يقاتل الطائفيين من كل جانب وحده. لا يمكننا بهذه العبارة أن نختصر سيرة الشيخ رافع طه الرفاعي العاني مفتي الديار العراقية ومسيرته العلمية والعملية البارزة، لكن بروزه وحيداً في وجه المشروع الإيراني في العراق يبدو لافتاً في ظل افتقار الساحة العراقية تقريباً لشخصيات مؤثرة غير مرتبطة بإيران، وخاصة من السياسيين. الأمر الذي يؤكده الرفاعي نفسه، حين يقول إن السياسيين العراقيين جميعهم يتلقون أوامرهم مباشرة من طهران، وهم لا يستطيعون اتخاذ أيّ قرار مهما كان صغيراً دون الرجوع إليها. أما السياسيون السنة فهم مسلوبو إرادة. ليس لديهم أيّ وزن في الحكومة، وهم عبارة عن إكسسوار إضافي لإكمال المشهد ليس إلا.
أنقذوا الفلوجة
الشيخ رافع العاني سليل أسرة عانية الأصل، وعانة التي يتحدر منها هي إحدى بلدات العراق الغربية المشهورة على الفرات، والتي أعطت العراق العديد من الرجال الذين تبوأوا مناصب كبرى في الدولة، مثل رئيس الوزراء الأسبق عبدالرحمن البزاز.
ما أن بدأت الحكومة العراقية التحضير لما قالت إنها معركة “تحرير” مدينة الفلوجة من سيطرة تنظيم داعش، حتى ارتفع صوت الرفاعي محذراً. استنفر طاقاته كلها لمنع وقوع مجزرة بحق أبناء السنة في مدينة الفلوجة من قبل ميليشيات إيران الطائفية. فهو لا يثق بأن الجيش العراقي الذي تشكل على أسس طائفية سيكون قادراً على منع ميليشيات ما يسمى بالحشد الشعبي بقيادة قاسم سليماني من ارتكاب المجازر واختطاف المدنيين كما فعلت من قبل في الرمادي وتكريت وجرف الصخر، هو يدق ناقوس الخطر ويعلن أن ترك الفلوجة وحيدة يعني ذبحها، لأن قصف المدينة، التي تضج بالسكان المحاصرين منذ أشهر طويلة، بالصواريخ والقنابل لن ينهي تنظيم داعش لكنه سيؤدي إلى قتل الأطفال والشيوخ والنساء الأسرى لدى التنظيم الذي يقول إنه تنظيم إرهابي.
يستنفر العاني العرب والمسلمين جميعاً للوقوف في وجه المشروع الإيراني الذي يهدف إلى تحويل “مدينته” إلى مدينة خالية من السكان، تصول فيها وتجول ميليشيات الحشد الشعبي الطائفي، فتعتقل من تشاء وتقتل من تشاء، ويسوق أدلة كثيرة عما حدث من قبل، فيستذكر الرمادي وتكريت بألم، وهو المغلوب على أمره. حين لا يكون ثمة خلاص من داعش إلا عبر ميليشيات طائفية حاقدة، أهكذا يكون الحل؟ يتساءل، وهو لا يملك جواباً، فهو يعرف جيداً أن العراق محتل وليس حراً.
يتهم الرفاعي علانية المرجعية الشيعية في النجف بقيادة علي السيستاني بأنها هي من مهدت الطريق لتشكيل ميليشيات الحشد الشعبي من خلال فتاواها التي طالبها أكثر من مرة بالتراجع عنها، وهو اتهام لا يجرؤ سواه على البوح به، وإن كان الكثيرون يعلمونه علم اليقين، وخاصة بعد الجرائم التي ارتكبتها عناصر الحشد الشعبي في كل المدن التي دخلتها، ما تزال صور تكريت والرمادي عالقة في الذاكرة، وما يزال وجه قاسم سليماني الضاحك حاضراً في الأذهان.
برز موقف الرفاعي وصموده في وجه المشروع الإيراني إبان حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وخلال الفترة التي شهدت اعتصامات في محافظات العراق الغربية للمطالبة بالإصلاحات، وقد اتهم الرفاعي نوري المالكي بتهريب السجناء والمطلوبين من سجني التاجي وأبو غريب لينفذوا أوامره ومخططاته الإجرامية في قتل أهل السنة والجماعة، حسب تعبيره، بالتعاون مع عناصر منظمة “بدر” و”حزب الله العراقي ” وهما المنظمتان الرئيسيتان في الحشد الشعبي، كما سيشكل السجناء الهاربون فيما بعد النواة الأساسية لتنظيم داعش الإرهابي، وسوف يقومون باحتلال، وبتواطؤ من المالكي نفسه، كما بينت التحقيقات التي أجريت لاحقاً، المدن الثائرة ضد المالكي، وهي المدن التي تقول حكومة العبادي بأنها تقوم بتحريرها حالياً.
