في مقال تحليلي تشرته دورية "فورين بوليسي"، كتب الباحث في معهد الشرق الأوسط، أليكس فاتانكا، أن زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، لقمة مجموعة السبع في فرنسا أواخر الشهر الماضي، فاجأت كثيرين في الغرب، حتى إن البعض ينظر إليها على أنها فأل حسن. لكن بالنسبة للقيادة الإيرانية، كانت رحلة ظريف السريعة إلى بياريتز بمثابة تسديدة طويلة بقليل من الحظ لعكس اتجاه الموقف الأمريكي الإيراني. وتأكدت هذه الشكوك في الأيام التي تلت ذلك، إذ لا تزال إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ترفض رفع العقوبات عن النفط الإيراني، ولن تشارك طهران في محادثات مباشرة مع واشنطن حتى يتحقق بعض التخفيف الواضح من العقوبات من قبل الجانب الأمريكي.
غادر ظريف "بياريتز" خالي الوفاض. كانت رحلته القادمة أكثر وعدًا، فقبل أن يصل إلى بكين، كان ظريف قد وضع النقاط على الحروف لصحيفة "جلوبال تايمز" الصينية البارزة. ذلك أن دعوته في مقالة رأي نشرتها الصحيفة لتعزيزما أسماه "شراكة إستراتيجية" مع الصين هو طموح متكرر للقيادة في إيران. ولكن على الرغم من حاجة طهران العميقة لبكين لإنقاذها، فإن الرأي السائد هو أن هناك حاجة إلى علاقة مختلفة نوعياً مع الحكومة الصينية قبل أن تتمكن إيران من الالتزام بأن تصبح مرساة الصين في غرب آسيا. السؤال هو كيف ترى الصين مصالحها طويلة المدى في إيران.
في الصدام الجغرافي السياسي الكبير الجاري بين الولايات المتحدة والصين، من غير المنطقي أن ترضخ بكين لجدول أعمال واشنطن بعزل طهران. في الواقع، انتهك الصينيون علنًا العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران من خلال الاستمرار في شراء النفط الإيراني، وهذا من بين أمور أخرى. ويذهب بعض المراقبين إلى أبعد من مجرد توقع خطة إنقاذ صينية بالجملة لإنقاذ إيران من براثن إدارة ترامب: "إن إيران هي مفتاح خطط الصين، مثلما أن خطط الصين هي مفتاح مصير أوراسيا"، كما كتب الباحث والكاتب روبرت كابلان مؤخرًا في صحيفة "نيويورك تايمز".
ليس هناك شك في أن بكين تعتبر إيران العقار المُفضل في غرب آسيا، فهي بلد يتمتع بموارد طبيعية من الدرجة الأولى، وكثير من رأس المال البشري، وسوق جائع وغير مستغل نسبيًا. وتعدَ الصين بالفعل أكبر شريك تجاري لإيران. ومن وجهة نظر الصين، ببساطة، لا يوجد سبب يجعلها تريد نجاح حملة الضغط القصوى لإدارة ترامب على إيران. ومع ذلك، هذه ليست القصة كلها، فالعلاقات بين الاثنين أكثر تعقيدًا مما يظهر.
منذ أوائل العقد الأول من الألفية الثانية، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لإيران وزبونها للنفط. ويمتد التعاون ليشمل مبيعات الأسلحة والموازنة الجغرافية الإستراتيجية ضد الولايات المتحدة. وقد حدَد المخططون الصينيون إيران على أنها واحدة من أهم الدول في ربط آسيا بأوروبا من خلال مبادرة الحزام والطريق "Belt and Road "، وهي مبادرة السياسة الخارجية الرائدة للرئيس الصيني شي جين بينغ.. والهدف النهائي للمبادرة هو إعادة هيكلة نظام قواعد التجارة العالمية وممارسات الاستثمار إلى نظام أكثر ملاءمة للصين. ويهدف أيضًا إلى إبراز القوة الناعمة وإنشاء الأسس لهيمنة الصين في أوراسيا.
وقال الكاتب إن كثيرا من ملامح الرؤية للتعاون الإيراني الصيني حُدَدت في زيارة "شي" التي قام بها لطهران في يناير 2016. واتفقت الدولتان على توسيع التجارة لتصل إلى 600 مليار دولار على مدى عشر سنوات مع بناء تعاون أقوى ضمن خطة مدتها 25 سنة. وبالإضافة إلى التجارة، تُعدَ الصين مستثمرًا رائدًا في السوق الإيراني، إذ تستثمر حوالي 100 شركة صينية كبرى في القطاعات الاقتصادية الرئيسية في إيران، وخاصة الطاقة والنقل. وعلى سبيل المثال، تعيد المؤسسة الصينية النووية تصميم مفاعل آراك IR-40 للمياه الثقيلة في إيران لتلبية متطلبات عدم الانتشار ضمن صفقة إيران النووية لعام 2015.
وقدمت الحكومة الصينية قرضًا بقيمة 10 مليارات دولار للشركات الصينية لبناء السدود ومولدات الطاقة وغيرها من البنى التحتية في إيران، مثل الدفعة الأخيرة لربط السكك الحديدية بين بايانور في منطقة منغوليا الداخلية بالصين وطهران. وتشمل مشاريع النقل الأخرى بناء أو تمويل خطوط السكك الحديدية إلى مدينة مشهد الشرقية وميناء بوشهر في الخليج الفارسي. كما تريد الصين المساعدة في تسريع بناء ميناء في تشابهار على خليج عمان. مثال آخر بارز هو خطوط "المترو" الخمسة في طهران، وأُنشئت جميعًا بواسطة الشركات الصينية. وصُنعت عربات السكك الحديدية من قبل شركة إيرانية صينية مشتركة.
