو وهو هو ونحن نحن[102]. فالوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة».

تحريف الأذان

   يقول موسى الموسوي: « أدخل الخميني اسمه في أذان الصلوات، وقدم اسمه على النبي الكريم، فأذان الصلوات في إيران بعد استلام الخميني للحكم، وفي كل جوامعها، كما يلي: الله أكبر ( خميني رهبر). أي أن الخميني هو القائد، ثم أشهد أن محمدا رسول الله .. إلخ». ويعلق الموسوي على بدعة الأذان موردا رواية عن مهدي بازركان، أول رئيس حكومة بعد سقوط الشاه، كادت تودي بحياته، فيقول: « لقد جرت العادة في البلاد الإسلامية إذا ذكر اسم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صلى الحاضرون ثلاثة مرات، وقال بازركان في خطاب جماهيري: ماذ تقولون لرسول الله إذا قال لكم تصلون علي مرة إذا ذُكرت وثلاث مرات إذا ذُكر ابني؟ وكان بازركان يقصد من (ابني) الخميني الذي يدعي أنه من أولاد الرسول صلى اللع عليه وسلم، وكاد البازركان يدفع حياته ثمنا لهذا الكلام». (الثورة البائسة 162، 163).

الشركيات والقبور

في كتابه (كشف الأسرار، ص30)، وتحت عنوان: « ليس من الشرك طلب الحاجة من الموتى»، يقول: « يمكن أن يقال إن التوسل إلى الموتى وطلب الحاجة منهم شرك، لأن النبي والإمام ليس إلا جمادين فلا تتوقع منهما النفع والضرر، والجواب: إن الشرك هو طلب الحاجة من غير الله، مع الاعتقاد بأن هذا الغير هو إله ورب، وأما طلب الحاجة من الغير من غير هذا الاعتقاد فذلك ليس بشرك !!، ولا فرق في هذا المعنى بين الحي والميت، ولهذا لو طلب أحد حاجته من الحجر والمدر لا يكون شركاً، مع أنه قد فعل فعلاً باطلاً. ومن ناحية أخرى نحن نستمد من أرواح الأنبياء المقدسة والأئمة الذين أعطاهم الله قدرة. لقد ثبت بالبراهين القطعية والأدلة النقلية المحكمة حياة الروح بعد الموت، والإحاطة الكاملة للأرواح على هذا العالم».

ثانيا:  تاريخية ولاية الفقيه

لا تختلف عقلية الخميني العقدية عن عقلية أسلافه من مشايخ « الإمامية»، ولا عن حكام الشيعة والدولة « الصفوية»، إلا في المزيد من الشطط والكفر والشرك. وليس غريبا عنه، كأستاذ فلسفة أصلا، أن يجد في عتاة الإلحاد والزندقة، كالحلاج وابن عربي ضالته، إلى جانب العقائد الوثنية القادمة من الهند، وكذا « النصرانية» وحتى « اليهودية» كما يقول كمال الحيدري. ولعله لا يختلف اثنان على أن عقيدته في « الولاية» كانت أبرز ما أحدثه في « الإمامية» منذ ظهرت بواكيرها الأولى مع عبد الله ابن سبأ. ومع أن أبرز علماء « الإمامية» خالفوه فيها، ودفعوا ثمنا باهظا في معارضته، سواء في حياتهم أو في حريتهم حتى التعفن في السجون أو الممات، إلا أنها غدت في وقت قصير جدا هي المهيمنة على الطائفة، ليس في إيران فحسب، بل حيثما تواجد الشيعة في العالم. وإذا كان إسماعيل شاه الصفوي قد فرض « الاثنى عشرية» مذهبا رسميا للدولة لأول مرة في التاريخ، واستعان بـ « ولاية الفقيه»، إلا أن الخميني فرضها رسميا على الدولة والمذهب حيثما تواجد، وليس في إيران فحسب.

وفي كتابه عن « الحكومة الإسلامية – ص11،12»، يتحدث عن « ولاية الفقيه» قائلا: « إن العقلاء بفطرتهم يعتبرون في الحاكم كونه عاقلا أمينا عالما برموز السياسة والتدبير قادرا على التنفيذ والإجراء، … وعلى هذا فالأمة الإسلامية حسب اعتقادها بالإسلام وقوانينه العادلة الجامعة تتمنى أن يكون الحاكم عليها والمهيمن على شؤونها رجلا عاقلا عادلا عالما برموز السياسة قادرا على التنفيذ، معتقدا بالإسلام وعالما بضوابطه ومقرراته، بل أعلم فيها من غيره، ولا نريد بولاية الفقيه إلا هذا. وهذا العنوان كان ينطبق عندنا في عصر ظهور الأئمة (عليهم السلام) على أئمتنا (عليهم السلام) عترة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبواب علمه وفي عصر الغيبة ينطبق على من تفقه في الكتاب والسنة وعرف أحكامها. وبهذا البيان يظهر لك أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط التي أشرنا إليها أمر يتمناه ويطمح إليه كل من اعتقد بالإسلام وجامعيته حسب عقله وفطرته. وليس معنى ولاية الفقيه تصديه لجميع الأمور بنفسه، بل هو يفوض كل أمر إلى أهله من الأشخاص أو المؤسسات مع رعاية القوة والتخصص والأمانة فيهم ويكون مشرفا عليهم هاديا لهم، مراقبا لهم بعيونه وأياديه ومسؤولا عن أعمالهم لو تساهلوا أو قصروا، ويشاور في كل شعبة من الحوادث والأمور الواقعة المهمة، الخواص المضطلعين فيها، حيث إن الأمر لا يرتبط بشخص خاص حتى يكون الاشتباه فيه قابلا للإغماض عنه، بل يرتبط بشؤون الإسلام والمسلمين جميعا وقد قال الله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾، (الشورى: 38)، وإذا كان عقل الكل وخاتم الرسل خوطب بقوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾، ( آل عمران: 159)، فتكليف غيره واضح وإن تفوق ونبغ».

