لتقييم أي عمل لابد من وضع ضوابط ومعايير تحكمه والعمل السياسي يأتي في قمة تلك الأعمال التي يجب ان توضع ضوابط ومعايير لأجل الانخراط فيه وإلا لأصبح الانتماء لها عبث فكري، ومن ثم إذا ما أريد تقييم الأحزاب أو الجهات التي تدخل العمل السياسي فلابد من الرجوع لتلك المعايير، وهناك معياريين للتقييم الأول: عام وفق المفهوم المعاصر، فإذا كان (التحزب، الطائفة، وعصبية الرجل وشيعة، …الخ)، تعطي دلالة واحدة وهم الجهة التي تقف في صف واحد ولها توجه واحد وربما تأتمر من قبل شخص واحد وهو الزعيم، حتى وان كان هذا الحزب يمارس الشورى في نظامه الداخلي، إلا انه وفي جميع الأحزاب تقريبا يبقى للزعيم وغالبا ما يكون هو المؤسس الصوت الأقوى، إلا انه وباختصار ان ما يميز الحزب السياسي عن غيره من المسميات هو امتلاكه لفكر سياسي وهدف الوصول إلى السلطة، وبخلافه لا يمكن ان نطلق عليه حزب سياسي. وثانيهما: ان اغلب من دخل العملية السياسية اتخذ من الإسلام منهجا له، ونحن لا نقصد الحزب الإسلامي فقط، بل ان جميع الجهات كانت ترجع للشرع الإسلامي في تعاملها أو تتخذ منه ذريعة لتبرير أعمالها، ولذلك وضعنا الجانب الشرعي والذي من خلاله يتبين لنا البعد الشرعي لتأسيس الأحزاب السياسية، ومن ثم وضع المعايير الشرعية للمشاركة في الأحزاب السياسية ومن ثم العملية السياسية في ظل الاحتلال.
ابتداءً فان الله سبحانه وتعالى قد ذكر الأحزاب في مواضع عديدة ووضعت جميعها في اتجاهين لا ثالث لهم تحزب محمود وتحزب مذموم، والتحزب المحمود هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ] المائدة (56) وفي ذات السياق قوله سبحانه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] المجادلة (22)
ومن ثم التحزب المذموم وهو الذي بين سببه سبحانه وتعالى بقوله: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] الجاثية (23)
والهوا هنا كل إتباع لغير شرع الله سبحانه وتعالى لان ذلك يؤدي إلى الفرقة والاختلاف مصداقا لقوله تعالى: [فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] المؤمنون (53) وكذلك قوله تعالى: [مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] الروم (32) لان ذلك يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه وهو ان يستحوذ عليهم الشيطان كما قال تعالى: [اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ] المجادلة (19)
وكل ذلك يؤدي التعصب المذموم فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» (سنن أبي داود والبيهقي).
وإذا كان الاختلاف والتنوع من سنن الكون التي خلقه الله سبحانه وتعالى، وهنا نتحدث هو التنوع والاختلاف المحمود، وأما الاختلاف في العقائد أي الأصول فهو من المكروه والمذموم فيه، وان ذلك كما بين (عبد القاهر البغدادي/ الفرق بين الفرق) ان المسلمين كانوا عند وفاة رسول الله (r) على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا. ومن يرى في التحزب جانب شرعي فينسب ذلك لرسول اللَّهِ (r) بحديث: “«اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ». (يرى الألباني وغيره انه حديث ضعيف لا أصل له).
وقد انقسم العلماء اليوم بين مؤيد ومعارض لقضية التحزب السياسي، كلا حسب توجهه السياسي، فمن مجمل من أيده جماعة الإخوان المسلمين، وبعض التيارات السلفية كما في الكويت ومن ثم اغلب القوى السلفية في العراق ولاحقا مصرا، وإذا كان هذا الرأي في التحزب ضمن الدولة الطبيعية، فان العمل السياسي في ظل دولة كافرة فالأمر فيه سعة من البحث ليس مجاله هنا، وكذلك الأمر تحت شرعية الاحتلال، ولأن هذا هو مجال بحثنا لان التجربة العراقية المعاصرة بنيت جميعها تحت شرعية الاحتلال، فنقول ان جميع القوانين السماوية والأرضية ترفض العمل تحت سلطة الاحتلال، وكانت كلمات مثل: (الخيانة والعمالة والجاسوسية) وغيرها من الأوصاف التي تطلق على من يمارس العمل السياسي بل وحتى الإداري تحت سلطة الاحتلال، وحين سؤال (بوش الابن) الذي احتل العراق أجاب: “إذا تعرضت أمريكا لغزوا فسأنظم للمقاومة” إلا انه ومع تغيير في بعض المفاهيم في المنطقة حاول لبعض إيجاد ذرائع شتى لمشاركته بالعملية السياسية مثل: (مقتضيات المصلحة، والسياسية الشرعية تتطلب ذلك، وحفظ الضروريات) وغيرها من المبررات التي أدعت بعض الجهات كسبب للدخول في العمل السياسي تحت سلطة الاحتلال الأمريكي، ومع ان ذلك يخالف الشرع، وهذا حكم شرعي أفتى فيه الكثير من العلماء ، حتى ان جماعة الإخوان المسلمين في مصر وهي تتزعم التنظيم الأم قد أعلنت براءتها من الحزب الإسلامي في العراق، وكذلك بعض قادة الإخوان في العراق، وكذلك منظر الإخوان في العراق (احمد الراشد)، والأمر ينطبق على القوى (السلفية، والعلمانية، والقومية والوطنية)، ولكن ولكي لا نحكم على أصحاب هذه التبريرات مسبقا فسيتم في الحلقات القادمة من هذه السلسلة تقيم الجميع بما الزموا أنفسهم به، ووفق المعياريين المشار لهم المعاصر، والذي أطلقنا عليه العام، والشرعي الذي وضعه لأنفسهم، بعد ان حسم الشرع برفضه لأصل التحزب ومن ثم المشاركة تحت سلطة محتلة وظالمة.
المصدر| مؤسسة أبعاد البحثية