منذ (احتلال الروس لشبه جزيرة القرم)، وبدأت عمليات التنسيق (الروسي الأمريكي) تتكشَّف، وتخرج من تحت الطاولة إلى أعلاها؛ بل عبر شاشات التلفزة، وأضحى اللعب على المكشوف هو اللعبة المفضّلة على الخارطة العربيّة من المحيط إلى الخليج، وظهر جليًا في الأزمة السورية، التي أظهرت مدى التوافق بين (القوى العظمى من أصحاب حق النقض داخل مجلس الأمن)، والدول الإقليميّة الكبرى (إيران، وإسرائيل، وتركيا) على (إعادة رسم خارطة العالم العربيّ)، و(تقاسم مناطق النفوذ)، و(التشاركية في حصة من الاقتصاد العالمي القائم على موارد المنطقة العربيّة). وجاء الصمت الدوليّ على انطلاق القاذفات الروسية من قاعدة همدان الإيرانية صوب حلب للتأكيد على المباركة الأمريكية للخطوة المدعومة بتنسيق مع إقليمية. وتصريح سيرجي شويغو وزير الدفاع الروسي: “بأننا نقترب مع الأمريكيين من تنسيق عمل عسكري في حلب شمال سوريّة”. يؤشر على تطابق وجهات النظر الأمريكيّة والروسيّة بشأن ما يُحَضَّر للمنطقة في الخفاء والعلن. وبعيدًا عن تفاصيل الأزمة السوريّة فإن التواجد الروسي في (الخليج) وبمباركة أمريكية، ورضا إقليمي سيكون له العديد من النتائج المباشرة وغير المباشرة والتي من أهمها:
أولا – استقواء الإيرانيين بالروس سوف يؤدي إلى ضياع الحقوق العربيّة في المنطقة وتسويف عودة الجزر الإماراتيّة، وربّما يتطور هذا الاستقواء ويسعى إلى إغراق المنطقة في حرب إقليمية ضروس قد يطول أمدها إلى ما يقارب ثلاثين عامًا تكون كفيلة بإنهاك المنطقة العربية لصالح إسرائيل وإخراجها من دائرة الحضارة البشرية تمامًا وما يحدث الآن يؤشر على أنَّ “المنطقة تشهد إرهاصات حرب ثلاثين عاما جديدة قادمة” حيث “يصبح من المستحيل التمييز بين الحروب الأهلية والحروب بالوكالة”. وِفْق تعبير ريتشارد . ن. هاس.
ثانيًا – التنسيق الأمريكي الروسيّ سيؤدي إلى إدخال القوى الإسلامية الكبرى في المنطقة (إيران، وتركيا، وإيران) وتوابعها في حرب مباشرة وصراع دامٍ كفيل بإنهاك جيوشها، وضعضعة برامجها التنموية، ومشاريع تطوير ترساناتها العسكرية إن لم يكن إخراجها من الخدمة نهائيًا وهي وجهة نظر تؤيدها رؤية كيم سينغوبتا محرر الشؤون العسكرية بصحيفة الإندبندنت البريطانية الذي أكد أنّ: “إرسال قوات سعودية بريّة لن تقتصر تداعياته على الحرب الأهلية في سوريا بل ستمتد للمنطقة بأسرها. ويضيف أن السعودية وإيران بعدما انخرطا في حرب طائفية بالوكالة في عدة مناطق سابقا آخرها اليمن قد يجدان أنهما في حرب مباشرة في سوريا”.