وفي قراءة الشيخ مصباح يزدي للولاية المطلقة في كلام الخميني[103]، ينقل عنه القول:

   « وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فانه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي ) صلى الله عليه وآله(  منها، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول ) صلى الله عليه وآله( ، وأمير المؤمنين )عليه السلام) على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة»، (الحكومة الإسلامية ص 49).

ويقول أيضا في ( شؤون وصلاحيات « الولي الفقيه» من كتاب البيع ج2، ص466): « فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان لرسول الله والائمة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين ولا يلزم من ذلك أن تكون رتبتهم كرتبة الأنبياء أو الأئمة (عليهم السلام) فان الفضائل المعنوية أمر لا يشاركهم (عليه السلام) فيه غيرهم».

وفي نفس الكتاب (ص 467) يقول الإمام: « فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة (عليهم السلام) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة ولا يعقل الفرق، لأن الوالي. أي شخص كان. هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية والآخذ للخراج وسائر الماليات والمتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين».

ويقول في موضع آخر: « وعلى ذلك يكون الفقيه في عصر الغيبة ولياً للأمر ولجميع ما كان الإمام (عليه السلام) ولياً له، ( ص 496). ويقول كذلك في موضع آخر: « ثم إن المستحصل من جميع ما ذكرناه أن للفقيه جميع ما للإمام (عليه السلام) إلا إذا قام الدليل على أن الثابت له (عليه السلام) ليس من جهة ولايته وسلطنته بل لجهات شخصية».

بدأت قصة صعود الخميني وأفكاره في مطلع ستينات القرن العشرين. فقد اعتقل في أعقاب ما عرف سنة 1963 بـ « الثورة البيضاء»، التي أعلن الشاه بموجبها حزمة مما سمي بالإصلاحات، ذات النزعة التغريبية الفجة، والتي تسببت باحتجاجات شعبية دموية. وجاء الاعتقال على خلفية جملة قيل أن الخميني وصف الشاه بها بأنه: « رجل بائس سيئ». ثم أفرج عنه ووضع تحت الإقامة الجبرية لمدة ثمانية شهور، ثم اعتقل أواخر العام 1964، قبل أن يتم نفيه خارج إيران، ليعود، بعد 14 عاما قضاها في المنفى، قائدا للثورة الشعبية التي أطاحت بالشاه سنة 1979.

ما بين الإعلان عن « الثورة البيضاء» وسقوط الشاه، شهدت إيران مرحلة استبداد على شاكلة مصطفى

كمال أتاتورك في تركيا. لذا فقد ظهرت ردود فعل قوية من علماء ومفكرين إيرانيين من بينهم الخميني الذي كان ينشط باتجاه بديل إسلامي للتغريب الشاهنشاي. وبدأت الفكرة بالقول أن: « الإسلام يتطلب حكومة إسلامية يتزعمها ولي فقيه، أي كبار فقهاء القانون الإسلامي، في سلسلة محاضرات في أوائل سنة1970، صدرت فيما بعد في كتاب، بين الخميني أن المذهب الشيعي يتطلب الانصياع لقوانين الشريعة وحدها، وفي سبيل ذلك، لا يكفي أن يقود الفقهاء جماعة المسلمين، بل عليهم أن يقودوا الحكومة أيضاً». أما الكتاب فقد « انتشر على نطاق واسع في الأوساط الدينية، خاصة بين طلاب الخميني والملالي، وصغار رجال الأعمال، وراح هذا الفريق يطور ما سيصبح شبكة قوية وفعالة من المعارضة داخل إيران، مستخدمة خطب المساجد، وتهريب شرائط تسجيلات صوتية للخميني وطرق أخرى».

