النظام لديه كثير من عوامل البقاء لكنه يواجه تهديدات كبيرة.. وستأتي نهايته وسط "بحور من الدم"
مهما واجه الملالي الإيرانيين الغاضبين بالحديد والنار فسوف يستقرون عاجلًا أو آجلًا في "مزبلة التاريخ"
قديما قالوا: إذا زرعت الريح.. فسوف تحصد العاصفة!
وهذا بالضبط هو ما فعله النظام الإيراني، الذي ظهرت نبوءات سقوطه وهو في المهد، ففي كتابه "قبل السقوط" الصادر عام 1985، توقّع المفكر المصري الراحل د. فرج فودة، سقوط نظام الملالي في إيران، وصعود الجيش كقوة بديلة ومحتملة، مؤكدًا أن "نظام طهران الفاشي يستغل الدين لتحقيق مكاسب سياسية والسيطرة على الحكم، لكنه لا يمتلك برامج سياسية أو اقتصادية، ما سيؤدي إلى انهياره في نهاية المطاف".
ولقد أثبتت الأيام صدق العديد من توقّعات "فودة"، الذي اغتاله المتطرفون، فقد توقّع الرجل أن تُحدث إيران فتنة في العالم الإسلامي والعربي، مؤكدًا أنها ستستخدم "ورقة الدين" لمحاولة تصدير ثورتها وتوسيع إمبراطوريتها، كما ستعتمد على الميليشيات المسلحة. وقد كان، فقد ترتب على سيطرة الملالي في إيران أن تخلخلت المنطقة سياسيًا، وتعرضت لعدم الاستقرار، وأشعلت الثورة الإيرانية التي سيطر عليها الملالي صراعًا مازال مستمرًا على مستوى الشرق الأوسط برمته.
"معركة بقاء" دامية
لا جدال أن النظام الإيراني لديه كثير من عوامل البقاء في المستقبل المنظور، لكنه يواجه تهديدات كبيرة، وربما لن تأتى نهايته إلا وسط بحور من الدم، خصوصًا أن كتلة الحراك السياسي التي خرجت ضد النظام الإيراني مؤخرًا، وهتفت بسقوط المرشد، تتسم بأنها كتلة مدنية وحضارية، وتضم أعدادًا كبيرة من الشباب، وسقف طموحاتها يرتفع يومًا بعد يوم، إلى درجة أنها تريد رحيل نظام الملالي، وليس مجرد إصلاح الأوضاع الداخلية.
لا أحد في إيران الآن يظن أنه من الممكن إصلاح هذا النظام من داخله، فقد أثبتت التجارب والوقائع الميدانية، والحقائق الفكرية التي تقوم عليها كينونته، بأن مثل هذه الظنون وهم، وسراب، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
ولكن سقوط نظام الملالي لن يكون أمرًا سهلًا، بل سيكون بـ "خلع الضرس" كما يقولون، وسيحتاج الإيرانيون إلى دفع ثمن باهظ من أرواحهم واستقرارهم واقتصاد بلادهم، مقابل الحصول على حرية وديمقراطية حقيقية، بعد 43 عامًا من الحكم الثيوقراطي الديكتاتوري.
ومن الغريب حقًا أن يتناسى حكام إيران الحاليون أنهم لم يرثوا السلطة كالملوك، بل جاؤوا نتيجة ثورة شعبية عارمة، وأن الآلاف الذين ضحوا بحياتهم، وعشرات الألوف الذين اعتقلوا وعذبوا لتأمين انتصار تلك الثورة، كانوا يحلمون بدولة تحفظ كرامتهم، وتؤمن لهم العدالة والتنمية وتوقف القمع والبطش والتعذيب والفساد، فوجدوا أنفسهم يعيشون في "كابوس" بمعنى الكلمة!
وذات يوم، قال الرئيس الإيراني محمد خاتمي إن "إيجاد أجواء من عدم الثقة، بين الشعب الإيراني والنظام، سيخلق اليأس، وسيُفقد الشعب الإيراني الأمل بالمستقبل. وإذا حدث ذلك؛ فلن نحتاج حينئذ إلى عدو خارجي؛ لأن أركان النظام التي تعتمد على ثقة الشعب سوف تضعف، وعندئذ سيواجه النظام خطرًا حقيقيًا".
ويرى المراقبون أن النظام الإيراني يحاول يائسًا أن يسد بعباءته فجوات في السفينة التي خرقها بنفسه، لتتسرب إليها أزمات العملة المحلية المحتضرة، والغضب الشعبي، وعقوبات جديدة قد تجفف خزائنه، ليصبح أقرب من أي وقت مضى إلى الغرق.
في المقابل، يتخوف الكثيرون من أن انهيار نظام الملالي في إيران سيُدخل البلاد في مشكلات أكبر مما تعيشها طهران حاليًا، غير أن المراقبين السياسيين يشككون في صحة هذه الفرضية، ويؤكدون أن زوال النظام سيعزز حرية الشعوب الإيرانية، بكل أعراقها، وسوف يحل الكثير من المشكلات التي تواجهها البلاد منذ سنوات.
