كان لا بد من ظهور التيه في بني إسرائيل بعدما رفضوا، الأمر الإلهى بدخول الأرض المقدسة. وكان التيه عقوبة لبنى إسرائيل على المخالفة، حتى مات هارون وموسي في التيه دون دخول الأرض المقدسة. وكانت مدة التيه أربعون سنة، وذلك لكى يختفي هذا الجيل، جيل الجبن، والضعف، الرافض للاستجابة لأمر الله.
قال الله تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26))َ سورة المائدة
التيه: وهو في اللغة الحيرة
يقال منه: تاه يتيه تيها أو توها إذا تحير، وهذه الحالة تنطبق على كل من رد الأمر الإلهى، فهو متحير، وفى حالة تيهٍ، وإن بدا للناس أنه متماسك وإنه مستقر.
الحق ما أخبرنا الله به فى كتابه عن قصص الأولين، وهى للعبرة والعظة،
وألا نعمل بعملهم وأن نتجنب الوقوع فيه.
كتب الله التيه على بنى إسرائيل، وفيهم الأنبياء والمرسلين، وفيهم موسي عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وفيهم صالحي بنى إسرائيل من المؤمنين.
فالتيه يصيب الأمة حتى لو فيها الصالحون، لأن عدم الاستجابة لأمر الله تصيب الكل، ويحرم خلق كثير بذنوب العباد من رحمات الله فى الدنيا،
فهل أمتنا في حالة تيهٍ وتخبط، بسبب بعدها عن الحق المنزل من السماء على خير الأنام، أم تخليها عن أوامر الحق تحت أى مسمى، وتأويل،
هل كل ذلك وغيره، ما جعلها هكذا على الرغم من وجود المصلحين،
أم أن المصلحين هم من خرجوا على منهج الله فشقينا بسببهم.
الأمة التى فى التيه أمة متحيرة (متخبطة )،أمة تحتاج العودة إلى ربها، تحتاج البعث من جديد، تحتاج إلى يوشع بن نون آخر، هذا النبي الذى فتح الله على يديه، ومعه الفئة المؤمنة.
إذن نحن نحتاج إلى العودة للأمر الإلهى، ونحتاج إلى قائد رباني، وإلى فئة من المؤمنين، فمتى ندرك ذلك، ومتى نربي هذا الجيل.
لكن هناك سؤال:
هل يلزم هلاك هذا الجيل للخروج من التيه كبني إسرائيل؟
أم يعدل الجيل نفسه للخروج من التيه ؟
ليس ملزما لنا أن يهلك هذا الجيل بقدر وجود من يتمسك بالأمر الإلهى ومعرفة الخلل وإيجاد القائد الرباني.
تحقيق مناط الأمر الإلهى هو السبيل الوحيد للخروج من حالة التيه، ولا يفسر كل أحد الأمر الإلهى على مايراه هو، أو على ما يؤله هو أو على ما يرى من أعذار في زمانه، فبنى إسرائيل تعذروا وقالوا : ( قالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)) سورة المائدة
الأعذار فى زماننا من الممكن ألا تكون متوافقة في نفس المنطق والصورة فهي فى الآية صريحة، لكنها عندنا تغلف بكثير من الحجج و كثير من الإشكاليات الحديثة فنحن في عصر الكلمة ومشتقاتها والفقه وتقعيده والنظريات والبحث والسياسة ودهليزها، فما أكثر المنطق العقلي والترف الذهنى وتسويف الأمور، وإخراجها من مضمونها، فالناس تتمسك بالنوافل وتضيع الفرائض، وتتورع عن اللمم وترتكب الكبائر، ومظهر التدين الشكلى في الناس واضح، وفى الداخل أبعد ما يكونون عنه، ووجدنا بيننا من يرسب في أول امتحان مع ما تعلمه طوال عمره، من قواعد الإسلام،
ووجدنا بيننا من اختلف قوله فى الرخاء والأمن عنه ساعة الشدة البأس ووجدنا ألف مخرج ومخرج للشرع، ووجدنا من عادى باجتهاد ووالى باجتهاد، وجدنا السياسة فوق الملة، ووجدنا السياسة مع الطائفية، ووجدنا الشماتة في أخوة الدين، والفرح بقتل المسلمين، ووجودنا من ينصر الكافرين، ووجدنا من يكفر المسلمين، ووجدنا الانتساب للجماعة مقدم على الانتساب للأمة.
فهذا كله وغيره جزء من التيه الكبير الذى نعيش فيه.
ثم يسئل السائل لماذا يتأخر النصر؟
ولا أدري أيُّ نصرٍ ينتظر وعلى من!!
إذا تساوينا في المعاصي وإذا أولنا أوامر الشرع، وإذا أخذنا كل رخصة، واذا رضينا بالدنيا، وإذا أيدنا الباطل فكيف ننتصر؟
واذا طلبنا العون والتأييد من الأعداء، واذا صدقنا كل تهمة ألقوها علينا وصرنا نستحي من شرعنا، وإسلامنا فكيف ننتصر؟
إنه التيه يا عباد الله، إنه التيه!!
اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.