يقول الموسوي أن غياب البديل، بفعل الاعتقالات والقمع الشاهنشاهي، وليس الكفاءة، كان السبب الذي دفع المعارضة الإيرانية لاختيار الخميني كواجهة يمكن تقديمها للمجتمع الإيراني. ولم يكن أحد ليتصور أن يغدو هذا الاختيار هو الكارثة المنتظرة بعينها[104]. لكن إذا كان الشاه بهلوي خرج عن « الخط العقدي» لـ « الإمامية»، بانتهاجه فلسفة التغريب، إلا أنه لم يخرج عن « الخط الزمني» لفارس. أما الخميني فلم يخرج عن أي من الخطين، فيما استحدثه من « ولاية الفقيه». ولا ينفي هذا أن « ولاية الفقيه» لا تزال مسألة خلافية بين تيارين في « الإمامية»، أحدهما، وهو المهيمن، يؤيدها بشدة ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، والثاني يعارضها، ويعتبرها الأداة الاستبدادية التي تحكم الإيرانيين بقوة السلطة وأدواتها وليس بدعواها الفقهية أو العقدية.

تقول المادة الخامسة من الدستور الإيراني: « في زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقًأ للمادة 107». أما الفقرة الأولى من المادة 115 فتشترط: « أن يكون رئيس الجمهورية إيراني الأصل ويحمل الجنسية الإيرانية»! وهذا يعني استبعاد كافة القوميات من منصب الرئاسة دستوريا. ومع ذلك فالسؤال: لماذا حضرت جنسية الرئيس وغابت جنسية « الولي الفقيه»؟ الأمر ببساطة: لأن الذين وضعوا الدستور وقعوا في مآزق شتى، وتناقضات فاضحة، مثلما هو الحال في عقائدهم ورواياتهم.

فالخميني يمكن أن يكون هنديا أو بريطانيا أو من أية قومية أخرى، إلا أنه بالتأكيد لم يكن فارسيا أبدا. والتنصيص على الجنسية الإيرانية لـ « الولي الفقيه» سيؤدي إلى إخراجه من « الولاية» برمتها. لكن تجنب التنصيص على الجنسية لن يكون الحل السحري في تجنب الحرج، بقدر ما سيؤدي إلى فضائح أخرى لا تتوقف عن الانكشاف. فباعتبار « الولي الفقيه»، إماما لعموم المسلمين، وطاعته واجبة، فهذا يؤشر على أن الدستور، من المفتلرض، أنه لا يمانع بأن يحمل أية جنسية أخرى، كأن يكون مثلا مسلما ماليزيا أو إندونيسيا أو أفريقيا أو أوروبيا أو أمريكيا. لكن؛ هل سيصمد مثل هذا الاعتبار أمام المادة 12 التي تقول بأن: « الدين الرسميلإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنا عشر، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير»؟ بالتأكيد لن يصمد حتى لحظة واحدة! فعن أي مسلمين أو إمام يجري الحديث إذا كان النص الدستوري مذهبي وحتى طائفي وعنصري؟ وما هي هوية الثورة التي يطالب الدستور و« الولي الفقيه» بتصديرها؟

وبما أن الخميني بزعمهم ينتسب إلى سلالة الإمام موسى الكاظم، فهو بالتالي عربي! ومن المفارقات العجيبة فإن التنصيص على الجنسية الإيرانية، بالمحصلة مثل عدمه، سيخرجه أيضا من « الولاية». والأسوأ من ذلك أنه سيقصي منها كل فقيه يحمل لقب « السيد». وبدلا من أن يكون الانتماء لآل البيت نعمة يمتطون بموجبها ظهور العامة والخاصة والدهماء، فسيغدو لعنة تطارد من يجاهر بها. ولحل هذه المعضلة يلجأ القوم إلى قاعدتهم الذهبية التي تقول: « قبلنا الإسلام ولم نقبل العربية»! وهي تعني أن آل البيت مسلمون وكفى، وبالتالي فليس ثمة حاجة لمجرد الحديث عن أصولهم العربية، وهو منطق ثقافي عميق يتحصن في قعر فارس العنصرية، والحاقدة على الإسلام .. منطق يقضي بأن تحضر الفارسية على الدوام، فيما تغيب العروبة حتى عن « آل البيت». وبهذه الثقافة تمتزج أسطورة الحق الإلهي في « الولاية»، سواء في ظل الإسلام، عبر أطروحة « آل البيت»، أو في ظل كورش ويزدجر وسلالات الأباطرة الفرس!!!

لذا لم تكن « ولاية الفقيه» بدعة خمينية صرفة كما جرى الترويج لها. وما فعله الخميني من وضعها موضع التنفيذ هو استعادة صفوية لها بامتياز. وبالتالي فهي عدوان صريح على الإسلام والمسلمين، لا يناظره في الضراوة حتى الدولة العبيدية. أما أصل الفكرة فتعود بدايةً إلى الشيخ محمد بن مكي الجزيني (743 – 786هـ)، صاحب كتاب « اللمعة الدمشقية»، حيث وردت لأول مرة عبارة « نائب الإمام». فقد تلقى هذا دعوة من علي مؤيد، آخر ملوك الدولة السربدارية في خراسان بدءً من سنة ٧٦٦هـ. إلا أن الجزيني عجز عن السفر، واكتفى بإرسال كتابه كدليل يسترشد به فقهاء الشيعة. أما الفكرة فظلت طي الكتاب لأكثر من 200 عام[105].

