وِفْقَ نموذج "الشركات متعددة الجنسيات" كشفتْ إيران النِّقاب في العشرين من أغسطس الجاري 2016 على لسان الجنرال محمد علي فلكي القيادي في فيلق "سيد الشهداء"بالحرس الثوريّ الإيرانيّ عن (جيش التحرير الشيعيّ متعدد الجنسيات) تحت إِمْرَة قائد "فيلق القدس" قاسم سليمانيّ، وهو إعلان تأخر لسنواتٍ طوال عن موعدِ (التَّدشين الفعليّ) والذي تعودُ فكرةُ تأسيسه لعقودٍ سابقة؛ وربّما تكون بداية ميلاده الأولى يوم تأسيس (فيلق بدر) على يد (آية الله الخميني) استعدادً لغزو العراق، وإذا ما عُدنا إلى الوراء أكثر سوف نكتشف أنّ فكرة بناء جيش التحرير الشيعيّ عشيّة تأسيسه (حزب الدعوة)، وتبلورت على يد الشاه محمد رضا بهلوي. وكل ما سبق من معلوماتٍ ليس بجديد!! بينما (الأجدّ) أن نسأل من منطلق (منهجية التحليل السياسي): لماذا أعلنت إيران – في هذا التوقيت - عن وجود هذا التنظيم الدوليّ العابر للحدود، والقوميّات؟ وفي ظرفٍ إقليميّ تتصاعد فيه وتتشابك خيوط وإحداثيات العمليات العسكريّة في (اليمن، وسوريا، والعراق، وتركيا، وليبيا) وتتاعظم فيه الخلافات السياسيّة وصولا إلى حد القطيعة بين العديد من الأنظمة السياسية مشحونةً بهواجسِ طائفيّة، ومنكوبةً بنيرانٍ مذهبيّةِ، ومتدثرةً بتقاليد قبليّة صارمة. ولاشك هناك سيلٌ من الأسئلة تتناسل وتنشطر من السؤال الرئيس أهمها:
(أ) لماذا اختارت إيران هذا التوقيت للإعلان عن (جيش التحرير الشيعيّ) وما هي الأهداف المعلنة والخفية وراء هذا الإعلان؟
(ب) هل الطموحات الإيرانيّة مجرد غلاف سميك يخفي وراءه أطماع الحرس الثوريّ في التمدد خارج نطاقه الجغرافيّ ومحاولة بسط نفوذه في الشرق الأوسط؟
(ت) هل تطمح إيران في التقاط (عصا الراعي الأمريكيّ) واستعادة دور الشرطيّ المفقود من زمن الشاه؟ وماذا تريد إيران من العرب والمنطقة؟
أولا- الأهداف المعلنة والخفيّة لجيش التحرير الشيعيّ:
لقد جاء إعلان القيادة الإيرانيّة عن الهدف من تدشين جيش التحرير الشيعيّ تحت عنوان "تحرير القدس ومحو إسرائيل من خارطة العالم في موعد أقصاه (ربع قرن)" وهو إعلان ليس ساذجًا، ولا زلّة لسان للجنرال محمد علي فلكي! و لم يكن خطوة غير مدروسة بعناية، ولم تكن غايته (استقطاب الجماهير الشعبويّة) من (المتعاطفين مع الجمهوريّة الإيرانيّة) داخل المعسكر الشيعي حول العالم؛ إنّ التصريح بوجود هذا الجيش في هذا التوقيت كان تكتيكًا استراتيجيًا وعسكريًا، وقنبلة دخان كثيف ألقت بها القيادة الإيرانيّة بهدف تحقيق رزنامة من الأهداف الخفيّة، والمعلنة يأتي في مقدمتها:
(أ) تعطيل ووقف تقدُّم فصائل المقاومة على خطوط القتال في الجبهتين (اليمنية والسوريّة)، في إطار نظرية الحرب النفسية، وكذلك إرهاب الداعمين اللوجستيين العرب للكفّ عن دعم المقاومة، ومساندتها وتحويل نظرهم إلى داخل بلدانهم، لحماية أمنهم الداخلي وحدودهم، تحسبًا لأيّة تحركات قد تقوم بها الخلايا النائمة لهذا الجيش في البلدان الداعمة لمعسكر المقاومة والمعارضة عسكريًا وإعلاميًا.
