الفصل الرابع
البعث الفارسي (2)
ورقة الحاضر.. جمهورية إيران الإسلامية
بدءً من الانقلاب الذي دبرته المخابرات الأمريكية والبريطانية على حكومة د. محمد مصدق في 19/8/1953، وتنصيب الجنرال فضل الله زاهدي مكانه، دخلت إيران في عهد استبدادي متوحش مع الشاه محمد رضا بهلوي، استمر زهاء ربع قرن، لينتهي بسقوط الملكية في إيران، ورحيل الشاه عنها في 16/1/1979 بعد سنتين من المواجهات الشعبية مع النظام، ( منتصف 1977 – منتصف 1979)، بمشاركة كافة القوى السياسية، العلمانية والدينية. وفي 1/2/1979 عاد الخميني إلى إيران على متن طائرة فرنسية خاصة، مجللا باحترام وحماية فرنسية رفيعة، وغطاء دولي، ودعم إعلامي غير مسبوق، قدمته محطة «BBC» البريطانية، بفرعها الفارسي، ووسط استقبال شعبي حاشد. وهكذا دخلت إيران عهدا جديدا تحت ما يسمى بحكم « ولاية الفقيه».
على متن الرحلة من باريس إلى طهران، تلقى الخميني من أحد الصحفيين، وأمام عدسات الكاميرا، سؤالا اعتياديا، لرجل غاب عن وطنه نحو عشرين عاما، وينتظر استقبالا شعبيا مليونيا، ممن باتوا يرون فيه قديسا ومخلِّصا. أما السؤال فهو: « ما هو شعورك تجاه عودتك مرة أخرى إلى إيران؟» فكان الجواب: « لا شيء» !!! ثم تكرر السؤال مرة أخرى، فبقي الجواب: « لا شيء»[91]!!! فمن هو هذا الرجل الذي لا يأبه لرقابة 150 صحافيا يرافقونه على متن الطائرة؟ ولا لملايين المستقبلين له في المطار؟ ولا يستشعر أية عاطفة أو حنين تجاه ما يفترض أنهم أهله وناسه ووطنه وسماءه وهواءه وتضاريسه؟ ولا لسنوات الغربة والملاحقات والمطاردات والضغوط من هنا وهناك؟ وما الغاية من العودة إنْ لم يكن ثمة ما يستحق ذلك؟
المبحث الأول
أصول الخميني في الروايات الشائعة
أولا: الرواية الشيعية
كعادة الرافضة في الرواية، على اختلاف مناحيها، من شبه المستحيل الحصول على نص قاطع. والسائد هو تعدد الروايات التي تناقض بعضها بعضا. بل أن الرواية الواحدة تنقض ذاتها بشكل صارخ. وقد يستعجب المحقق من فداحة القصور الذي يتجاوز حدود الفضيحة. والمشكلة حين تصل الروايات إلى هذا المستوى يلجؤون إلى حذفها في النسخ اللاحقة، أو ملاحقة النص في شتى وسائل الميديا الإعلامية، وحذفه من الجذور إذا استطاعوا، كما سبق وفعلوا مثلا بسيرة السيستاني على موقع « الويكيبيديا». لكنهم في الغالب يتجاهلون الأمر، وكأنه لا يعنيهم. وأكاد أجزم أنهم يتعمدون سلوك هذا المنهج استجابة (1) لدهمائهم من جهة، و (2) عملا بنظرية غوبلس النازية القائلة: « إكذب ثم إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الناس»، و (3) تشكيك المسلمين بعقائدهم، و (4) أخيرا شحن المسلمين بأقصى قدر من الغيظ على آل البيت، رضوان الله عليهم، بفعل تأليههم وأنفسهم، واتهام الرسول r، بالتقصير في تبليغ الدعوة، ولعن صحابته، والطعن بأزواجه، رضوان الله عليهم. فليعذرنا القارئ على تقسيط رواية قناة « المنار»[92] الشيعية عن أصول الخميني إلى عدة مشاهد، باختصار وبعيدا عن التفاصيل، كي يتسنى لنا الفهم الدقيق لها.