رئيس الوزراء السابق نوري المالكي يحمله الرفاعي مسؤولية تهريب السجناء من التاجي وأبو غريب لينفذوا مخططاته في قتل أهل السنة والجماعة، حسب تعبير المفتي، بتشكيلهم النواة الأساسية لتنظيم داعش الإرهابي، واحتلال العراق السني بتواطؤ من المالكي نفسه
الرفاعي يفضح الحكومة وداعش
اتصل به المالكي، في الأسبوع الأول من الاعتصام، مستفسراً منه أو طالباً العون في إنهائها، على أنها بدت تغلق الطرق الخارجية، وكان جواب الشيخ رافع أن “ذلك لم يكن صحيحاً، وأن إنهاء تلك الاعتصامات مشروط بتلبية المطالب”. فأجابه المالكي “سأنفذ كل مطلب له علاقة بمسؤولياتي كرئيس وزراء، وسأضغط بقوة لتلبية ما يتعلق بالدوائر الأخرى”.
غير أن ما جعل الرفاعي يحتد في مواجهته ضد المالكي، لأن الأخير لم ينفذ ولا كلمة مما قاله وتعهد به، وكان عهده، حسب ما صرح به الشيخ لإحدى الفضائيات، أنه قالها صريحة “أتعهد أمام الله”، ومعلوم أن التعهد أمام الله، بالنسبة إلى رجل دين، كلمة فاصلة، تؤخذ على محمل الجد.
ألقى الرفاعي خطاباً مطولاً بعد اجتياح داعش للموصل، على أنه تحرير من جيش المالكي، والذي كثيراً ما ينعته بالهالكي، وكان الخطاب قد أذيع عشية ما حصل بالموصل، إلا أنه بعد أن أسفر الوضع باجتياح داعش لتلك المحافظة، لم يتحدث عن تحرير أو غيره، وبالفعل كان الوضع ملتبساً قبل أن تعلن داعش نواياها، وأن الضغط الذي حصل من ضرب الاعتصامات في المناطق الغربية جعل الحماس ضد المالكي كبيراً.
تبين من خلال تصريحات مفتي الديار العراقية الحالية أن الخطاب موجّه إلى الفلوجة، ليس لأنها منطقة سنية فقط وإنما أيضاً تعدّ مسقط رأسه وروضة صباه، فأخذ على عاتقه محاولة تجنيب اشتراك الحشد الشعبي في تحرير الفلوجة، وأن اشتراكه يعني كارثة طائفية، فالذي يقود الحشد، حسب تصريحات الشيخ، هو قاسم سليماني، وأن رئيس الوزراء حيدر العبادي أضعف من أن يمنع هذا الحشد من دخول الفلوجة.
قبل ذلك كان الرفاعي قد أكد بأن جميع التفجيرات التي تحدث في العراق في مختلف المحافظات، تنفذ من قبل المالكي وميليشياته تمهيداً لحرب طائفية وفق المخطط الإيراني ستؤدي بالضرورة إلى انتزاع العراق من حضنه العربي وتقسيمه إلى أقاليم متناحرة.
وحين شنت حكومة المالكي حملتها العسكرية أواخر العام 2013 لفض الاعتصامات السلمية التي كانت تشهدها محافظة الأنبار، برز الشيخ الرفاعي مدافعاً عن المعتصمين في الأنبار ومؤيدا لتشكيل جيش “العزة والكرامة” للدفاع عن أهل السنة مؤكداً أن المالكي اتخذ من “دماء السنة مشروعا لدعايته الانتخابية”. أفتى بضرب قواته المعتدية على الحرمات، مستثنياً الشرطة المحلية من هذه الدعوة، شريطة مساندتها للمجاهدين وعدم استخدام السلاح ضدهم. كما دعا باقي المحافظات لحمل السلاح وقطع طرق الإمداد عن قوات المالكي.