(ب) محاولة إيرانيّة للضغط على المكونات الوطنيّة (الشعبويّة والقبليّة والشرعية) ذات التوجهات السّنيّة في (لبنان، واليمن، وسوريا والعراق) للقبول بالمكوِّن الشيعيّ والانصياع لمنطق قبوله في صدارة المشهد السياسيّ وتربّعه على سُدّة الحكم رغم ارتباطه بالجمهورية الإيرانيّة شكلا ومضمونا في إطار بناء إمبراطوريّة إيرانية تتوسّع يومًا بعد آخر على حساب اللحمة الوطنية تأتمر بأمر طهران وتنصاع لأجندتها.
(ت) يسابق الإيرانيون الزَّمن في الحصول على أكبر قَدْر من (كعكة النفوذ) في الشرق الأوسط، والمطبوخة على (نار الضَّجر الأمريكيّة) من (إشكاليات المنطقة وفوضاها المتخلِّقة معمليًا في مختبرات أروقة الاستخبارات الغربيّة). كما جاء الصمت الأمريكيّ إزاء خطوة الإعلان عن (جيش التحرير الشيعيّ) في إطار التعاون (الأمريكي الإيراني) للضغط على العواصم العربيّة للانصياع للشروط الأمريكيّة، وممارسة مرحلة جديدة من (الابتزاز الاقتصاديّ)، و(دعم مصانع السلاح الأمريكيّة)، و(الاستجابة للضغوطات الأمريكيّة) في العديد من الملفات الساخنة في المنطقة.
(ث) يأتي الإعلان عن تدشين (جيش التحرير الشيعيّ) في إطار التفاهمات الأمريكية الإيرانيّة على حاشية (الاتفاق النووي مع مجموعة 5+ 1) " بالتعاون (الإيراني الأمريكيّ) في محاربة التنظيمات الإسلاميّة المسلحة، وفي القلب منها (تنظيم الدولة الإسلاميّة) في العراق وسوريا واليمن. وهو ما نفته قيادة البلدين إبان التوقيع على الاتفاق.
(ج) إحداث تغييرات ديموغرافية في (سوريا والعراق واليمن) بإرهاب المدنيين والمواطنين السُّنّة لإجبارهم على النزوح وإحلال عناصر شيعيّة متعددة الجنسيات في المناطق السنيّة؛ حيث طلبتْ إيران من حركة أحرار الشام الموافقة على خروج سكان الزبداني (السنيّة) وإحلال السكان الشيعة من “كفريا” و”الفوعة” مكانهم. في إحدى جولات التفاوض في ميدان المعركة.
(ح) ربّما جاء الإعلان الإيرانيّ عن هذا (الجيش الطائفيّ) انطلاقًا من أدبيات (نظرية المؤامرة الغربيّة) وجزءًا من مخطط (روسيّ أمريكيّ إيرانيّ) لإشعال منطقة الشرق الأوسط وِفْقَ ما ورد في أهم كِتَابيَّ: (صِدَام الحضارات)، و(نهاية التاريخ) وبين سطورهما تمّ نسج خُطَّة صراع (الحضارة الغربيّة) مع (الحضارة الإسلاميّة) وإنهائها عبر خطوتين اثنتين لا غير وهما بمثابة (طُّعْم) أَلْقَمَه العمّ سام في سِنَّارتهِ وهو يمدُ رجليه في المياه العربيّة:
(1) الخطوة الأولى: تتحقق عبر الدعوة لإنشاء إنشاء (كيان مركزي للحضارة الإسلامية)، ودعم فكرة بناء دولة إسلامية كبرى (دولة تتبنى مركزيَّة الحضارة الإسلامية) بُحجّة افتقاد الإسلام كديانة كبرى وأولى في العالم إلى دولة مركز واحدة يجعله مكانا للفوضى والنزاعات (داخليا وإقليميا وعالميا).