المشهد الأول: هجرة الأجداد إلى الهند
عادة ما يتم نسبة الخميني إلى العرب، ومكة المكرمة، وعلى وجه التحديد إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم، رضي الله عنه (128هـ – 183هـ / 745م – 799م)، الحفيد الخامس للنبي r والإمام السابع وفق « الإمامية». لذا، وللمفارقة فهو عربي أصيل، وفي نفس الوقت يصف العرب بـ « الوحوش»! أما نسبته إلى أصول هندية، فترجعها القناة، بحسب الحلقة الأولى من برنامجها الوثائقي: « روح الله»، إلى أجداده الذين هاجروا من مكة على أن استقر بهم المقام في الهند، منذ أكثر من ألف عام، للعمل على نشر الإسلام في بلاد الهند، وخاصة في كشمير التي صارت موطنهم الجديد. وتستدل « القناة» في روايتها هذه بجد الخميني الثالث المسمى بـ « مير حامد حسين الموسوي»، الذي قتل مع ابنه المسمى « دين علي شاه»، على يد العائلات الإقطاعية، قبل 250 سنة من ولادة الخميني. أي سنة 1652، باعتبار أن الخميني ولد سنة 1902. بل وتدعم « القناة» روايتها بمعالم تاريخية تتعلق بوجود ضريح كبير في الهند للجد الثالث[93].
المشهد الثاني: هجرة الجد الأول إلى إيران
بعد مقتل والده وجده، هاجر « أحمد بن دين علي شاه»، من كشمير إلى النجف، رغبةً منه في تلقي العلوم الدينية، وبعد وقت قصير رحل إلى قرية « خمين» في إيران، وعمل بها قاضيا، بانتظار الحفيد القادم الذي سيتكنى بها.
المشهد الثالث: ولادة الأب
سنة 1864 أنجب الجد الأول « أحمد» مولودا أسماه « مصطفى»، هو والد « الخميني». أي بعد 212 سنة من مقتل جده « مير حامد حسين الموسوي» وأبيه « دين علي شاه»، على يد الإقطاعيين كما قالت « المنار»!!! هذا يعني، بحسب تواريخ القناة، أن أحمد ولد، على الأقل، في نفس العام الذي قتل فيه والده وجده، فضلا عن أنه عاش، على الأقل، 212 سنة حتى ينجب والد الخميني!!! وغني عن البيان أن خط النسب انقطع بين « أحمد» و « مصطفى» بسبب هذا الفارق الزمني العجيب.
المشهد الرابع: ولادة « الولي الفقيه»
بطبيعة الحال فقد تزوج مصطفى. وفي سنة 1902 أنجب الحفيد الثالث لجده الأول وأسماه « روح الله». لكن الشاه رضا خان بهلوي قتله بعد أربعة شهور من ولادة وليده، الذي سيغدو بعد 77 عاما « سيدا، وحاملا لقب وسلطة « الولي الفقيه» للإمامية. وصار الاسم الكامل له، بحسب المصادر الشيعية، هو: « روح الله بن مصطفى بن أحمد بن دين علي شاه بن مير حامد حسين الخميني».
لا شك أن أميز ما في رواية التنسيب الشيعية هذه، أنها خلت تماما من الاسم الهندي، لتبدو الأسماء المستعملة في الرواية متناسقة مع الأصول العربية لآل البيت وذريتهم. لكن التميز لا يتوقف عند هذا الحد. إذ أن أقدم جد للخميني هو الجدد الثالث المسمى « مير حامد حسين الموسوي»، المنتسب، بحسب الرواية الشيعية، إلى الإمام موسى الكاظم، الذي توفي قبله بنحو 1000 سنة. وهذا نسب لا يمكن أن ينقطع كليةً لو كان صحيحا، خاصة أن ضريحه بات معلما بارزا بين الناس. وهذا يؤشر على وجود ذرية يمكن التواصل معها أو، على الأقل تقصيها. أما الحقيقة فالنسب كما لاحظنا انقطع، للمرة الثانية، عند مصطفى الذي تفصله عن والده 212 سنة! فما الذي يجعل نسب الموسوي صحيحا؟ سؤال؛ أثار حفيظة بعض الشيعة.