يبدو أن الشاه إسماعيل، لما رام فرض التشيع على فارس والناس، فضلا عن التوسع في الجوار، تعرض لعقبة مذهبية في الإثنا عشرية، تحول بينه وبين الجهاد قبل خروج المهدي. ولعله وجد بداية أمره في التصوف ضالته الأولى في التغلب على المشكلة. وفي السياق ينقل بن صالح المحمود عن بعض المصادر الشيعية، رواية تقول بأن: « الشاه إسماعيل كان مع أتباعه الصوفية في الصيد في منطقة تبريز، إذ مرّ بنهر فعبره لوحده، ودخل كهفاً ثم خرج متقلداً بسيف، وأخبر رفقاءه: أنه شاهد في الكهف المهدي، صاحب الزمان، وأنه قال له: لقد حان وقت الخروج، وأمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض .. وشدّ حزامه بيده ووضع خنجراً في حزامه وقال له: اذهب فقد رخصتك»[106]. وبالتأكيد لم يكن هذا كافيا، لاسيما وأن فارس بالكاد كان يوجد فيها كتاب عن التشيع، فضلا عن قلة العلماء والشيعة. وهو ما دفعه للاستعانة بعلماء جبل عامل في لبنان. وهكذا بدت الطريق ممهدة لصاحب لقب « مخترع الشيعة»، الشيخ نور الدين علي بن عبد العالي الكركي، كي يتلقى دعوة من الشاه إسماعيل، للقدوم إلى إيران سنة 916هـ. وقد ابتدع في البداية فكرة « نيابة عامة للفقهاء»، تُعنى بشؤون المذهب واحتياجات الأتباع، لكنه فيما بعد جعلها نيابة سلطة، يتولاها الفقيه بوصفه « نائب الإمام الغائب» بالوكالة[107]. لذا وبعد وفاة إسماعيل غدا الكركي نائبا عاما للإمام المهدي، وصاحب صلاحيات مطلقة، اقتصادية وسياسية ودينية في الدولة الشيعية الجديدة، إلى درجة أن الشاه طهماسب كان يعتبر نفسه نائبا له أيضا[108].

وبحسب المصادر الفارسية المعاصرة حول أصول مفهوم « ولاية الفقيه» فالتركيز يقع على الشيخ الكاشاني، آية الله أحمد النراقي، الذي توفي سنة 1245هـ. وتقول الشمراني أن: « الشيخ النراقي له الفضل في صياغة الفكرة وتفصيلها، وإنْ نُسبت صياغة العنوان إلى الشيخ ابن مكي الجزينى»، إذ أنه عمل على: « تعزيز دور الفقيه، ودعا إلى تبوئه مركز السلطة بطرحه نظرية ولاية الفقيه، بصيغة تعد خرقا للإجماع الشيعي في مسألة الولاية، في أول الأمر، وقد أثبت النراقي للفقيه كل ما هو للنبي والإمام، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما، وكان يدعو إلى الولاية المطلقة»[109].

سؤال: ما حاجة الشيعة لـ « ولاية الفقيه»؟

تؤمن « الإمامية» بوجود اثني عشر إماما، أولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وآخر ذريته محمد المهدي. وهذا الأخير هو في الحقيقة « المهدي المنتظر» عند الشيعة. وتزعم الرواية الشيعية أنه غاب غيبتين:

الأولى: هي التي تسمى بـ « الغيبة الصغرى». وتبدأ منذ لحظة ولادته، التي كانت سنة 255هـ، أو بوفاة والده الحسن العسكري سنة 260هـ. واستمرت إلى سنة 329هـ. أي مدة 69 سنة. كان الإمام خلالها يتواصل مع شيعته عبر ما سمى بـ « السفراء الأربعة أو النواب أو الوكلاء».

الثانية: هي « الغيبة الكبرى»، فتبدأ من سنة 329هـ إلى حين ظهوره. وتبعا لذلك فقد انقطع التواصل بينه وبين شيعته. ولم يعد ثمة سفراء ولا وكلاء يشكلون أية حلقة وصل بينه وبين شيعته. ويرجع سبب هذه الغيبة إلى خشيته من القتل على أيدي العباسيين الذين كانوا يتربصون به، ويفتشون عنه حتى قبل ولادته لقتله. ونظرا لتعاظم الخطر على حياته فقد اضطر إلى الاختفاء في سرداب بمدينة سامراء العراقية، حيث ولد هناك.

وتُعلق « الإمامية» كل دينها على هذه الأسطورة. فلا جهاد ولا صلاة جمعة ولا هذا ولا ذاك إلا أن يظهر « الإمام الغائب». أما لماذا فكرة « الإمام الغائب» هي محض أسطورة؟ فلأن الإمام العسكري كان عقيما أصلا! ومات شابا ولم ينجب قط. ولم يرد ذكر « الغائب» في المصنفات التارخية بقدر ما أكدت على عدم ولادته وعقم والده المفترض. والعجيب أنه ولد واختفى في الوقت الذي ظهرت فيه الدولة البويهية (322هـ – 454هـ / 933م – 1066م)، حيث كان بإمكانه الاحتماء بها من أعدائه وخصومه المفترضين. كما كان بإمكانه الاحتماء بالدولة العبيدية. وتوفرت له فرصة أعظم حين ظهرت الدولة « الصفوية» (1501م – 1736م)، باعتبارها أول دولة شيعية إمامية! بل أن الفرصة مواتية لظهوره الآن في عهد دولة « ولاية الفقيه»! ومع ذلك لم يفعل. فلماذا؟