(2) الخطوة الثانية: ترى بأنّ الصراع على (زعامة المنطقة والأمة) سينتهي بإفشال فكرة إنشاء (دولة إسلامية مركزيّة كبرى) تقوم بدور (المركز للحضارة الإسلامية). ويكون ذلك مصحوبًا بإصرار النخبة الحاكمة على إنشاء معسكرين إسلاميين متصارعين (دولة شيعية وأخرى سنيَّة) وهذا الصراع سيمثل خطرا كبيرا على الحضارة الغربية وبالتالي ليس من حلّ لهذه الإشكالية إلا بإدخال الطرفين (السنيّ والشيعيّ) في حرب ضروس تُنْهِك قوى الطرفين وتجعلهما في تبعية كاملة للحضارة الغربية. بعد دخولهما في بنشوب حرب إقليمية موسعة قد يطول أمدها إلى ما يقارب ثلاثين عامًا وهي وجهة نظر يقول بها ريتشارد. ن. هاس حيث أكد أنّ: "المنطقة تشهد إرهاصات حرب ثلاثين عاما جديدة قادمة" حيث "يصبح من المستحيل التمييز بين الحروب الأهلية والحروب بالوكالة".
ثانيًا - نتائج الإعلان عن جيش التحرير الشيعيّ:
(أ) دخول منطقة الشرق الأوسط في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين إلى ما يسمى بـ"التحالفات الفضفاضة" - وفق تعبير محمد الفطيسي – وهذا النوع من التحالفات التي يكون فيها الحلفاء والأصدقاء في وضع ومكان وزمان معين هم أعداء وخصوم في مكان وزمان ووضع آخر، حيث علاقات الخصومة المتشكلة ستغلب على علاقات التحالف في العديد من القضايا من جهة، وذلك بسبب العدد الكبير من اللاعبين ونوعياتهم وتضارب مصالحهم الجيوسياسية والجيواستراتيجية، والتي تجعل من النظام العالمي القائم نظاما فوضويا ومتناقض التركيب، سريع التقلبات والصدقات والعداوات، في ظل غياب شركاء تحالف يعوَّل عليهم.
(ب) تنامي سباق تسليحي بين العديد من الدول الإقليمية والسعي برامج نووية لأغراض عسكرية، بعيداً عن مراقبة وكالة الطاقة الذرية، بما يهدد الأمن الإقليمي والعالمي.
(ت) إنشاء «تحالف سني موسّع» والتحرك إقليمياً خارج المظلة الأميركية، والعمل جديًا لعزل إيران إقليمياً.
(ث) سوف تكون إيران ملتزمة بتسليح حلفائها وإنفاق مليارات الدولارات سنوياً لملء جيوب مليشياتها في الشرق الأوسط وفق تعبير (خالد كريزم – الخليج أونلاين). بما في ذلك اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وهو ما أكده تقرير خاص للحكومة الأمريكية نشرته في سبتمبر/ أيلول 2015، وأشرف عليه السيناتور مارك كيرك. ويعتمد هذا الرأي على توجّسات ترى في فك العزلة على إيران وعودتها إلى المجتمع الدولي ـ يعد تهديداً مباشراً لنفوذها الإقليمي الذي يتعرض إلى تحدٍ إيراني في ساحات الحرب بالوكالة في منطقة الشرق الأوسط.
ثالثًا - نظريّة بناء جيش التحرير الشيعيّ:
قُبَيل الدخول إلى منطقة الإجابة عن الأسئلة آنفة الذكر لابد من التطرّق إلى (النظرية العسكريّة) التي تمّ تأسيس الجيش على قواعدها؛ وهي في الأساس (نظريّة أمريكيّة) تمَّ تخليقها في مراكز الدراسات الحروب وأروقة الاستخبارات الأمريكيّة تُسمّى [حرب الجيل الرابع 4GW] وهو مصطلح يحوي بداخله عدة (نماذج مصغرة) من الحروب تشمل: (الحرب بالإكراه)، و(إفشال الدولة)، و(زعزعة استقرار الدول)، ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية). ويقتضي ذلك (صناعة تنظيمات وجماعات عسكريّة) ذات (وجه ديني مقيت) ودعمها عسكريًا، ولوجستيا (القاعدة) سابقًا، و(داعش) حاليًا، و(جيش التحرير الشيعيّ) آنيًا، وإدخال تلك المنظمات في صراعات مسلحة مع (أنظمة الحكم) تحت العديد من الصور والأغطية الخادعة طائفيا تارة، ومذهبيًا تارة أخرى.. إلخ. كل هذا في إطار ما يسمى بمنظومة (الحرب الجديدة) الذي أطلقه ماكس مايوراين حيث إن الاستراتيجية الجديدة الآن في الحروب هي التخلي عن فكرة (الغزو) و(الحرب المباشرة بين الدول) نظرا لارتفاع كلفتها المالية والنفسية، وما ينتج عنها من كساد اقتصادي، وما قد تخلفه من حنق داخلي وتأليب للرأي العام المحلي والدولي. واستبدال هذا النموذج الكلاسيكي بنموذج [حرب الجيل الرابع 4GW ].
