من حقوق الإنسان إلى الملف النووي، وما بينهما مشروعها الإقليمي، جميعها روافع تضع الملف الإيراني على طاولة المنظمات الأممية. وما ذكر من عوامل ليست حديثة العهد، لكنها بقيت محل خلاف دولي، بالأدق أمريكي أوربي، عرقل أي إجراء دولي ضد إيران. تلاشى هذا الخلاف مع إقدام طهران على تزويد روسيا بالمسيرات، في الحرب العدوانية التي شنتها الأخيرة على أوكرانيا. جاءت احتجاجات الشارع الإيراني والقمع الوحشي لها من قبل نظام الملالي لتمنح الدول الغربية "الديمقراطية" مبررًا لتغيير نظرتها تجاه طهران.
فاجأ تصريح المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران، روبرت مالي، متابعي الشأن الإيراني، إذ كشف المبعوث الأمريكي، أن الرئيس جو بايدن مستعد لاستخدام الخيار العسكري بهدف منع إيران من حيازة سلاح نووي، في حال فشل العقوبات والدبلوماسية، مع تأكيده على خياري الدبلوماسية والعقوبات. ورغم إصابة المتابعين للشأن الإيراني في عامل المفاجئة، نظرًا لليونة التي يبديها مالي في مفاوضاته غير المباشرة إيران. لكن المفاجئة الأكبر جاءت من قبل الاتحاد/الترويكا الأوربية، ففي سلسلة من المواقف المنفردة والمجتمعة، أعلن خلالها الاتحاد، دولًا ومنظمة، مواقف مغايرة لمواقفه المتماهية مع إيران، ولعل أهمها بعد قطع البرلمان الأوربي لعلاقاته توصيف رئيسة الاتحاد الأوربي، فون دير لاين، في حوار المنامة الأخير، أن إيران باتت مشكلة عالمية، مقتربة في ذلك من توصيف المستشارة الأسبق للأمن القومي الأمريكي، كوندليزا رايس، لإيران بأنها بنك الإرهاب الدولي. تقارب التوصيفين، الأمريكي الأوربي، يعطي مؤشرًا عن تقارب المواقف بين الاتحاد/الترويكا الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية بعد زمن من تباينها، حيث بقي الاتحاد/الترويكا الأوربية معرقلًا لسياسة واشنطن تجاه طهران منذ قانون داماتو(قانون أمريكي لمعاقبة إيران وليبيا وطالت مفاعيله الشركات التي تتعامل معهما) حتى الطلب الأخير لإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب بإعادة تفعيل آلية الزناد خريف عام 2020.
الميول الأوربية تجاه طهران دفنتها ركام المسيرات الإيرانية في أوكرانيا، فبعد أن كانت أوروبا غير معنية بمشروعي إيران الصاروخي والإقليمي، أشارت فون لاين في كلمتها إلى أن التهديد الإيراني لم يعد مشكلة إقليمية. وهذا التحول في موقف الاتحاد الأوربي برمجته مواقف دوله، منفردة ومجتمعة، في العديد من الخطوات، من دعمها للشارع الإيراني إلى لقاء مع ناشطات حقوقيات إيرانيات، وقبلهما وبعدهما تقديم طلب لمجلس الأمن لبحث انتهاك إيران لقرار مجلس الأمن رقم 2231 لعام 2015، من خلال تزويدها لروسيا في المسيرات، مع الاقتراح الألماني المقدم لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتشكيل لجنة تقضي حقائق، وهو ما تم بالفعل. ما أقدمت عليه الترويكا/ الاتحاد الأوربي من خطوات تنحى منحًا تصاعديًا، وقد لا يتوقف عند تقديمها لطلب إعادة تفعيل آلية الزناد أصالة عن نفسها ونيابة عن واشنطن، التي أصبح وضعها القانوني في خطة العمل الشاملة المشتركة مثار جدل، في ظل خيبة الأمل التي أصابت الترويكا انسداد أفق إحياء الاتفاق النووي، نتيجة الطلبات الإيرانية غير المنطقية لإعادة إحياء الاتفاق، بالإضافة للارتماء الإيراني في أحضان روسيا والصين
في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، تبنى مجلس الحكام في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قرارًا يندد بما وصفه "عدم تعاون إيران مع الوكالة لحل القضايا العالقة". وجاء هذا القرار، وهو الثاني هذا العام، بعد قرارٍ في يونيو/حزيران، بسبب عدم تقديم طهران لإجابات "ذات مصداقية تقنية" فيما يتعلق بآثار اليورانيوم المخصّب التي عُثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلن عنها. وبعد الإعراب "عن قلقه العميق" نص قرار مجلس حكام الوكالة الأخير على "أنه من الضروري والملح" أن تقدّم طهران على الفور "إيضاحات" بشأن وجود جزئيات من اليورانيوم، مع السماح بـ"الوصول إلى المواقع والمعدّات"، من أجل "السماح بجمع العيّنات". والقرارين المذكورين مع الصيغة التي جاءت في آخرهما توحي بتدرج مواقف لدى مجلس حكام الوكالة الدولية مدفوعاً بتوافق الولايات المتحدة والترويكا الأوربية لإعادة ملف إيران إلى مجلس الأمن، خلال الاجتماع القادم لحكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية مطلع أذار القادم. يؤيد هذا التقدير، رد إيران السلبي على القرار، إذ أعلنت طهران عن رفع التخصيب في منشأة فوردو إلى نسبة 60%، مستندة إلى قانون المبادرة الاستراتيجي لإلغاء الحظر وحماية مصالح الشعب الإيراني الصادر عن البرلمان الإيراني في شباط 2020، ومتذرعة بحاجتها لنسبة التخصيب بمستوى 60% للأغراض السلمية، رغم نفي المختصين السلمية عن التخصيب في مستوى ال 60%.
إعلان طهران، مع سلبيته، يوحي بعدم التراجع في مواجهة القرارات الدولية، ويعطي الانطباع عن توجهها للانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، في حال تم إحالة ملفها إلى مجلس الأمن، لاسيما في ظل تنامي تيار إيراني (جبهة الصمود ومناصريها) ينادي بالخروج من المفاوضات النووية، مؤيداً لإيران نووية بعد تحييها العقوبات الأممية/الأمريكية، ما يدل على أن مستوى التصعيد الغربي الإيراني سيشهد في المرحلة القادمة تصاعدًا قد تنفلت عراه ويخرج عن الانضباط.
في لقاءات سابقة مع طهران، نوهت الأخيرة لإمكانية التفاهم حول برنامجها الصاروخي، بضبط مدى منظومتها الصاروخية بما لا يتجاوز 2000كم، في إشارة منها لتطمين الجانب الغربي بعدم وصول الصواريخ الإيرانية إلى القارة الأوربية. زالت هذه التطمينات بدخول المسيرات الانتحارية الإيرانية في الساحة الأوكرانية، محدثةً أبلغ الضرر في البنية التحتية لأوكرانيا. ومن قبلها تضاءلت الشهية الاستثمارية الأوربية في السوق الإيرانية، نتيجة دخول المنافس الصيني القوي، بموجب وثيقة التعاون الاستراتيجي الصيني الإيراني. وفي ظل التسريبات التي تتحدث عن رفع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري والعسكري بين روسيا وإيران، تبدو إيران متعمقة في التوجه شرقًا، كما عنونت له حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، ولم يعد أمام الجانب الغربي إلا التعويل على التغيير في إيران، وجاءت الانتفاضة الإيرانية لتعزز القناعة الغربية في إحداث هذا التغيير، ولكن كيف ومتى؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام أو الشهور القادمة.