<< مرّة أخرى، ستتجه إيران إلى الرد في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن. ستستهدف العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين
<< من الواضح أنّ إسرائيل لن تتأثّر بردود الفعل الإيرانية. ستعتبر، من دون شكّ، أنّ ليس ما يثبت، أقلّه إلى الآن، أنّها وراء الجريمة التي قد يكون نفّذها
ليس مستبعدا أن تكون إسرائيل وراء اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في إحدى ضواحي طهران حديثا. مثل هذا الاحتمال أكثر من وارد. يعود ذلك إلى أن في الإمكان إدراج اغتيال العالم البارز الذي يلعب دورا محوريا في تطوير البرنامج النووي الإيراني في سياق حرب مستمرّة منذ سنوات عدّة بين إسرائيل وإيران في مجالين. الأوّل الوجود العسكري الإيراني في سوريا، خصوصا في جنوبها، والآخر احتمال امتلاك إيران في يوم من الأيّام للسلاح النووي. ليس في استطاعة إسرائيل تصوّر مثل هذا الاحتمال. لذلك تركّز في جهودها على قطع كلّ الطرق التي يمكن لإيران سلوكها من أجل الحصول على القنبلة النووية في يوم من الأيّام.
مثل هذا الموقف الإسرائيلي معروف ولا ينطبق على إيران وحدها. سبق لإسرائيل في العام 1981، أن هاجمت المفاعل النووي العراقي الفرنسي الصنع "أوزيراك" ودمّرته. كان ذلك في عهد حكومة مناحيم بيغن الذي لم يأبه إلى أيّ رد فعل دولي أو فرنسي على وجه التحديد. لم تأبه الحكومة الإسرائيلية وقتذاك إلى تطمينات من باريس فحواها أن المفاعل الذي تبنيه فرنسا في العراق للأغراض السلميّة فقط…
في المرحلة الراهنة، يبدو مهمّا بالنسبة إلى إسرائيل، في ضوء فوز جو بايدن على دونالد ترامب، التأكيد للإدارة الجديدة أنّ هناك أمورا ثابتة لا يمكن أن تتراجع عنها بغض النظر عن المقيم في البيت الأبيض. أكثر من ذلك، يوجد حاليا همّ إسرائيلي كبير يتمثّل في إمكان حصول تغيّر نوعي في الطريقة الأميركية للتعاطي مع طهران.
الأكيد أنّ لا انقلاب جذريا في واشنطن على السياسات الإيرانية لترامب، لكنّه ليس مستبعدا أن تباشر الإدارة الأميركية الجديدة في بحر هذا الأسبوع اتصالات، عبر أحد مبعوثيها، مع وفد إيراني. يتوقع حصول اللقاء الأميركي – الإيراني في عاصمة أوروبية وسيكون الهدف منه وضع إطار عام يتضمن شروطا محدّدة تسمح لأميركا بإعادة التفكير في إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني للعام 2015، وهو الاتفاق الذي مزّقه دونالد ترامب في العام 2018. ليس مستبعدا أن يكون في مقدّم الشروط الأميركية تغيير كبير في السياسة الإيرانية في اليمن وليس في أيّ مكان آخر. تعتقد إدارة بايدن، من خلال فرض مثل هذا التغيير، أنّ ذلك سيريح المملكة العربيّة السعودية إلى حد كبير، كما سيساهم في البحث عن مخرج يعيد الحوثيين إلى حجمهم الحقيقي، ولا يلغيهم، بعدما كشفوا عن وجههم العدواني. هذا الوجه العدواني هو الوجه الحقيقي للحوثيين الذين يسمّون نفسهم “أنصار الله” والذين لا يتردّدون في إطلاق صواريخ باليستية إيرانية الصنع في اتجاه الأراضي السعودية. استهدف آخر هذه الصواريخ منشأة نفطية قرب مدينة جدّة المطلة على البحر الأحمر.
معارضون إيرانيون يعملون لمصلحتها. لكنّ الأكيد أن مقتل فخري زاده خسارة كبيرة لـ”الجمهورية الإسلامية”. يدل على ذلك كلام “المرشد” الإيراني علي خامنئي الذي توعد بالثأر لمقتل العالم الإيراني، مضيفا أن ما يقوم به سيستمر. أمّا الرئيس الإيراني حسن روحاني، فقد اتّهم إسرائيل بقتل العالم، قائلا إنّ “اغتيال فخري زاده يظهر يأس الأعداء وشدة كراهيتهم”، معتبرا أنّ العملية “لن تبطئ مسار إيران النووي”.
سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن وصف فخري زاده بأنه “أب البرنامج النووي العسكري الإيراني”. هذا يعني بكلّ بساطة أنّه سيكون هدفا إسرائيليا في يوم من الأيّام. هذا ما حصل بالفعل.
يظلّ السؤال كيف ستردّ إيران؟ الأكيد أنّها لن تردّ على إسرائيل. لن تردّ على أميركا. اكتشفت في طبيعة الحال أنّ ليس في استطاعتها الإقدام على أيّ عمل عسكري ذي شأن، لا مع الولايات المتّحدة ولا مع إسرائيل. يدل ذلك العجز الإيراني عن الردّ على اغتيال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” في الثالث من كانون الثاني – يناير الماضي بعيد مغادرته مطار بغداد مع مسؤول كبير في “الحشد الشعبي” العراقي، الذي ليس إلا مجموعة ميليشيات عراقية تابعة لإيران، هو أبومهدي المهندس.
مرّة أخرى، ستتجه إيران إلى الرد في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن. ستستهدف العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين. ربّما وجدت نفسها مضطرة إلى التهدئة في اليمن لأسباب أميركية، لكنّ الأكيد أن خياراتها في الرد محدودة من جهة ومحصورة بإحدى الدول العربية. قد تردّ أيضا من قطاع غزّة الفلسطيني حيث لديها ميليشياتها.
من الواضح أنّ إسرائيل لن تتأثّر بردود الفعل الإيرانية. ستعتبر، من دون شكّ، أنّ ليس ما يثبت، أقلّه إلى الآن، أنّها وراء الجريمة التي قد يكون نفّذها معارضون إيرانيون يعملون لمصلحتها
سيعني الردّ الإيراني المتوقّع أنّ إيران ترفض الاعتراف بأنّ العالم تغيّر، كذلك المنطقة، وأن ليس في استطاعتها متابعة سياسة لا أفق لها، سياسة قائمة على مشروع توسّعي يعتمد إثارة الغرائز المذهبيّة. كان مفترضا في إيران الاستفادة من تجربة تصفية الإدارة الأميركية لقاسم سليماني كي تتأكّد من أنّها ليست قوة إقليمية قادرة على ممارسة دور المهيمن على المنطقة. كلّ ما في الأمر أنّها دولة من دول العالم الثالث يعيش نصف شعبها تحت خط الفقر. تستطيع إيران التدمير، لكنّها لا تستطيع البناء. هذا ما تكشّف في كلّ مكان تدخّلت فيه. ففي العراق، لعبت الدور المطلوب منها كي لا يلتقط البلد أنفاسه في مرحلة ما بعد الاجتياح الأميركي في 2003. في لبنان، عملت كلّ ما تستطيع عمله كي لا تقوم للبلد قيامة بعد الآن. وفي سوريا كانت، ولا تزال، شريكا فعّالا في الحرب التي يشنّها النظام الأقلّوي على شعبه منذ ما يزيد على تسعة أعوام. وفي اليمن زادت بؤس اليمنيين بؤسا. وفي غزّة دعمت الإمارة الإسلامية للإخوان المسلمين التي أقيمت على الطريقة الطالبانية (نسبة إلى طالبان).
يمكن أن توفّر جريمة اغتيال العالم النووي الإيراني، على الرغم من طابعها المأساوي، فرصة لإيران كي تكتشف حجمها الحقيقي وتتّعظ. كي تكتشف قبل أيّ شيء آخر أنه ليس لديها نموذج حضاري قابل للحياة يستهوي الآخر، بمن في ذلك العرب، تستطيع تصديره إلى محيطها والعالم.
كانت مجموعة من العقوبات الأميركية كافية كي ينهار اقتصادها. تستطيع القيادة في إيران أن تسأل نفسها سؤالا واحدا: ما الذي فعلته كلّ الصواريخ والقنابل النوويّة للاتحاد السوفياتي؟ هل منعت انهياره مطلع العام 1991؟
نقلاً عن: العرب اللندنية