ثالثا – كان انحياز الأتراك للموقف (الروسيّ والإيراني) من الأزمة السوريّة بمثابة قوة دفع في هذا الاتجاه، وتوافق الأطراف الثلاثة على الحد الأدنى من المواقف وتنسيق العمليات اللوجستية لإنهاء الحرب هناك؛ سيحقق العديد من النتائج على صعيد العمليات العسكريّة، وفي جوانب التسوية السياسيّة المرتقبة، وسوف يسرِّع من وتيرة التباحث بينهم من أجل بناء شراكة تهتم بلعب دور أكثر تأثيرًا في إدارة شؤون الشرق الأوسط وبناء جبهة قوية يمكُنها أن تتوافق مع الأمريكيين على إعادة تقاسم النفوذ في المنطقة خاصةً بعد استشعار الجميع أن الولايات المتحدة قرّرتْ نفض يديها من القضايا العالقة في المنطقة لعقود طويلة، مع الاحتفاظ بالحد الأدنى من الاهتمام الذي يمكّنها من تأمين مصالحها، وحماية أمن إسرائيل. ومن ثَمَّ رأت أمريكا أنه لا غضاضة من توزيع بقية التَّركة الثقيلة على الطامحين في لعب دورٍ استراتيجيّ تحت سمعها وبصرها وفي حياة عينها. خاصةً وأنّ الأطراف الثلاثة على خلاف مع الرؤية الأمريكيّة في معالجة قضايا المنطقة، وتحركات الأخيرة تجاه كثير من الأحداث غالبًا ما يتبلور في شكل غير مُرضٍ لجميع الأطراف حيث يتحوّل عادةً إلى نوعٍ من (التدخل في الشؤون الداخلية)، وأحيانا أخرى يتشكّل في إحدى صور (الوصاية) على العديد من بلدان المنطقة.
رابعًا – بات الروس مقتنعين بضرورة تنحية آلة الحرب العسكرية جانبًا والتشديد على “على ضرورة تكثيف الدور الروسي في العملية السياسية لإنهاء الصراع في سوريا” حيث أكدت التقارير الواردة للكرملين عن ردود الأفعال تجاه روسيا وعلى ارتفاع وتيرة الغضب (السوري والعربي) ضد الروس وليس من المستبعد أن تتآمر أطراف دولية لسحق القوة الروسية ودفن رأسها في الوحل السوري على نموذج ما حدث معها في أفغانستان فضلا عن إنّ هذه الحرب التي تخوضها دعما للأسد كانت تحت غطاء وهمي يسمى (محاربة تنظيم الدولة الإسلامية)؛ غير أنّ المتابع لضربات الطيران الروسي منذ دخوله على خط الأزمة السورية يجد أنّ 80% من الطلعات الجوية كانت موجهة ضد فصائل المعارضة السورية وتحديدًا (الجيش السوري الحر)؛ لكنها لم تفلح في وقف عملياته النوعية ضد النظام والقوات الداعمة له على الأرض من (كتائب حزب الله اللبناني وفصائل الحرس الثوري الإيراني).
خامسًا – لقد أيقنت العديد من الأطراف الدوليّة المعنيّة بالأزمة، وبمباركة من المنظمة الدوليّة أنّ الصراع المسلح في بلاد الشام وخاصةً على الجبهة السورية ومع دخول “روسيا” على خط الأزمة وانصياع المعارضة للأجندة الدوليّة، والمطالب الروسيّة؛ بل وانشقاقها وانقسامها ومجيء قسم منها إلى العاصمة القطريّة الدوحة، وإعراضها عن مطالب فريق السيد رياض حجاب وشبه التوافق على (الانخراط في حكومة وحدة وطنية موسعة)، وربما القبول بنظام قيام حكم فيدرالي جديد في سوريا استتبع ذلك تخفيف الكثير من الأطراف الدوليّة لهجتها، وإعادة رسم حساباتها وأولوياتها الجيوسياسية “وفق المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية في المنطقة”. وربما يرشح الأمر بحلحلة الأزمة السورية وإقرار عملية السلام ودعم وتمتين العلاقات (الروسية الإيرانية) حيث كان “أول المبادرين للتوسط بين الرياض وطهران هو الرئيس الروسي” بوتين” والذي أيقن أن قطع العلاقات السعودية مع إيران تقيد روسيا من تدخلاتها البحرية في المنطقة باعتبار أن المنطقة أصبحت عبارة عن حقل ألغام خطير” وفق تعبير محمد حسن القدّو.