الجواب ببساطة: لأنه وهم، غير موجود إطلاقا. أما « المهدي المنتظر» فهو شخصية كائنة لدى « اليهودية» و« النصرانية» والإسلام. وأحاديث الملاحم والفتن كثيرة في كتب الرواة، لكن المسلمين لا يتوقفون عندها كثيرا، ولا يعلقون إقامة الدين عليها، بخلاف « الإمامية». ولا ريب أن أعجب ما في الأمر أنه بدلا من دعوته للخروج من سردابه جاءت « الصفوية» و« الخمينية» لتحكم الإغلاق عليه عبر فكرة « ولاية الفقيه»! وغدا الاجتهاد في وراثة صفاته وقدراته وفضله ومصادرة صلاحياته مغنما[110]! حتى أنه لم يبق له من الأمر شيء إلا أن يتوسل تحريره أو ينتظر الفرج! وهذه نتيجة منطقية لنظرية « الإمامية»، باعتبارها حركة إدارية للمذهب في مواجهة الإسلام، وليست تحقيقا للحق والعدالة. إذ أن نظرية « الإمام الغائب» هي، في المبدأ والمنتهى، المبرر الوحيد الذي يُمكِّن « الإمامية»، وطبقة الكهنوت، من الاستمرار بدعواها إلى أن تقوم الساعة. وبالتأكيد لو حضر « الغائب» سيبطل التيمم، وتنتهي « الإمامية». بينما الإسلام لا شيء يوقفه أو ينقص من قدره. فهو باق إلى قيام الساعة سواء ضعف المسلمون أو تمكنوا .. وسواء ظهر « المهدي المنتظر» أو لم يظهر.

تحتاج « الإمامية» لـ « ولي فقيه»، لأنها تدرك يقينا أن « المهدي المنتظر» مجرد أسطورة[111] .. لكنها تكبح جشعها، في تحقيق المكاسب المادية والمعنوية، طالما ظلت شؤون الطائفة والمذهب حبيسة عقيدتي « التقية» و « الانتظار». أما التوسع والثأر والانتقام من المسلمين، والتحالف مع الأعداء، والخروج على الدولة الإسلامية، وارتكاب الموبقات، وإشاعة الزندقة والإلحاد، ووقف الجهاد وتعطيل الجماعة، ومخالفة العامة في دينها، والطعن في ذات الله، جل وعلا، واتهام الرسول r، بالعجز والتقصير، وسب ولعن الصحابة، والمس بأعراض آل البيت … فهي أمور لا تحتاج إلى ولي فقيه. فالأحداث والنصوص والوقائع التاريخية تشهد عليها. لكن إذا تم التخلص من « التقية» و « الانتظار» فسيكون من اليسير وراثة « الإمام الغائب» في مكانته وصلاحياته، بحيث تغدو السيطرة على السلطة الدنيوية، باسم الحق الإلهي، من أعظم المكاسب التي يمكن أن تحققها طبقة الكهنوت. بل أن نظرية « ولاية الفقيه» ستعمل على تحرير الطبقة مما قيدت به نفسها تاريخيا، ويجعلها طليقة السراح في أن تفعل ما تشاء بعيدا عن أية قيود مذهبية. وهكذا كان. وفي هذا السياق لا ينفع القول بوجود معارضة قوية أو ضعيفة لدعوى « ولاية الفقيه». فطوال التاريخ كان التشيع يتقدم نحو دين وضعي جديد، دون أن يتوقف في لحظة مراجعة واحدة. فبأي عقيدة أو منطق سيتراجع الآن أو مستقبلا؟

في مستهل المادة الثانية عشر من الدستور الإيراني، نقرأ ما يلي: « الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنا عشر، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير». ولا ريب أن كل ما في نص المادة يثير العجب، إلى حد الفضيحة التي لا يمحوها كل التاريخ، إلى أن تقوم الساعة. فالملاحظة الأولى تكمن في العبارة التالية: « الإسلام و المذهب الجعفري»! وكأن إيران تعترف رسميا، وبأرفع نص، أقرته « ولاية الفقيه»، أن فيها دينان هما الإسلام و المذهب الجعفري». أما الملاحظة الثانية التي لا تقل فداحة عن الأولى، فهي التي جاءت في العبارة التالية: « وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير»!!! أي أنها لن تتغير طالما بقيت « ولاية الفقيه» قائمة، وطالما أن « الإمام الغائب» لم يظهر. أما الملاحظة الثالثة فهي العبارة البينية « إلى الأبد». فإذا كانت المادة قد صممت لتبقى « إلى الأبد»، فالسؤال: ما هي « حدود» الأبد؟ هل هي حين ظهور « الإمام الغائب»؟ أم في قيام الساعة؟

ما قرأناه عن الدستور ويعرفه المتخصصون أن صياغته تحتاج إلى فقهاء وعلماء ومتخصصين في السياسة