رابعًا – المخزون البشريّ والسرايا العسكرية لجيش التحرير الشيعيّ:
لقد كانت إيران أكثر حذرًا على مدى تاريخها في (الاحتفاظ بعناصر جيشها الوطنيّ ذي الجذور الفارسيّة) داخل نطاق حدودها السياسيّة والجغرافية، وترى مراكز صنع القرار الإيرانيّ أنه ليس من العقلانية الزج بالقوات المسلحة الإيرانية في صراعات خارج حدودها ولذلك قررت أن تجعل من "المليشيات الشيعية غير الفارسيّة" وقودا لحرب إقليمية كبرى تتمدد على جثثها جغرافيا من الوريد إلى الوريد داخل شعاب الوطن العربي، وفي آسيا فاتخذت من "اللاجئين الأفغان" ويتجمعون في شكل فصائل عديدة عددها يفوق الـ 50 فصيلا – وِفقَ تعبير حسين دلي – وهم المنضوون تحت مسمى "الفاطميون" داخل حدودها (بِنْيَةً تَحْتيّةً) و(عمودا فقريًا) في بناء (جيش التحرير الشيعيّ)، وتعدادهم يناهز 3 مليون لاجيء أفغاني وقد أرسلتْ إيران قوات النخبة منهم للقتال بجانب النظام السوري على وعدٍ منها بمنحهم الجنسية الإيرانية بمقتضى قانون أقره البرلمان الإيراني لهذا الغرض وباعتراف الجنرال محمد علي فلكي فإن "إيران قررت توظيف هذا الجيش" في عمليات خارج الحدود الإيرانيّة مؤكدًا أنه "طيلة 30 عاما كنا ننظر للاجئين الأفغان (شيعة الهزارة) على أنهم قطاع طرق، ولم نستثمر فيهم كوادر وقيادات كما استثمرنا في شيعة لبنان واليمن والبحرين". وباعتراف القائد العام للحرس الثوري الإيراني محمد جعفري فإن (هناك نحو مئتي ألف مقاتل من خارج إيران مرتبطين بالحرس الثوري "مليشيات "زينبيون" الباكستانية، وأما في العراق فتتعدد المليشيات الموالية لطهران، وأبرزها كتائب الخراساني، وحركة النجباء، و"حيدريون" العراقية "، و"حزب الله العراقي" وفي بلاد الشام نجد "حزب الله السوري". "حركة الصابرين نصرًا لفلسطين" في غزة، وقوات "الحشد الشعبي" العراقية، وجماعة "أنصار الله" في اليمن).
وفي الأخير يمكننا القول: يبدو أنّ علاقة أمريكا بحلفائها التقليديين في المنطقة العربيّة بقيادة قد استنفدت أهدافها، ودخلت إسرائيل المستفيد الأول والأخير من الصراع العربي الإيراني على خط الأزمة – وفق تعبير يوسي ميلمان - في صحيفةمعاريف الذي كتب على لسان عدد من الوزراء وأعضاء الكنيست الإسرائيليين الذين تحدثوا في مؤتمر “جيروزاليم بوست”. موؤكدًا بأنّ "أعداء إيران من العرب السنّة تحولوا باتجاه إسرائيل، وتوصلوا معها إلى اتفاقات سرية، عسكرية واستخبارية، تقدر بمئات الملايين من الدولارات" وكذلك علّق الكاتب سمدار بيري: "هكذا ينضج على نار هادئة مربع من المصالح المشتركة بين "السعودية، مصر، الأردن وإسرائيل" في مواجهة محور الشر الإيراني" مؤكدًا أنَّ "الرياض والقدس تريان في نظرة واحدة منسجمة التهديد الإيراني الكبير وإمكانيات الخطر الكامنة في حماس وحزب الله، جرير طهران".