لا يوجد، حتى في أكثر دول العالم تخلفا وفشلا وفسادا، جيشٌ وطني وشرطة، ثم جيشٌ آخر اسمُه الحشد الشعبي. فهل سمعتم عن حشدٍ شعبي أميركي أو روسي أو فرنسي، أو حتى مصري أو سعودي أو إماراتي، مثلا؟ أبدا. وذلك لأن التاريخ لم يخبرنا عن حكومة، سوى في إيران والعراق، تتآمر مع أحزابها ومرجعياتها على الحط من قيمة جيشها الوطني، وتتعمد إصابة ضباطه وجنوده بالإحباط، وتشعرهم بقلة القيمة، وبالدونية، وتقول لهم، بالفعل وليس بالكلام: لأنكم غير مؤتمنين على حماية الوطن وسيادته وكرامة شعبه، وبسبب عجزكم وجبنكم فإننا ملزمون بأن نؤسس جيشا آخر غير جيشكم، نثق به، ونستأمنه، حتى وإن كان أغلبُ مسلحيه من غير العسكريين، ومن غير المتعلمين، وكثيرٌ منهم من أصحاب السوابق الجنائية المخلة بالشرف، ونخصه بما لا يملكه جيشكم الوطني من الأسلحة والمعدات الحديثة، ونفعل كل ما هو ممكن لدعمه، وتقوية ساعده، رغم كل القوانين والأعراف والأصول.
وبهذه المحاباة التي لا حدود لها أصبح الحشدي مدللا ومفضلا في الوظائف والعقود والعمولات وتجارة المحرمات، وقادرا على أن يرتكب ما يشاء من المخالفات والموبقات، وأن يبلغ به الغرور حداً يبيح له أن يشتم رئيس جمهوريته، وأن يهين رئيس وزرائه، عند الضرورة، ويُهدد أكبر رأس في الحكومة والبرلمان والجيش والشرطة، دون حساب ولا عقاب.
والمعروف أن هذا الحشد الشعبي تشكل في منتصف يونيو/حزيران 2014، في أعقاب سقوط محافظة نينوى واحتلالها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كجيش رديف للجيش الوطني لمواجهة الاحتلال.
وحين أصدرت المرجعية الدينية في النجف فتواها المسماة بفتوى "الجهاد الكفائي" التي دعت القادرين على حمل السلاح إلى التطوع لمقاتلة داعش سارع القتيل قاسم سليماني إلى اغتنامها فرصة ذهبية لدمج مليشيا بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، مؤسِسِا حرسَه الثوري الإيراني الجديد، ولكن بثوب عراقي ديني طائفي أوصت به المرجعية.
ولا ننكر أن فصائل من الحشد ساهمت في معارك التحرير، ولكنَّ جزءًا كبيرا من النصر على الدواعش صنعه الجيش العراقي وأجهزة الأمن والشرطة.
ثم إن هذا النصر لم يكن ليكتمل لولا الدعم الكبير الذي قدمته قوات التحالف الدولي، بخبراتها وأقمارها التجسسية وطيرانها الذي كان حاسما وفاعلا، باعتراف رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
وإلى هنا كان من الواجب والمنطق والعدالة أن يُحل، وأن يعاد مسلحوه إلى منازلهم، مع الشكر والامتنان، وإراحة ميزانية الدولة المتهالكة من مصاريفه، بعد أن أعلن رئيس الحكومة، حيدر العبادي، في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2017 عن إكتمال تحرير الأراضي العراقية، وإحكام السيطرة على الحدود الدولية العراقية السورية، من منفذ الوليد إلى منفذ ربيعة.
ولم يكن انتهاءُ الحرب ضد داعش وانتفاءُ الحاجة إلى الجهاد الكفائي هما السببيْن الوحيديْن اللذين يفرضان حلَّه، بل لأنه تحول إلى باب ارتزاق وسرقة للمال العام، وإلى شرعنةٍ للعمالة للأجنبي، والعبث بالأمن الوطني والسيادة الوطنية وسلطة القانون.
هذا مضافٌ إلى ما رافق وجوده من انتهاكات ترقى إلى درجة التطهير العرقي التي مارستها ميليشيات الحشد في المدن العراقية المحررة من "داعش"، بحسب منظمات محلية ودولية، ومنها قيامُه بالتعذيب والإخفاء القسري، وقتل المدنيين والأسرى تحت التعذيب، ونهب مدن وقرى ثم حرق آلاف المنازل والمحال فيها ونسفها بالمتفجرات وتدمير قرى بالكامل، ومنع النازحين من العودة إلى مدنهم وقراهم، من يومها وإلى الآن.