والاقتصاد والتاريخ والاجتماع والثقافة والجغرافيا، وخبراء لغات ولهجات وقوميات وإثنيات ومذاهب، ومحترفين شرعيين وقانونيين، وممثلين عن علية القوم، يدققون بكل حرف وكلمة وموضوع وشأن. ثم يتم عرض النص على العامة من الناس في وسائل الإعلام لتلقي ردود الفعل والآراء، وتوزيعه على المؤسسات والدوائر المعنية، قبل أن يتم التصويت عليه واعتماده ونشره في الجريدة الرسمية. فهل غفل كل هؤلاء عما لاحظناه في المادة 12؟ هل هي سقطات لغوية في النص؟ أم خطأ في الترجمة من الفارسية إلى العربية؟ أم جهل في اللغة العربية؟ أم هي الحقيقة التي يؤمن بها الشيعة؟ وكيف يمكن أن يكون السقوط في نص دستوري مدويا بهذا الحجم والمستوى[112]؟

بحسب المادة الخامسة من الدستور نقرأ النص التالي: « في زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقًأ للمادة 107». وهنا يعطي « الولي الفقيه» لنفسه صفة « الولاية» المطلقة على من يفترض أنهم القاصرين. وليس ثمة قيمة لما ورد في المادة 107 وهي تقول: « يتساوى القائد مع كل أفراد البلاد أمام القانون»، طالما أن « المادة 110» تعطيه كل الصلاحيات في:

1) « تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام.

2) الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام.

3) إصدار الأمر بالاستفتاء العام.

4) القيادة العامة للقوات المسلحة.

5) إعلان الحرب والسلام والنفير العام.

6) نصب وعزل وقبول استقالة كل من:

أ- فقهاء مجلس صيانة الدستور.

ب- أعلى مسؤول في السلطة القضائية.

جـ- رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية.

د- رئيس أركان القيادة المشتركة.

هـ- القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية.

 

و- القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.

7) حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاثة.

8) حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.

9) إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب. أما بالنسبة لصلاحية المرشحين لرئاسة الجمهورية من حيث الشروط المعينة في هذا الدستور فيهم، فيجب أن تنال قبل انتخابات موافقة مجلس صيانة الدستور، وفي الدورة الأولى تنال موافقة القيادة.

10) عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية على أساس من المادة التاسعة والثمانين.

11) العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية. ويستطيع القائد أن يوكل شخصا آخر أداء بعض وظائفه وصلاحياته.

لعل الموسوي كان محقا حين قارن بين دستور الشاه وهو ينص على أن: « الملكية وديعة الهية أعطاها الله

 للملك عن طريق إرادة الشعب التي تجلت في الاستفتاء العام»، وأحد بنود المادة 110، ربما قبل تعديل سنة 1989، وبحسب الموسوي، تنص على أن: « ولاية الفقيه سلطة إلهية أعطاها الله للفقيه عن طريق إرادة الشعب التي أقرها في الاستفتاء العام»[113]. فما الفرق إذن بين ولاية الشاه وولاية الخميني، إذا كان كلاهما يتمتع بسلطة إلهية ولو نسبية؟ لنتابع الأمر مع خليفة الخميني، لنرى إنْ كان سيفرط بما ورث؟ أم سيحشد ما استطاع من الأساطير للحفاظ عليه من سلطانه المكتسب؟

ففي الانتخابات الرئاسية سنة 2009 بدا أن المرشد علي خامنئي داعما لولاية ثانية يتولاها أحمدي نجاد، رغم أن كل المعطيات كانت تشير إلى فشله أمام خصمه مير حسين موسوي. لكن ما أن تم الإعلان عن فوز نجاد حتى اندلعت انتفاضة شعبية هي الأعنف في تاريخ جمهورية « ولاية الفقيه». وبدت الانتفاضة في المبدأ والمنتهى ضد « الولي الفقيه» نفسه، الذي أكد فوز نجاد، وغطى على ابنه مجتبى، الذي أشرف على أضخم عملية تزوير لنتائج الانتخابات. لكن بعد أقل من عام على الاحتجاجات، والتنكر لأطروحات « الإمام الغائب» وقرب ظهوره، وكذا الأساطير التي تم ترويجها من جهة ونقضها وإعلان الحرب عليها من جهات دينية أخرى، خرج خامنئي لأول مرة، وفي معرض رده على استفتاءات حول « ولاية الفقيه»، ليفتي على الملأ بما يلي:

    « وفقا للمذهب الشيعي، يجب على جميع المسلمين طاعة الولي الفقيه والخضوع لأوامره، وتنطبق هذه الفتوى أيضا على الفقهاء الشيعة الآخرين ناهيك عن تابعيهم. وفي منظورنا، يعد الالتزام بحكم الفقيه جزءً لا يتجزأ من الالتزام بالإسلام وحكم الأئمة المعصومين».