ولذلك، يجب ألا يكون إسقاط نظام ملالي طهران بحرب مباشرة على إيران، بل من الداخل، حيث سيُكلف الخيار الأول الكثير من الخسائر، وقد يؤدي لنتائج عكسية، ومنها تأجيج الصراع القومي الفارسي- العربي، ورص الصفوف في داخل إيران وخارجها ضد أي دولة تهاجم إيران.
ومن المسلّم به أن النظام مازال يحتفظ بقوته الضاربة، وقد يدفع بها إلى الشارع لمواجهة معارضيه إذا شعر بأن الخطر يداهمه بالفعل، وساعتها، ستندلع في إيران معركة بقاء دامية، بين أنصار الملالي من "الحرس الثوري" والميليشيات والتنظيمات، وبين أبناء الشعوب الإيرانية الذين يعانون الأمريّن من قمع وبطش وتدهور اقتصادي واجتماعي غير مسبوق.
كما أن النظام يمتلك مجموعات مصالح وشبكات دعم قوية، من المنتفعين ماليًا، أو من المؤدلجين دينيًا، والمؤمنين بولاية الفقيه، وهو يعتمد على القوة الصلبة للدولة، بدلًا من مقبولية الجماهير. لكن حتى هذه القوة الصلبة للدولة مهددة بالتآكل، إزاء حالة الغضب الشعبي المتصاعد ضد النظام الإيراني.
بحر من الأزمات
قد يظن البعض أن سقوط نظام الملالي مجرد أمنيات وأحلام تطلقها الجماعات المعارضة الإيرانية المحبطة، الموجودة في الخارج، خصوصًا في ظل ما يتبجح به الإعلام الحكومي من تطوير للقدرات العسكرية، ولدور إيران ونفوذها العسكري والاستخباراتي والسياسي في سوريا والعراق واليمن ولبنان، الأمر الذي يجعل انهيار النظام في إيران يبدو مستحيلًا.
غير أن هناك حقائق على أرض الواقع، تجعل من سقوط نظام الملالي مسألة وقت، فالاحتجاجات الشعبية المستمرة، والانقسامات الداخلية العميقة بين أقطاب النظام، والأوضاع الاقتصادية المتردية باستمرار، والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن مصادرة الحريات، بالإضافة إلى الفساد المستشري في أجهزة السلطة، وقمع الشعوب الإيرانية غير الفارسية ومصادرة حقوقها بالكامل.. كل ذلك يجعل النظام الإيراني يعوم وسط بحر من المشاكل والأزمات، التي لا يستطيع أن يجد لنفسه مخرجًا منها.
والمخاطر الداخلية التي يتعرض لها أي نظام هي أشد وطأة من الضغوط الخارجية، ومن ثم تنتاب الآن رجالات النظام الإيراني حالة من الفزع والقلق من أن تتسع دائرة الاحتجاجات الحالية، التي بدت متصاعدة بدرجة كبيرة في بعض المناطق، الأمر الذي سيضطر النظام إلى تشديد قبضته الأمنية، وتصعيد انتهاكاته بحق المحتجين، فتتراجع بذلك فرصه في محو صورته السلبية في المجتمع الدولي.
وتفعل المشاكل والأزمات فعلها، فهي تعمل على نخر عظام النظام الملالي الإيراني، الذي وضع أولوياته في البقاء على حساب الشعب الإيراني نفسه، وتعزيز قوته على حساب أمن المنطقة كاملة، وتسخير جميع موارد البلاد لحساب نخبة النظام على حساب قوت الإيرانيين الساخطين، الذين خرجوا مؤخرًا في عدة محافظات، للتنديد بالأحوال الاقتصادية المزرية التي تعانيها الأسر الإيرانية بسبب غلاء الأسعار.
هذا السخط الشعبي على ممارسات النظام الداخلية، والغضب الدولي المتصاعد تجاه ممارساته الإقليمية، يضع النظام بين شقيّ الرحى، فهو يعيش حاليًا في موقف ضعف شديد، والوضع في إيران بات أشبه ما يكون بحالة "سقوط حر"، أي أنه بداية مرحلة الانهيار الفعلي للسلطة الحاكمة.
وبناء على ذلك، فإن ثمة احتمالات شبه مؤكدة أن يؤدي انسداد الأفق السياسي في البلاد، وتحالف بين كل من التياريّن المتصارعيّن الإصلاحي والمحافظ ضد الشعوب الإيرانية، وتزايد الضغوط الشعبية والتذمر العام على إثر زيادة حدة تردي الأوضاع، يؤدي إلى سقوط نظام الملالي.
وباتت حتمية سقوط نظام الشر والإرهاب الحاكم في طهران، أقرب من أي وقت آخر، فالظروف الدولية الخارجية، والمحلية الإيرانية الداخلية، مهيأة تمامًا كما لم تكن من قبل لهذا الحدث المرتقب.
وبينما يعيش نظام الملالي أيامه الأخيرة، فإنه يسعى بكل الطرق والأساليب إلى تأخير عملية سقوطه إلى حين، لعله يجد طريقًا وسبيلًا للخلاص والنجاة بجلده. غير أنه مهما فعل، ومهما واجه الإيرانيين الغاضبين بالحديد والنار، فسوف يستقر عاجلًا أو آجلًا في "مزبلة التاريخ".