سادسًا – يأتي الوجود الروسي في إيران والتعاون الثلاثي بين (روسيا وتركيا وإيران) لحلحلة أيّة إشكالات قد تنشأ عن مشاريع تصدير الغاز بين (الأتراك والإيرانيين والروس) والتي ستجنيها (الدول الثلاث) و تتحصل عليها من مشروع ربط إيران مع ممر الغاز الجنوبي الأوروبي. عبر (مشروع تاناب) الذي يهدف إلى نقل غاز أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا. وكذلك حلحلة الصراعات الناتجة عن تدفق ” الغاز الطبيعي الإيراني إلى الأسواق الأوروبية من خلال (مشروع تاناب)، والسعي إلى إحداث تحوّل في العلاقات بين (موسكو وطهران) من (غريمين متنافسين) إلى صديقين متعاونين”. بالإضافة إلى الفوائد التي سوف يتحصلها (الروس والأتراك والإيرانيين) من مشروع زيادة الطاقة الاستيعابية لخط “بلو ستريم” الذي ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود ” والذي سيرفع حجم واردات تركيا من الغاز من 16 مليار متر مكعب إلى 19 مليار متر مكعب”.
أمّا على صعيد الأهداف فهناك العديد من الدوافع الآنيّة وراء الوجود الروسي في منطقة الخليج وخاصةً تلك المتعلقة بحالة الحرب الدائرة في سوريا، وأخرى بمثابة دوافع تاريخيّة متعلقة بالأوضاع والعلاقات العربية وسياسات إدارة المنطقة والتي من أهمها:
أولا – في الآونة الأخيرة حدث تغيير جذري في التوجهات الأمريكية وتحولات في المواقف السياسية تنتهي برغبة أمريكية في (إدارة العلاقات بين الرياض وطهران) وربما بشراكة روسية بما يضمن لها من تعظيم قوتها الاقتصادية وضمان (أمن إسرائيل) وهو تحوّل دراماتيكي في السياسة الأمريكية من (موقف الشريك والطرف) في الصراع بين السعودية وطهران إلى (حكم ووسيط) وفق تعبير السفير إبراهيم يسري بجريدة الرأي اليوم. منهيا 70 عامًا من التحالف التقليدي وفك الارتباط التاريخي بين واشنطن والرياض.
ثانيًا – جاء إعطاء الأمريكيين الضوء الأخضر للروس للمشاركة في للقيام بدور فاعل في (قضايا منطقة الشرق الأوسط)، والولوج إلى منطقة الخليج من البوابة الإيرانية في إطار خطة أمريكيّة تسعى إلى بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وإعادة تقسيم المنطقة في شكل (دويلات صغيرة) من منطلق (عرقي)، و(مذهبي)، و(طائفي) وكان الأكراد في القلب من هذه الرؤية الأمريكية. ودليلنا على هذه الرؤية ما أكده مستشار الأمن القوميِّ الأميركيّ الأسبق “زبيجنيو بريجنسكي” في حديثه عن السيناريو المُتخيَّل مستقبلا للمنطقة في القرن الحادي والعشرين مصرحًا بأنه: “سيكون هناك شرق أوسط مُكوَّن من جماعات عِرقية ودينية تتحوَّل إلى كانتونات عرقية يجمعها إطار كونفيدراليّ بما يسمح “للكانتون الإسرائيليّ” أن يعيش في المنطقة بعد أن تتم عملية التصفية الشاملة والنهائية لفكرة القومية العربية”.
ثالثًا – على ما يبدو فإنّ الإدارة الأمريكية سواءً أكانت ديموقراطيّة أم جمهوريّة قررتْ تسريع وتيرة الصراع في منطقة الخليج؛ بل وضعت (الطرفين العربي والإيراني) على قضبان الاشتباك والصراع المسلّح وأخذت بنصيحة مراكز الدراسات التابعة لها وقرَّرتْ نفضَ يديها من (وعثاء الأصدقاء)، والاغتسال من (دَنَسِ الدِّماء المتدفقة من الجسد العربيّ المذبوح من الوريد إلى الوريد) وِفْقَ ما جاء في تقرير «بلومبيرغ» الذي أشار إلى”أن التحركات السعودية الأخيرة تأتي نتيجة التغيَّرات التي طرأت على الدور الأمريكيّ في الشرق الأوسط، خصوصًا بعد الاتفاق النووي الإيراني”.