ولعل صاحب « الثورة البائسة» و « الجمهورية الثانية»[94] (ص352)، كان من أوائل المتسائلين عن نسب الخميني. فقد كتب يقول: « الذي يعرفه الجميع أن جد الخميني (الأول) أحمد قدم من الهند إلى إيران .. قبل مائة عام، وسكن قرية خمين. وولد أباه مصطفى الذي قتل ابان ثورة الشباب في تلك القرية. وهذا كل ما يعرفه الشعب الإيراني من نسب الرجل وسوابقه». ويواصل د. الموسوي القول: « أما من هم أسرته؟ وأين كان موطنها في الهند قبل الهجرة إلى إيران؟ فهذا شيء لا يعرف أحد شيءً عنها، ولا هو أشار إليها من القريب ولا البعيد ولا أجهزة الإعلام أشارت .. إلى هذا الموضوع الحيوي من حياة أسرة الخميني … وبما أن هجرة جد الخميني إلى إيران كانت قبل مائة عام .. والمائة من السنين في حياة الأسر يعتبر تاريخا لثلاثة أجيال فقط. فإذن لا يمكن أن نصدق أن صلة الخميني مقطوعة بأسرته في الهند، أو قد نساهم. فـ .. ما هو السر الدفين في تناسي أسرته وقطع الصلة بهم؟ أليس هناك ما يعتبر غريبا وخطيرا في هذا الكتمان الشديد؟ وهذا التعتيم غير الطبيعي على نسب الخميني، ومؤسس الجمهورية الإسلامية، ومرشد الثورة الإسلامية في إيران؟».
المثير في شهادة الموسوي أنها لم تتوقف عند هذا الحد رغم خطورتها. فبعدها، وما تضمنته من تساؤلات، ختم بفقرة أشد إثارة، حين قال: « أترك الجواب للمعجبين بالرجل ومريديه وصحافته وزمرته في أرجاء إيران. وكلي أمل أن لا يهمس بعضهم في أذن البعض الآخر قوله تعالى: ﴿ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾، ( المائدة: 101) ». المؤسف أن الرجل كما لو أنه كتم أمرا ما. لكنه توفي قبل أن يفصح عنه.
وبخصوص لقب عائلة الخميني وأسماء والده وإخوته، يذكر الموسوي أن والد الخميني، حين قدم من الهند، كان يحمل اسم « سينكا»، قبل أن يُكنى بـ « مصطفى»، أما الشقيق الأكبر للخميني فظل يدعى باسمه الهندي « بسنديدة» حتى مماته. ومن جهته يُثبت الخميني « لقبه العائلي» بخط يده، في كتابه « شرح دعاء السحر»، الذي كتبه حين كان يبلغ من العمر 27 سنة، بالصيغة التالية: « أما بعد فيقول المفتقر إلى الرب العظيم والمفتخر بالانتساب إلى الرسول الكريم، السيد روح الله ابن مصطفى الخميني الهندي». وفي حديثه عن لقب العائلة، لاحظ الكاتب الإيراني، أمير طاهر، أن: « جزء من العائلة أمضى عشرات السنين في كشمير، ومن ثم فإن الاسم العائلي الأصلي للخميني هو (الهندي)، وقد غير روح الله الخميني اسمه العائلي عام 1930، لكن شقيقه الأصغر احتفظ به».
ثانيا: روايات أخرى
رواية فهمي هويدي
تقول الرواية الشيعية، كما سبق وأشرنا، أن الجد الأول للخميني، أحمد، هاجر إلى النجف رغبة منه في تحصيل العلوم الدينية! لكن رواية الكاتب المصري، فهمي هويدي، تتحدث عن إبعاد السلطات البريطانية القابضة على الهند له في أوائل القرن19. وأنه في ديسمبر 1984، روى له حسين الخميني، حفيد الإمام، جانبا من قصة النزوح من كشمير إلى إيران خلال لقائه معه في طهران. ثم فصلها له بسنديدة، الشقيق الأكبر للإمام، أثناء لقائه به في مدينةقم، في يونيو 1985[95]. وفي متن كتابه، يتحدث هويدي عن عائلة يكاد اسم أي منها لا يفارق لقب « الهندي» أو «السيد». ويشير إلى ثلاثة أبناء لمصطفى هم:
الأول: « مرتضى»، الذي كان يعرف باسم « بسنديدة», (معناها المحمود بالفارسية). وقد نزح من خمين إلى قم للإقامة في بيت أخيه الخميني بعد نفيه إلى تركيا سنة 1964 ثم العراق. وحتى سنة 1986 كان قد بلغ من العمر 92 عاما.
الثاني: « نورد الدين». لا يعرف عنه الكثير، باستثناء أنه لم يواصل دراسته الفقهية. وانفصل عن ذلك المسار
تماما. وانتقل إلى طهران ليعمل موظفا مدنيا في وزارة العدل. حيث اشتغل بالخبرة القانونية. وكان يعرف باسم « السيد الهندي». ومات قبل الثورة بخمس سنوات عن عمر تجاوز السبعين.
الثالث: « روح الله»، الذي اختار لنفسه لقب « المصطفوي». وعرف فيما بعد باسم « آية الله روح الله الموسوي بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني». من سلالة جد هندي نفاه الإنجليز من كشمير، وأب قتله الشاه رضا خان، وجاء منفيا إلى النجف على طريق الشغب والتمرد والثورة[96].