حتى أن المرجعية التي أفتت بتأسيسه غضبت عليه بعد أن طفح كيل الباطل فيه، وسحبت منه فصائلها المسلحة الأربعة، وأعادتها إلى إمرة القائد العام للقوات المسلحة.
وإلى هنا، وبناءً على كل هذه المبررات والمقدمات والنتائج، صار ثابتا وجليا أن هذا الحشد الشعبي لم يعد جيشا رديفا مساعدا للجيش الرسمي العراقي، بل رقيبا ومُسيِّرا مسلَّطا عليه، أقوى منه، وأفضل تسليحا، وأكثر هيبةً وهيمنة، وأقل التزاما بأنظمته المهنية العسكرية التراتبية المتوارثة.
وخلاصة القول هي أن هذا الحشد لو كان عراقيا خالصا لاعتبرناه كيانا مُفتعلا جعلته أحزابُ السلطة وتياراتُها وكتلها السياسية بابا لسرقة أموال الدولة، ودرعا لحماية فسادها، ولأضفناه إلى حالات الفساد المالي الكثيرة التي أصبحت عادية في العراق الديمقراطي الجديد، ولانتظرنا يوما يجيء، فينتفض فيه الشعب العراقي كله، وليس شيعته فقط، وينتصر، ثم يحاسب من سرق، ومن غدر، ومن خان.
ولكنه لم يكن عراقيا، ولن يكون. فهو، من عمامته إلى كعب حذائه، إيرانيُ الولاية والانتماء، وأحدُ الأذرعة التي يستخدمها النظام الإيراني ضد خصومه العراقيين والعرب والأجانب، ولا يتلقى أوامره من وزير الدفاع العراقي، ولا من رئيس الدولة، ولا من رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، بل كان يتلقاها من القتيل قاسم سليماني، والآن من وريثه اسماعيل قاآني، فقط لاغير.
ألم تسمعوا عباس موسوي المتحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية وهو يقول قبل أيام "إن حشدنا الشعبي بزعامة الفياض سيدمر القوات الأميركية دفاعا عن إيران".
وهذا ما يفسر تخاذلَ الحكام العراقيين، جميعهم، بدءًا بالرؤساء والوزراء وانتهاءً بـالمصفقين الجالسين تحت قبة البرلمان، وعجزَهم عن المساس بأي شأن من شؤونه، ومسارعةَ أكبرهم قبل أصغرهم إلى تلبية أوامره، كلها، مشروعةً أو غير مشروعة، وتأمينَ احتياجاته، دون نقاش.
والحقيقة أننا لا نعتب على نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبدالمهدي بسبب عدم قيامهم بلجم هذا الكيان الشاذ الذي أصبح أذاه أكثر من نفعه، وذلك لأنهم ذيول متطوعون لخدمة إيران، وللدفاع عنها، عن قناعة كاملة بأنهم بهذه التبعية لا يخونون وطنهم وأهلهم، بل هم يؤدون واجب العقيدة والعبادة.
ولكننا نعتب على مصطفى الكاظمي رئيس وزرائنا الجديد الذي أوحى لنا بأنه آتٍ على حصان أبيض لتحرير الحبيبة من أيدي الخاطفين، وبأنه الموكل بإصلاح ما خربه أسلافه السابقون.
فباعتباره القائد العام للقوات المسلحة، والحاصل على دعم شعبي لم يتوفر لغيره من قبل، وعلى تأييد دولي غير مسبوق، كنا نتوقع منه أن يسارع إلى تحجيم هذا الكيان المتمرد على الدولة ودستورها وسيادتها وكرامة شعبها، وتجريده من سلاحه الذي أصبح المهددَ الأخطر من كل تهيد آخر للأمن الوطني، والمعرقلَ الحقيقي لعودة الحياة المدنية، والمنتهكَ الأكبر للسيادة الوطنية، والمخربَ الأول لمصالح الشعب العراقي وعلاقاته الخارجية.
وحين لا يفعل سنعذره، ونظن بأنه يراوغ ويناور في انتظار الفرصة المواتية.
ولكن زيارته لمقر قيادة الحشد الإيراني، وارتداءَه قميصه، مصيبة. والمصيبة الأعظم هي إعلانُه صراحة أن الحشد، لديه وهو القائد العام للقوات المسلحة، بنفس الدرجة من الأهمية مع الجيش والأمن وجهاز مكافحة الإرهاب.
إذن، والحالة هذه، أصبح علينا أن نعود إلى أحلامنا الوردية، وأن ننتظر فارسا عراقيا آخر يمنُّ علينا بالحرية والكرامة، ويخلصنا من الضلال والفساد والعمالة، في يم من الأيام.
نقلاً عن: ميدل إيست أونلاين