طالما تحدثت في تغريداتي ولقاءاتي الصحفية ومقالاتي عن إيران واختراقاتها للجماعات المسلحة الجزائرية خلال مرحلة التسعينات، التي تعرف بـ"العشرية الحمراء"، وهو ما أنكرته السفارة الإيرانية بالجزائر في بيان رسمي.
رأيت من الضروري الكتابة في هذه القضية، وخصوصاً أنه وصلتني رسائل كثيرة تطلب مني الكتابة في هذا الموضوع الشائك، كما أنه لا بد أن نستفيد في هذا الراهن الصعب من التجربة الجزائرية، لنؤكد مرة أخرى أنه حيثما تكون الحروب الأهلية تتسلل طهران لاستغلالها بما يخدم مشروعها الهدام في العالم الإسلامي والمنطقة العربية.
تجاذبات في مصلحة طهران
الدور الإيراني في الحرب الأهلية الجزائرية يعتبر من الملفات الشائكة التي لا تزال مغلقة، ولا توجد أدنى نيّة لكشف أغوارها؛ بحكم طبيعة العلاقة التي تربط طهران مع الجزائر خصوصاً في عهد الرئيس بوتفليقة، وهي المرحلة التي وصل فيها التشيّع إلى مرحلته الذهبية على عكس ما كان عليه الأمر من قبل.
لقد كلفت الحرب الأهلية الجزائرية، حسب أرقام غير رسمية، أكثر من ربع مليون قتيل، ورسمياً يجري الحديث عن مئة ألف قتيل، وخسائر مادية قاربت 100 مليار دولار، ورسمياً يجري الحديث عن 50 مليار دولار، وأكثر من 20 ألف مفقود يجهل مصيرهم لحد الآن، ورسمياً يتحدثون عن 7 آلاف مفقود.
أما عن الجرحى والمهجّرين واللاجئين والمعطوبين فيتجاوز عددهم مليون جزائري. وحتى المرضى نفسياً تجاوز عددهم المليون بسبب تلك الأحداث الأليمة التي لا تزال يلفها الغموض والغموض المضاد.
وتبقى الأرقام متضاربة عن حصيلة حرب أهلية جاءت على خلفية انقلاب عسكري قاده الجنرال خالد نزار ضد الانتخابات البرلمانية التي جرت في 1991/12/26 وأدت إلى فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ المعتمدة في ذك الوقت.
الدولة الجزائرية لا تريد الذهاب بعيداً في الملف الأمني، فهي قد أغلقته وفق أطروحتها من خلال ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي جرى الاستفتاء عليه في سبتمبر/أيلول 2005، وقد تعامل مع العناصر الذين شاركوا في حمل السلاح على أساس أنهم من التائبين الذين أخطؤوا بحق الجزائر والجزائريين.
كما أن القوانين التنفيذية لميثاق السلم والمصالحة تجرّم كل من يخوض فيما يسميها "المأساة الوطنية"، ولكن الدولة تغض الطرف عمّن يخوض في المأساة وفق مقاربة النظام الجزائري، أما وفق منظور يتنافى مع الرواية الرسمية للأزمة الدموية التي عاشتها الجزائر، فتلك جريمة يعاقب عليها قانون السلم والمصالحة الوطنية.
لقد عملت وسائل الإعلام الموالية للنظام الجزائري على التسويق لأطروحة واحدة وهي أن الذين حملوا السلاح وتمرّدوا على العسكر، ينتمون للجبهة الإسلامية للإنقاذ ذات التوجهات السلفية أو "الوهابية" كما تقول بعض الأطراف، وهذه حقيقة أن جبهة الإنقاذ كان قد سيطر على قيادتها من سمّوا أنفسهم بالسلفيين، وكثيرهم حملوا السلاح وواجهوا الجيش، وشكّلوا تنظيمات مسلحة مثل "الحركة الإسلامية المسلحة"، "الجماعة الإسلامية المسلحة"، وغيرهما.
ظلت هذه الأطروحة قائمة، والمخابرات الجزائرية لا تريد أن تفرق بين الجماعات المسلحة قبل عام 1995 وما بعده، لأنه لا يهمّها التفريق بين المرحلتين، وهنا مربط الفرس الذي يكشف التدخل الإيراني والتموين الذي تلقته جماعات مسلحة لخدمة المشروع الصفوي في الجزائر.
المعارضة الجزائرية ظلّت بدورها تروّج لأطروحة أن المخابرات الجزائرية هي التي كانت تقترف المجازر وتقتل المدنيين، وبين أطروحتين يجري التباري بالاتهامات لأجل مصالح سياسية على حساب الحقيقة التي بلا شك فيها جزء صحيح لدى الطرفين.
تجاهل الكثيرون، عمداً أو لحاجة في نفسه، بداية انحراف الجماعة الإسلامية المسلحة والتي انتهجت التكفير بحق عموم الشعب الجزائري وصارت تقتل المدنيين وتقترف المجازر الفظيعة.