الرفاعي لا يعترض على سلطة شيعية، وهو الذي يقول لا سياسيو الشيعة من الشيعة ولا سياسيو السنة من السنة، إنما هي المناصب. لكنه يعترض اعتراضا قاطعا على “الصفوية” كمشروع إيراني.
لم يتوقف عند هذا الحد بل سعى جاهداً في المحافل الدولية لفضح سياسات حكومة بغداد “العميلة لإيران” حسبما يسمّيها. حمل الوثائق التي تدين جرائم الحرب التي ارتكبتها قواتها الطائفية بحق سنة العراق، ليقدمها لأعضاء البرلمان الأوروبي، ويطالبهم فيها بالضغط من أجل إسقاط الشرعية الدولية عن المالكي وكافة وزرائه.
لقد أفلحت جهوده، وإن على مستوى التصريحات، إذ أصدر رئيس بعثة العلاقات مع العراق في البرلمان الأوروبي ستراوس ستيفنسون بياناً اعتبر شديد اللهجة أشار فيه إلى أن الهجمات ضد إرهابيي القاعدة المفترضين في ست محافظات عراقية ليس أكثر من غطاء لـ”إبادة السنة المعارضين للسياسات الحكومية الطائفية على نحو متزايد من قبل رئيس الوزراء نوري المالكي”. لكن بيان ستيفنسون جعل حكومة العراق تصنف الشيخ الرفاعي على أنه أحد المتعاونين مع تنظيم داعش، وصار مطلوباً من قبلها بتهم تتعلق بدعم الإرهاب والتحريض عليه.
تجند عشرات الكتاب والصحافيين الموالين للمالكي من ذوي الميول الإيرانية الواضحة، معلنين الحرب على المفتي. فكان أبسط ما قالوه عنه إنه داعشي، وأنه متواطئ يريد تدمير العراق. فكتبت مقالات كثيرة بغرض الإساءة إليه والمطالبة بمحاكمته، وشطح الخيال ببعض أولئك الكتاب لنسج حكايات أقرب ما تكون إلى الفنتازيا منها إلى الواقع، بالإضافة إلى اتهامه بأنه كان بعثياً وصدّامياً، وأنه حاقد على الشيعة.
كيلت له الكثير من الاتهامات ممّا تمت فبركته على هوى الحكومة العراقية ومزاجها الذي يريد إسكات كافة الأصوات التي تفضح تبعيتها لإيران، والتي تقول بكل وضوح إن العراق دولة محتلة من قبل إيران وإنها مرتبطة بالولي الفقيه وجميع قراراتها تصدر من قم وتنفذ في بغداد.
العاني وريث العلم
لعل المطلع على سيرة الشيخ رافع الرفاعي العاني سيجد أن الرجل ولد سنة 1959 في قضاء الفلوجة بمحافظة الأنبار من عائلة دينية وعلمية معروفة. اشتهر منها في مجال العلوم الشرعية علماء كبار مثل السيد ملا حويش وأبناؤه السيد أحمد والسيد حميد والسيد رشيد والسيد عبدالقادر والسيد سعيد، وعرف من أحفاده السيد حامد والسيد نوري.
وعرف من هذه العائلة في جانب التصوف شيخ الطريقة الرفاعية السيد حسين بن السيد خضر بن السيد محمود وهو الجد الثاني للشيخ رافع الرفاعي.
أكمل الرفاعي الدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في قضاء الفلوجة. والتحق بسلك الدراسات الحلقية التابعة للمساجد حيث درس العلوم الأولية من مبادئ العلوم العربية والدينية على يد الشيخ خليل محمد الفياض الكبيسي.
الرفاعي لا يعترض على سلطة شيعية، وهو الذي يقول لا سياسيو الشيعة من الشيعة ولا سياسيو السنة من السنة، إنما هي المناصب. لكنه يعترض اعتراضا قاطعا على “الصفوية” كمشروع إيراني
وفي ريعان شبابه أصبح أحد العلماء المعروفين، متولياً الإمامة والخطابة منذ العام 1978 أي حين كان عمره تسعة عشر عاماً فقط. وعمل إماماً وخطيباً في مساجد العراق وجوامعه مدة ثمانية وعشرين عاماً درّس خلالها مختلف العلوم العربية والإسلامية. وألقى المحاضرات في إعدادية الدراسات الإسلامية. كما عمل مدرساً في الجامعة الإسلامية. ودرّس في مدرسة الشيخ عبدالقادر الجيلاني الدينية. ودرس في كلية العلوم الإسلامية في الدراسات الأولية والدراسات العليا .