وعلى الرغم من أنها لا تزال تفتقر إلى بعض التقنيات المتقدمة المتاحة للشركات الغربية، فقد أصبحت شركات الطاقة الصينية مطورين مهمين لحقول النفط والغاز الطبيعي في إيران، التي تمتلك ثاني أكبر غاز (بعد روسيا) في العالم. ولا شك في أن الصين قد استفادت اقتصاديًا من غياب شركات الطاقة الغربية في إيران بسبب الضغوط الأمريكية.
وصيغة النفط الخام الإيراني المخفضة التي تذهب إلى الصين مقابل أي شيء ترغب الصين في تقديمه غير صالحة لرؤية إيران للشراكة الإستراتيجية، ولهذا حثَ وزير الخارجية الإيراني، طريف، بدلا من ذلك، الصينيين على السماح لإيران "بالمساهمة بفعالية في خطة الصين لبناء قاعدة رائدة على مستوى العالم للعلوم والتكنولوجيا والابتكار." لقد كان طلبًا إيرانيًا لإدراجها في ما اعتبره كثيرون في طهران عصر ذهبي صيني لم يظهر بعد. وفي سعيها لإغراء الصينيين، يُقال إن طهران مستعدة لإلغاء متطلبات التأشيرة للسائحين الصينيين، وهذا مجرد الفصل الأخير في سياسة إيران نحو "التطلع إلى الشرق" في إيران، وهي قديمة قدم الثورة الإيرانية نفسها.
ورأى الكاتب أنه لا يوجد أدنى شك في أن الصين مستعدة بشكل متزايد لاستغلال ميل إدارة ترامب لاتخاذ إجراءات من جانب واحد لإثبات سمعة بكين على أنها صاحب مصلحة مسؤول. ستلعب الصين أوراقها الإيرانية وفقًا لذلك. وسوف تملأ الفراغ التجاري والاستثماري الذي خلفته الشركات الغربية المغادرة في إيران وتشجع على زيادة التجارة المقومة باليوان. ومن الناحية السياسية، سوف يستفيد الصينيون من الأزمة النووية ليقولوا إن تعدد الأقطاب هي الطريق المتقدم لحل التوترات في الشرق الأوسط. ولا يقتصر الأمر على انتقاد أحادية الجانب الأمريكي فحسب، بل إن بكين تخشى أيضًا صراعًا أوسع نطاقًا في المنطقة، من شأنه أن يعطل وارداتها من الطاقة.
ومع ذلك، وفقا لتقديرات الكاتب، فإن الصين لا تعتبر إيران أقرب صديق لها. فحتى عندما تسارعت العلاقات الإيرانية-الصينية في الألفينيات، بعدما تفوقت الصين على ألمانيا وأصبحت أكبر شريك تجاري لإيران، لا تزال بكين تولي اهتمامًا وثيقًا بحساسيات واشنطن تجاه طهران. وحتى آخر الأرقام الاقتصادية من الأشهر الخمسة الأولى من عام 2019 تظهر أن تجارة الصين مع إيران انخفضت بشكل ملحوظ مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، عندما لم تكن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران سارية.
لكن ليس كل شيء في العلاقات الإيرانية - الصينية يتشكل من خلال الإجراءات الأمريكية. لنأخذ موقف الصين الأخير تجاه محاولة إيران الطويلة الأمد للانضمام إلى منظمة "شنغهاي" للتعاون التي تقودها الصين، عضوا كامل العضوية. الإيرانيون ليسوا متأكدين من انفتاح بكين على الفكرة. لقد رفضت المنظمة مرارًا بدء محادثات الانضمام مع طهران، مما أثار خيبة أمل إيران. ومع ذلك، ليس سراً لإيران أن الصين لها علاقات مع كل دولة في المنطقة -بما في ذلك خصوم إيران إسرائيل والسعودية-، وهو إنجاز قد يتعرض للخطر إذا تحركت بكين بالقرب من طهران.
ببساطة، وعلى الرغم من نداء ظريف الحثيث للقيادة الصينية، فإن طهران لا تتوقع أن تنحاز الصين إليها في الموقف ضد الولايات المتحدة بأي ثمن. إذ من المتوقع أن تلعب الصين أوراقها الإيرانية بعناية. لكن الإيرانيين يأملون في استمرار الخلاف الأمريكي الصيني وتوفير بعض الفرص لطهران.
وسيحتاج الإيرانيون إلى المزيد من القروض والاستثمارات من الصين، ومن المرجح أن يكونوا على استعداد لتقديم مشتريات صينية من النفط الإيراني بخصم مستمر. ومن المرجح أن يرى صناع السياسة الصينيون فرصاً لتحقيق مكاسب أكبر من إيران المنعزلة عن الغرب وتعتمد على الدعم الاقتصادي والأمني الصيني. وإحدى الإشارات المبكرة لنهج بكين في مسألة العقوبات الإيرانية ستكون كيفية استجابة الصين لمطالب إدارة ترامب بوقف استيراد النفط الإيراني ، فالإعفاءات التي سمحت لها سابقًا بمواصلة هذه الواردات انتهت في مايو. وإذا اتخذت بكين موقفًا أكثر جرأة في الدفاع عن طهران وتحديًا لواشنطن، مثل تزويد الأوروبيين والإيرانيين بشبكات مالية بديلة لمساعدتهم على التهرب من العقوبات الأمريكية، فقد يشير ذلك إلى الحسابات الصينية بأن إدارة ترامب هي نمر ورقي، وأن إستراتيجيتها تجاه إيران لن تكون سوى حملة مؤقتة.
**رابط المقال الأصلي:
https://foreignpolicy.com/2019/09/05/chinas-great-game-in-iran