فتّشوا عن إيران !
لقد كنت أول من فتح ملف إيران ودورها القذر خلال الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر، وذلك من خلال كتابي "أسرار الشيعة والإرهاب في الجزائر"، الذي صدر عن مؤسسة الشروق للنشر والإعلام في الجزائر.
وقد نشرت جريدة "الشروق" في عددها الصادر بتاريخ 2011/6/26، ملخصاً عن محتوى الكتاب مما دفع السفارة الإيرانية بالجزائر إلى نشر بيان تكذيب، وعبّرت فيه عن "أسفها الشديد تجاه ما نشرته في كتابي عن الحرس الثوري الذي قام بتدريب إرهابيين لقطع رقاب الجزائريين".
واتهمتني السفارة الإيرانية حينها بالعمل ضد وحدة الأمة الإسلامية وتماسك صفوفها، وذهبت إلى حد أن وصفتني بأنني أقوم بتشويه صريح لصورة الدين الإسلامي الحنيف، "خاصة والعالم الإسلامي يعيش في الأوضاع الراهنة هجمات شرسة من أعداء الإسلام والمسلمين، وكذا وسيلة سهلة في أيديهم للنيل من انسجام الأمة الإسلامية ووطادة العلاقات الصديقة والشقيقة التي تربط الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية اللتين انتهجتا سبيل الاستقرار، الأمن، التطور والازدهار والرقي"، كما ورد في بيان السفارة.
إنّ علاقة إيران بالجماعات المسلّحة في الجزائر لم تقتصر على تدريبهم في ثكنات الحرس الثوريّ، ولا بشبكات لهم في أفغانستان وباكستان وسوريا ولبنان، بل تجلّت في جوانب أخرى، منها محاولة السّيطرة على التّنظيمات وتوجيهها.
وفي هذا السّياق، تتجلّى أكثر قضيّة أمير الجماعة الإسلاميّة المسلّحة "الجيا" السّابق محفوظ طاجين المدعو "أبو خليل"، الّذي خلف شريف قوسميّ، المدعو "أبو عبد الله أحمد"، والّذي قضي عليه في سبتمبر/أيلول 1994 في كمين لقوّات الأمن.
روّجت بعض وسائل الإعلام في الشّبكة العنكبوتيّة خلال السّنوات الّتي خلت سرعان ما تلاشت، أنّ قوسميّ له ميولات شيعيّة أيضاً. وهذا الّذي لم نتمكّن من تثبيته بسبب المعلومات الشّحيحة في هذا الباب، وخاصّة أنّ مصادر أخرى تنفي ذلك وتؤكّد أنّ قوسميّ من أشدّ المحاربين للتّشيّع في "الجيا". فتصفية محفوظ طاجين تمّت -حسب بعض المصادر– على يد جمال زيتونيّ بعدما تنازل له عن الإمارة لدفن أسرار التّشيّع معه.
في حوار لصحيفة الحياة اللّندنيّة الصادرة في 2007/6/7، تحدّث القياديّ في الجماعات المسلّحة، عمر شيخيّ، المدعو "أبو رقيّة"، وهو أمير سابق لمنطقة الأخضريّة (ولاية البويرة) إحدى المناطق السّاخنة والملتهبة إبّان العشريّة الدّمويّة، وهي محاذية لجبال الزّبربر الّتي شهدت أعنف المعارك والأحداث. وقد سلّم نفسه في إطار قانون الرّحمة لعام 1995 الّذي سنّه الرّئيس السّابق اليمين زروال.
وممّا جاء على لسانه أنّ محفوظ طاجين كان النّائب الأوّل لشريف قوسميّ في قيادة الجماعة الإسلاميّة المسلّحة، ولمّا قتل هذا الأخير في 1994 من الطّبيعيّ أن يكون خليفته على رأس التّنظيم.
لكنّ الخلافات كانت قائمة حيث إنّه متّهم بـ "الجزأرة" والتّشيّع، وهناك أمور كثيرة ضدّه لم يفصلها عمر شيخيّ. كما حدثت نقاشات أيّام شريف قوسميّ عبر حلقات حول تشيّع محفوظ طاجين، وكان "الأمير الوطنيّ" يعتبرها مجرّد اتّهامات لا دليل عليها، غير أنّه في النّهاية اقتنع بأنّه جزأريّ وشيعيّ.
وقد أكّد شيخيّ أنّ شريف قوسميّ كان سيفتح تحقيقاً ضدّه، لكنّه قتل قبل أن يفعل ذلك، في حين عثرت على نسخة من مجلة "الجماعة" التي يصدرها تنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة" المعروف اختصاراً بـ "الجيا"، روى أن طاجين خضع للتحقيق وأعدم من جراء ثبوت تهمة التشيّع عليه.