رابعًا – إبداء الإيرانيين مرونة واسعة في إجراء تعديلات على رؤاهم السياسية ونظريتهم الدفاعية الإيرانية والانطلاق في التعاون الأصدقاء والأعداء من منطلق براجماتي نفعيّ بحت على نحو ما جرى من اتفاق بينهم وبين حركة طالبان الأفغانية لتأمين الحدود ضد خروقات وضربات تنظيم الدولة الإسلاميّة وهي حركة سنيّة متشددة وعلى خصام مع النظام الإيرانيّ ذي الخلفية الشيعيّة. وكذلك الانفتاح البراجماتي مع الأتراك وتنظيم العلاقات الاقتصادية بين البلدين وتكوين كيان اقتصادي متين الأواصر ومتعاظم المردودات والموارد. فضلا عن التعاون مع الدب الروسيّ في الشؤون العسكريّة.
خامسًا – أيقن الإيرانيون أن الولايات المتحدة الأمريكية (تُحضِّر للإعلان عن ميلاد دولة كرديّة مستقلة) على أجزاء من سوريا والعراق (في الوقت الآنيّ ولاحقًا إذا اشتد عودها ستفكر في ضم أجزاء من تركيا وإيران بدعم غربيّ) في غضون السنوات القليلة القادمة. ومن ثَمَّ فقد جاء الاستعانة بالقوات العسكريّة الروسيّة احترازًا واستعدادا لأيّة مواجهة من أنصار الدولة الكرديّة الوليدة المدعومة أمريكيًا ومنعها من اقتطاع أيّة أجزاء أجزاء من الخارطة الإيرانيّة مستقبلا.
سادسًا – غياب مشروع عربيّ موحد لإدارة وحلحلة قضايا المنطقة رافقه الافتقاد إلى (مشروع خليجيّ شامل) (للأمن والسلام الإقليميّ) تحميه (نظريّة دفاعيّة)، و(قوة عسكريّة إقليمية) ويمكن تطويره بحيث لا يستثني الامتداد الجغرافي على ضفتيّ الخليج يَحْضِنُ اليمن الفقير، ويُطبِّبُ أوجاعَ العراق المثخن بالجراح والأطماع، ويوظِّف القدرات العلمية ويستثمر القدرات التنمويّة والطفرة الاقتصاديّة لدى إيران لخدمة شعوب المنطقة.
سابعًا – تعسّر “المشروع العربي الوحدويّ”، و”الارتباك المَرَضِيّ، والمستدام” للعلاقات العربية العربية، و”الصراع المحتدم على مدار التاريخ بين النُّظم السلطوية والتوجَّهات الشعبوية من جهة، وأنصار “دولة المؤسسات والقانون” من جهة أخرى، و “أفول نجم جامعة الدول العربية”، وفشلها المزمن في معالجة النزاعات العربيّة العربية وتكلّس منظومتها، وتقاعس بعض الدول الأعضاء – عمدًا – عن تطوير وتحديث ميثاقها العقيم، وما تَبِعَ ذلك من “تحييد متعمّد لـ(منظمة العمل الإسلامي) لإبقائها خارج التاريخ. ومع انطلاقة قاطرة الهوجات العربيَّة – المسمَّاه كذبًا وخداعًا – بـ”الربيع العربيّ” ونجاح القوى السياسية الراديكالية في عسكرته و”كبح عجلاته وإيقافه عن الدوران”.
ثامنًا – حالة الغيبوبة السريرية، والسكتة الدماغية لجامعة الدول العربيّة التي جعلت من المنطقة مطيّة للأجنبيّ فبَصَمَتْ بالأصابع العشرة على وثائق “شرعنة الحروب″ في المنطقة تحت لافتات عديدة (ظاهرها إنقاذ الأمّة)، و(باطنها شرعنة الأزمة) فمهّدت الطريق أمام الآلة العسكريّة للأجنبيّ فاستباح الأرض والعرض، وهجّر المواطنين، وخرّب البنية التحتيّة، وأعاد العروبة إلى عصور ما قبل التاريخ. أليس في (اليمن وسوريا وليبيا أنموذجًا)؟
المصدر| رأي اليوم