ولا ريب أن أميز وأغرب ما في الفتوى أنها صدرت « وفقا للمذهب الشيعي»! وليس « وفقا للدستور»، الذي يبدو أنه خضع لتقية ما، عن حقيقة السلطة التي يتمتع بها « الولي الفقيه»، أو على الأقل تم تجاوزه كلية. ولا ريب أن هذا التصدير أثار حفيظة الحوزات الدينية، التي بدت الفتوى وكأنها تسعى صراحة لإخضاعها إلى سلطته[114]، خاصة وأن ولايته مقيدة بحدود ضيقة. وعلى وقْع التشكيك بأهليته ونزاهته، منذ تولى خلافة الخميني في « ولاية الفقيه»، مما يعني أن فتاواه ليست محصنة، شرعيا وموضوعيا، بما يكفي لمواجهة المراجع العليا، اضطر إلى سحب فتواه من كافة المواقع الإلكترونية! فهو لم يتمتع بلقب « آية الله» ولا بلقب « المرجع الأعلى» الذي حصل عليها بالضغوط أواخر العام 1994. بل أن أكثر ما ناله من الألقاب هو « حجة الله».

ومع ذلك، وخلال المعمعة، تواصلت مهرجانات الدعم والتنصيب من طبقة الكهنوت، للولي الفقيه الجديد،

بسلطاته وصلاحياته الإلهية، المعززة باسم « الله» و « المذهب» و « الإمام الغائب». وخرج سكرتير مجلس صيانة الدستور الإيراني، أحمد جنتي، في 27/7/2010، ليؤكد على ما سبق وأفتى به خامنئي واصفا إياه بأنه: « ذخر لأيام الضيق» وأنه مثلما: « كما كان الإمام علي حامي حماة الإسلام القرآني المحمدي فاليوم يقوم ولي الفقيه بنفس المهمة وإلا لم يبق شيء من الإسلام». وفي غمرة الاحتفالات بمولد « المهدي المنتظر»، وردا على من ينفي وجوده، قال جنتي أنه: « يعرف أشخاصا التقوا بإمام الزمان (المهدي المنتظر) وأحدهم يدعى ميرجهاني حيث التقيت به أنا شخصيا»[115]. ومع أن التواصل، بحسب «الإمامية» ذاتها، انقطع مع « الإمام الغائب»، بعد « الغيبة الكبرى»، إلا أنه يبدو أن أحد الذين التقاهم جنتي هو ذاك « السفير الخامس» الجديد، الذي تحدثت عنه صحيفة « القبس – 28/1/2011» الكويتية. فقد نقلت عن الشيخ الهمداني زعمه أنه « التقى مؤخراً الإمام الغائب … »، وأنه سأله عن « مكانة وسمعة السيد خامنئي»، فقال الإمام المهدي للشيخ همداني: « إنه من آل البيت ويجب على الجميع طاعته من دون تردد ومن دون أي شك، وكل من يعارضه فهو منافق أو كافر». كما نقلت « القبس» عن صحيفة « روز – 13/5/2011» الإيرانية تصريحا لقائد الحرس الثوري يقول فيه: « من يعارض المرشد يعارض الله والرسول وعلاقة نجاد مع المرشد مثل علاقة السيد وعبده». وأدلى آية الله محمد تقي مصباح يزدي بأقوال شركية جسيمة، من نوع: « إن طاعة رئيس الحكومة هي من طاعة الله … إن سلطة الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي تأتي من الله وليس من الشعب … طاعة الولي الفقيه من طاعة الغائب التي هي من طاعة الله، ما يجعل الخروج عليه ومعارضته نوع من أنواع الشرك بالله». وفي «عناصر الإحياء في نهضة الخميني» للرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، ورد فيه … أن: « الحكومة، التي هي جزء من الولاية المطلقة لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أحد أحكام الإسلام الأولية، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصيام والحجت.. ومن الممكن أن يعطل أي أمر، عبادياً أو غير عبادي إذا ما تعارض مع مصلحة الإسلام، … وإن كل ما قيل حتى الآن، وما سيقال في المستقبل، ناجم عن عدم معرفة الولاية الإلهية المطلقة حق معرفتها»[116]. ولعل آخر الصيحات التي باتت في متناول البحث، ما نقلته وكالة « رسا» التابعة لحوزة قم، عن إمام جمعة طهران، كاظم صديقي، حين قال بأن « الإمام الثاني عشر للشيعة أوصى باتباع وطاعة أوامر الولي الفقيه». وأن الإمام المهدي قال بأن « الولي الفقيه هو حجتي عليكم»، مشددا على أن « خامنئي هو حجة الله على الأرض حالياً، لأنه نائب المهدي، والإمام ينوب عن الله أيضاً»[117].

أكثر تجليات الحضور الفارسي في جمهورية « ولاية الفقيه» لدى عامة المسلمين كان في علم الجمهورية الذي تم اعتماده في 29/7/1980. فما من علاقة موضوعية واضحة تربطه في الإسلام بقدر ما يحاكي شعاره ذات الشعار الكائن في علم طائفة «السيخ» في الهند! المنطقة والطائفة الأكثر شيوعا في نسبة أصول الخميني إليهما. ففي المادة 18 من الدستور: « يتألف العلم الرسمي لإيران من الألوان: الأخضر، والأبيض، والأحمر رمز الجمهورية الإسلامية وشعار (الله أكبر) ».