في بغداد كان قد تتلمذ على يد كبار علماء العاصمة، ونال الإجازة العلمية من الشيخ عبدالكريم محمد المدرس مفتي الديار العراقية آنذاك، كما أجيز بأسانيد كثيرة من كبار علماء العالم الإسلامي.
حصل على الماجستير في الشريعة الإسلامية عن بحثه “الأمر عند الأصوليين”. مواصلاً إلى الدكتوراه من جامعة بغداد. وبتقدير امتياز وبدرجة الشرف الأولى عن بحثه “الصلة بين أصول الفقه الإسلامي وعلم المنطق”.
أشرف على العشرات من رسائل الماجستير والدبلوم العالي في مختلف علوم الشريعة الإسلامية وعلوم اللغة العربية، في جامعة بغداد والسليمانية والجامعة الإسلامية والأكاديمية العليا للدراسات العلمية والإنسانية التابعة للجامعة الماليزية. وعمل رئيساً للجنة الإفتاء في الأمانة العليا للإفتاء ونائباً للأمين العام فيها. وفي العام 2007 انتخب مفتياً للديار العراقية بعد وفاة الشيخ جمال عبدالكريم الدبان. للرفاعي عدد كبير من المؤلفات وهو شاعر لديه ديوان مطبوع. وبمكانته العلمية تلك، يعدّ مِن أبرز علماء السُّنة في العراق. وكما هو معروف فإن منصب المفتي يعتبر تقليداً دينياً رفيعاً لدى أهل السُّنة.
أما كون الرفاعي صوفياً على الطريقة الرفاعية، فيؤشر إلى أنه ليس على علاقة ما مع التيار الديني السياسي، كالإخوان المسلمين أو الحركات الدينية الأُخرى. هو صوفي لا بالانتماء الأسري وحسب، إنما شارك شخصياً وما يزال في المناقب النبوية، والتي عرفت بها التكايا الصوفية، فتميز بصوت شجيّ في قراءته للمنقبة، التي تقرأ في العراق، خصوصاً، على نغم المقام العراقي.
لا شيعة ولا سنة
يصف الشيخ الرفاعي السُّنَّة السياسيين بأنهم سنة المالكي، نسبة إلى تماهيهم في المشروع الطائفي الذي يقوده المالكي، يوم كان رئيساً للوزراء، فقال عنهم “هؤلاء البائعون لضمان المناصب، هم شلة من الأذناب وما أقبح بالإنسان أن يقاتل أهله، وإن هؤلاء المجاهدين أطهر من شوارب السياسيين”. ويُعد هذا الخطاب انفعاليا، خارج الهيبة الدينية، لكن قياساً لصعوبة الظرف، ومسؤولية رجل يعرفه أهل السنة العراقيون بـ”مفتي الديار العراقية”، من الممكن تفهّم موقفه وخطابه.
يتساءل الشيخ رافع طه الرفاعي غاضباً “ماذا يفعل قاسم سليماني قائد ما يسمى بجيش القدس الإيراني على أطراف الفلوجة؟ ولماذا وضعت صور نمر باقر النمر الذي أعدمته السلطات السعودية مطلع العام 2016 بعد إدانته بالإرهاب على راجمات الصواريخ التي تقصف الفلوجة؟”، ويتساءل أيضاً “هل ثمة أدلة أكثر من ذلك على أن كل ما يحدث هو حرب طائفية تقودها إيران ضد السنة؟”.
اللافت أن الرفاعي، المرجع السني، لا يعترض على سلطة شيعية. وهو الذي يقول لا سياسيو الشيعة من الشيعة ولا سياسيو السنة من السنة، إنما هي المناصب، لكنّه يعترض اعتراضاً قاطعاً على “الصفوية” كمشروع إيراني، لا يهمه سنة ولا شيعة إنما يهمه ما يريده الولي الفقيه في طهران. فهم حسب تعبيره “يتاجرون بدمائنا جميعاً”، مختصراً موقفه بالقول “لا نريد أن نكون تحت رحمة إيران”.
ولذلك كله يعتبر صوت الشيخ الرفاعي، في هذه اللحظة، أعلى من أيّ صوت رجل دين سني، وعلى وجه الخصوص حول ما يحدث للفلوجة، القلعة السنية ومسقط رأس مفتي الديار العراقية.