رواية إيرك رولو
ثمة رواية متداولة عن الأصول الهندية للخميني ترجع إلى إيرك لورو، الصحفي الفرنسي في صحيفة « لوموند». وقد كررها لورو على التلفزيون الروسي «RT»، بعد خمس سنوات من نشر الكاتبة، منال لطفي، لها في صحيفة « الشرق الأوسط» السعودية. وهي عبارة عن حوار جرى بين لورو وشاه إيران المخلوع، محمد رضا بهلوي، في أعقاب احتفالات الشاه الإمبراطورية في برسبوليس سنة 1971، بمناسبة مرور 2500 عام على حكم الشاهنشاهية، التي بلغت كلفتها قرابة 120 مليون$[97]. وهو ما أثار حفيظة الإيرانيين وعلماء الشيعة بمن فيهم الخميني. وبدأ الحوار بسؤال الشاه عن رأيه في البيان الذي أصدره الخميني، منتقدا فيه البذخ في الاحتفالات، فـ « انفجر» الشاه غاضبا: « مَنْ الخميني حتى أرد على السؤال؟». قال له رولو: « هذا مجرد سؤال صحافي .. وهناك بيان نشر من الخميني، وأنا فقط أسألك رأيك». فرد الشاه ثانية: « أنا لن أرد على السؤال، لأن الخميني ليس إيرانيا ولا فارسيا. هذا هندي، وأنا لا أرد على الهنود»[98].
الطريف في عبارة الشاه « الخميني ليس إيرانيا ولا فارسيا»! أنها أفصحت، بشكل صارم ومبكر جدا، عن كون الخميني لا (1) ينتمي إلى بلاد فارس التاريخية، ولا (2) إلى إيران الحالية. أما قيمتها ففي أنها قيلت في وقت لم يكن فيه ثمة نزاع في ذلك الوقت بين الشيعة والعالم الإسلامي كما هو بعد الثورة. وبالتأكيد فلن تكون ثمة عداوة بين الصحفي الفرنسي والشيعة، أو الخميني، حتى يمكن الطعن في الرواية. وبالتالي فإنْ لم يكن الخميني هذا أو ذاك؛ وإنْ لم يكن هنديا بحسب الروايات الشيعية، التي ترجع أصوله إلى هجرات قديمة للأجداد؛ فمن يكون إذن؟
رواية إسبانية
« من هو آيات الله الخميني؟». سؤال كان عنوانا لمقالة وثائقية كتبها إسباني بعنوان: « ¿Quién es el ayatolá Jomeini? »، وقد أحدثت « ضجة في الأوساط الغربية»، بحسب ما يقول مواطن الكاتب Manuel Harazem، في مقالة له بعنوان: « الحقيقة الضائعة: الخميني هو ابن الجندي البريطاني William Richard Williamson»[99]. وثمة العديد من المقالات المستنسخة والمترجمة عن المقالة الأصلية، التي يبدو أنها اختفت من الفضاء الإلكتروني.
باختصار شديد، تجيب مقالة Alan Peters عن السؤال: « من هو الخميني؟» بأنه: « ابن البريطاني وليم ريتشارد وليامسونWilliam Richard Williamson المولود في بريستول، انكلترا، سنة 1872، من أبوين بريطانيين وسلالة بريطانية صرفة». وأن: « الكولونيل ارشي تشيشولم،Archie Chisholm ، الموظف السابق في شركة النفط الإيرانية – البريطانية، التي أصبحت في وقت لاحق بريتيش بتروليوم BP، والذي يعرف أسرة الخميني جيدا، هو من بين أحد الشهود». وأن: « الكولولونيل، الذي أصبح رئيس تحرير سابق لصحيفة فاينانشال تايمز، حين سئل سنة 1979 عن الأصول البريطانية للخميني، أكد الخبر ولم ينفه». وذكرت المقالة أيضا أن الحديث عن أصول كشميرية للخميني هي قصة مفبركة. وأن النائب الموسوي، عن إقليم خوزستان في برلمان الشاه، يعرف أصول الخميني. وهو الذي سعى لترقية رتبته الدينية إلى « آية الله»، عن طريق المرجع آية الله شريعتمداري، لتجنب حكم الإعدام الذي ناله سنة 1964. ومع ذلك فقد قام الخميني لاحقا بتصفية الموسوي، ووضع شريعتمداري تحت الإقامة الجبرية[100].