      أما الألوان فهي ذاتها في علم مملكة الشاه. وبالنسبة لشعار « الله أكبر» ( هكذا بالخط الكوفي)، الذي يمتد على حافتي المستطيلين من الداخل فقد جاءت غامضة، كما لو أنها إطار زخرفي، بل أن نوع الخط ليس كوفيا كما ورد في تعريف موسوعة « الويكيبيديا»، وليس فيه أثر من خط « النستعليق» الفارسي، ولا بطبيعة الحال الحرف العربي. ولا ريب أن أي معاين للعلم سيلاحظ تلقائيا أن الشعار هو ذاك الشكل الهندسي الذي يتوسط العلم، وليس العبارة الزخرفية التي يقول الدستور أنها « الله أكبر».

أما الشكل الهندسي للعلم فلم يأت الدستور على ذكره لا من قريب ولا من بعيد. ولأنه الشكل الوحيد والأميز في العلم فقد كان من الأولى التنصيص على المعنى الذي يحتويه. ولأنه تجاهل الشكل تماما فقد نشطت الاجتهادات في تحليله. فهناك من يقول بأن الشكل هو اسم « الله» الأعظم، وهناك من يقول أنه اسم الإمام « علي»، رضي الله عنه، وثالث يقول بأنه عبارة التوحيد « لا إله إلا الله». وهناك من يدلل على أنه مستوحى من علم الطائفة « السيخية»، فالشكل يبدو من حيث التصميم أقرب إليه من أي تأويل آخر. كما أنه يحاكي علم الشاه. وكل ما في الأمر أنه تم استبدال الشكل الهندسي من أسد يحمل سيفا إلى شعار السيخ. وهكذا يكون الجميع قد قال كلمته في العلم إلا الدستور! لكن هل غفل المشرعون عن علم الطائفة « السيخية» كما « غفلوا» في مواد الدين الرسمي لإيران وجنسية الرئيس وصلاحيات « الولي الفقيه»!!؟

الراجح أنهم لم يغفلوا عن ذلك. فالعلاقات بين « الإمامية» و« السيخية» جوهرية، من حيث تأثر الطائفتين ببعضهما البعض. فـ « السيخ» كلمة مشتقة من الجذر السنسكريتي، وتعني « التلميذ». وكطائفة، هي مجموعة من الهنود يُنسَب أحيانا تأسيسها إلى شخص يدعى Guru Nanak Dev في ولاية البنجاب الهندية، خلال الفترة ما بين 1469 – 1539. وتشترك مع الرافضة في الدعوة إلى « دين جديد» مستوحى من الإسلام و« الهندوسية»، شعاره « لا هندوس ولا مسلمين». وبحسب أقدم الوثائق « السيخية» المكتوبة باللغة الفارسية، ثمة أدلة بالغة على أن الفرس المجوس، وتحت ظلال الصوفية، نجحوا في خلق الطائفة « السيخية»[118]، التي حذت حذو « المجوسية»، ونكاية في « الهندوسية»، في استحداث دين جديد من الإسلام. وأظهرت، كما « الهندوسية»، عداء شديدا للإسلام والمسلمين. أما الفرق بينهما فهو أن الطوائف الهندية نشطت، ولمّا تزل، ضد المسلمين في الداخل الهندي، في حين نشطت « المجوسية» في الداخل الفارسي والخارج، وفي صلب الدين الإسلامي.

الأهم في المسألة أن العلم الإيراني هو نسخة منقحة من الشعار السيخي، قام بسرقته  معهد الخميني الدولي «Khomeini IRI». وأن الشكل الهندسي، هو في الحقيقة شعار « كاندا» السيخي. ويورد الكاتب الفارسي Ahreema في كتابه « Pictorial History of Iranian Flags = التاريخ المصور لرايات إيران» صورا عديدة لأعلام إيران، وتفاصيل مثيرة حول علم السيخ ومعاني رموزه. مؤكدا، في الفصل العاشر من الكتاب، بأن الخميني، الهندي الأصل، سرق شعار علم السيخ، الذي لا علاقة له بـ 8000 سنة من التاريخ الفارسي[119].

بعد كل هذا التاريخ المشين لفارس « المجوسية»، وحربها على الإسلام والمسلمين، تأتي جمهورية « ولاية الفقيه» لتستغفل الناس، باسم الله، ولتقول لهم بأن: « الثورة التي يريدها الله شيعية المنطلق إسلامية الصيغة عالمية الاهداف»[120]. فما شأن الله بمثل هذه الثورة؟ وما حاجة المسلمين بثورة عنصرية، في حين أن (1) هويتها ومنطلقاتها مذهبية، وأن (2) شكلها الإسلامي لا يخفي (3) أهدافها توسعية؟

تعليقات

أراء وأقوال

اشترك في النشرة البريدية لمجلة إيران بوست

بالتسجيل في هذا البريد الإلكتروني، أنتم توافقون على شروط استخدام الموقع. يمكنكم مغادرة قائمة المراسلات في أي وقت