في اجتماع تعيين الأمير، رفض الكثير من قادة السّرايا والنّوّاب القادة تعيينه أميراً وطنيّاً، فاضطرّ طاجين إلى التّنازل عن الإمارة لجمال زيتونيّ، وطبعاً هنا عرفت الجزائر تحوّلاً رهيباً ومجازر فظيعة ومروّعة…
أمّا عن الخلفيّات الّتي دفعت إلى اتّهام محفوظ طاجين بالتّشيّع فيقول عمر شيخيّ: «كان إرساله مقاتلين للتّدرّب في لبنان أحد الأسباب الّتي أثارت الشّكوك حوله، إذ سأله قوسميّ عن هذا الأمر، فأجابه بالحرف الواحد: "نحن نستعمل الشّيعة الإيرانيّين ولا نمشي في منهجهم"، فقال له قوسميّ: "إنّ الشّيعة لا يمكنك أن تستعملهم فهم سيستعملونك، حذار ثمّ حذار، لقد أرسلت وفداً إلى حزب الله في لبنان فحاذر أن ترسل وفداً آخر"، لكن محفوظ لم يكترث بذلك، فهيّأ دفعة ثانية ذهبت إلى لبنان.
وفُتِحَ تحـقيق مع النّاس الّذين ذهبوا إلى لـبنان، وأنا من الّذين حققوا معهم، فكان تحقيقاً عاديّاً، لم يكونوا راضين عن التّدريبات وقالوا: "إنّ منهجهم ومنهجنا مختلفان، كانوا ينزلون إلى سوريا ومنها إلى لبنان، ممثلهم يدعى رشيد-ع كان يتّخذ من سوريا مركزاً له، كان ممثل محفوظ في الحقيقة، لكنّه كان يعمل بوصفه ممثلاً للجماعة (يقصد الجماعة الإسلامية المسلّحة). وفي إمارة زيتونيّ، أمره الأمير (جمال زيتوني) أن يعود من سوريا إلى الجزائر لكنّه رفض.».
وعن كيفيّة بداية العلاقة بين محفوظ والإيرانيّين، يتحدّث شيخيّ قائلاً: «محفوظ ذهب بنفسه إلى لبنان حيث بقي قرابة ستّة أشهر، كان ذلك في 1991 عندما أراد الذهاب إلى حرب العراق، كانت مجموعة كبيرة من الجزائريّين حضّرت نفسها للذهاب إلى العراق لـ "الجهاد" ضدّ القوّات الأمريكيّة خلال حرب الخليج في1991.
ذهب محفوظ إلى سوريا آنذاك وهو يقول، بحسب روايته، إنّه كان يريد الذهاب إلى العراق، فإذا به يلاقي صدفة "في سوريا" فتحي الشّقاقيّ زعيم "الجهاد الإسلاميّ" الفلسطينيّ، والذي اغتيل في ديسمبر/كانون الأول 1995 بجزيرة مالطا، فقال: ماذا تفعلون هنا "لمجموعة الجزائريّين"؟ تحدّثا في دردشة قصيرة، وقال له فتحيّ الشّقاقيّ إذا أحببتم أن تنزلوا إلى لبنان نسهّل لكم الأمور.
فقال محفوظ: ما في إشكال ننزل إلى لبنان… نظّم الشّقاقيّ الأمور وتركهم في فيلا، وبعد فترة تمّ إدخالهم إلى لبنان حيث بقوا ستّة أشهر، دخلوا بوساطة فتحيّ الشّقاقيّ، وهو يقول لنا (يقصد محفوظ طاجين): إنّه صلّى مع الشّيعة وفعل معهم كذا وكذا.
لكنّنا لم نأخذ عليه قضيّة دخوله إلى لبنان آنذاك، ولكن بعد فترة بدأنا نرى رسائل تصله من مشايخ الشّيعة في سوريا، وهو أمر أخاف "الجماعة"، كانوا (مشايخ الشّيعة) يتعاملون مع محفوظ مباشرة من دون المرور بقيادة الجماعة…».
ثمّ يروي عمر شيخيّ قصّة حدثت بالجبل بعدما تنازل محفوظ طاجين عن الإمارة لجمال زيتونيّ، قائلاً:
«بقي محفوظ عضواً في مجلس الشّورى لـ "الجماعة" بعدما تنازل عن الإمارة لمصلحة زيتوني، وأذكر أنّنا كنّا نسير في سيّارة على الطّريق في منطقة بوقرّة معقل "الجماعة" بولاية البليدة، فإذا بنا نلتقي ببعض "الإخوة"، لكنّ المكان كان مظلماً فاعتقدنا أنّنا وقـعنا في كـمين للـجيش، إلاّ أنّ "الإخوة" كـانوا مع جمـاعتنا، هم عرفونا لكنّنا لم نعرفهم، ففتحنا أبواب السّيّارة وقفزنا منها، رمى محفوظ بنفسه فأصيب بكسر، جلس مدّة طويلة وهو مجبّر، نزل إلى العاصمة وارتاح وكنّا نرسل وراءه إذا احتجنا إليه.».
المصدر|الخليج أون لاين