المبحث الثاني
مجتمع الأسياد – العبيد
حتى انهيار الإمبراطورية الساسانية، ظل النظام السياسي والاجتماعي في فارس قائما على ثنائية الأسياد والعبيد، في الداخل والخارج. وهو ذات المنطق الفرعوني[40]، وكذا المنطق اليهودي، صاحب مقولات « الغوييم» و « الأغيار» و « شعب الله المختار». ففي الداخل ثمة أسياد وعبيد، وفي الخارج فإن فارس هي السيدة وغيرها عبيد. مثل هذه النظرة الاستعلائية، نجدها في المصنفات التاريخية وكتب علماء « الإمامية»، وتخترق الثقافة والدين على السواء. وتصل إلى حدود هوية « الإمام الغائب» الذي سيكون فارسيا، أو على الأقل من ذرية الحسين، الذي تزوج بحسب مزاعم « الإمامية» من شهربانويه، ابنة يزدجر الثالث، آخر ملوك السلالة الساسانية. أما اليوم فترِد على ألسنة أعلى هرم السلطة في إيران[41].
مثل هذه الثقافة تحتل ركنا ركينا في مجتمع قبلي عميق، بحيث تغدو فيه لفظة « السيد» أساس العلاقة بين زعيم القبيلة وأتباعه. لكنها ستغدو أعمق أثرا، حينما تعتاد أمة على المزاوجة بين الزعامة القبلية والزعامة الدينية. ففي مثل هذه الحالة لن يكون النظام السياسي إلا نسخة طبق الأصل عن النظام الاجتماعي. وهذا ما كان أحد مواضيع البحث عند د. عبدالله محمد الغريب حين أشار إلى أن: « الزعامة الدينية في بلاد فارس كانت تتمثل في قبيلة من القبائل»، أما: « رجال القبيلة الدينية فهم ظل الله في الأرض، وقد خلقوا لخدمة الآلهة، والحاكم يجب أن يكون من هذه القبيلة، وتتجسد فيه الذات الإلهية، وتتولى هذه العائلة شرف سدانة بيت النار». ويخلص إلى القول بأن: « عبادة الله عن طريق القبيلة هو الذي دفع الفرس إلى التشيع لآل البيت لا حبا بآل البيت ولكن لأن هذا التصور يلائم عقيدة المجوس». إذ: « لا بد من عائلة مقدسة تتولى شؤون الدين، ومن هذه العائلة المقدسة الحكام وسدنة بيوت النار، ومن أهم هذه العائلات: ميديا، المغان»[42].
أما من جهته فقد قدم أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة كوبنهاجن في الدانمرك، آرثر كرستنسن، قراءة عميقة، لبنية المجتمع الفارسي الطبقية، وعلاقته في النظام السياسي[43]. ووفق تراتبية هرمية وحادة، نجد صداها في الفلسفة الإغريقية القديمة، ثمة بنية طبقية حادة، حتى أنها تخترق كل طبقة من طبقات النظام. والعجيب أن البناء الطبقي في فارس، تصاغ وحداته وفق الكتاب المقدس المنسوب للمجوسية، والشهير باسم « الأفيستا». ويلفت كريستينسن الانتباه إلى أن: « الهيكل الاجتماعيّ والإداريّ من الأُمور المُقدَّسة، التي لا تحتمل التغيير، حتَّى أواخر عهد الإمبراطوريَّة». وينقل عن « الأفيستا» نصها على ثلاث طبقات اجتماعية، باستثناء طبقة الحكام. وهي: « (1) رجالُ الدين، و (2) رجالُ الحرب و (3) الحرَّاثين، وأصحاب المهن والحِرف». ويلاحِظ أنَّ: « تطوّر الحياة العامَّة في الإمبراطوريَّة، أفرز نظامًا سُباعيًّا على أساس سبع طبقات، وقُسِّمت كُل طبقة بدورها إلى عدَّة أقسام». وأن: « المُجتمع الفارسي الساساني قائمٌ على نظام مُلزم للطبقات، وفق هيكلٍ أنشأه مؤسس هذه السُلالة، الشاه أردشير بن بابك». أما الطبقات السبع فهي:
《 الطبقة الأولى،هم المُلوك والأُمراء وحُكَّام الولايات، وعلى رأسهم شاه فارس الذي يحكم وفقًا لِنظريَّة الحق الإلهي المُقدَّس للمُلوك، ويحمل لقب « شاهَنشاه» أي « ملك المُلوك».
الطبقة الثانية، هم الأشراف، والطبقة القويَّة المُكوَّنة من رؤساء الأُسر السبع المُمتازة، ولِكُلِّ أسرةٍ منها منطقة نُفوذ تُقيمُ فيها إلى جانب انخراط أفرادها في البلاط، ويحتكرون بعض الوظائف العامَّة مثل تتويج الملك والتعبئة العسكريَّة وإدارة شؤون الحرب وجباية الضرائب.
الطبقة الثالثة،هم رجال الدين، وهم عدَّة أقسام، يرأسهم قاضي القضاة أو « موبذان موبذ»، ثُمَّ المؤابذة والزُهَّاد والسدنة، والهرابذة خُدَّام النار المُقدَّسة.
الطبقة الرَّابعة، هم رجال الحرب، يترأسهم « إيران سپهبد»، وتشمل صلاحيَّاته وزارة الحرب وقيادة الجيش العُليا، يليه الضُبَّاط على اختلاف رُتبهم ويُطلق عليهم لقب « الأساورة».
الطبقة الخامس، هم موظفو الدواوين أو الكُتَّاب، وتضم كُتَّاب الرسائل والحسابات والشُعراء والأطباء والمُنجمون.
الطبقة السَّادسة، هم «الدَّهاقون»، رؤساء القُرى ومُلَّاك الأراضي الذين يستمدون قوَّتهم من الملكيَّة الوراثيَّة للإدارة المحليَّة، ومسؤوليته جباية الضرائب وتمويل الدولة.
الطبقة السَّابعة، هي طبقة الشعب، وهم الفلَّاحون والصُنَّاع والرُعاة والتُجَّار وأهل الحِرف》.
حين قسم أفلاطون في كتابه « The City»، المعروف باسم « الجمهورية»، راعى في التقسيم حظر الارتقاء من الطبقات الدنيا إلى طبقة الأرستقراطيين، إلا بشروط. وكذا الأمر في النظام الفارسي. فالارتقاء مسموح لكن بشروط[44]. أما فيما يتعلق بطبقة رجال الدين فمن المحظور الانتساب إليها إلا وراثيا، لأنها طبقة ترتبط فيما بينها بموجب خط الدم وليس أي خط آخر. فإذا كانت هذه الطبقة هي المسؤولة عن بلورة النظام الاجتماعي والتحكم بالنظام السياسي، وهي المتحدة مع طبقة الأكاسرة والملوك، فمن الطبيعي أن يكون النظام السائد عبوديا بامتياز، ومن الطبيعي أكثر أن تكون ثقافة الطبقة السابعة (الشعب) هي ثقافة العبيد بامتياز أيضا. وهكذا تبدو الثقافة الفارسية التي ينادي بتعميمها خامنئي على العالم، هي ثقافة « السيد – العبد»!!! ويا لها من ثقافة! لو يتذكرها المرشد ويتأملها، حين كانت الكوفة، خلال الفتنة، الأشد تعبيرا عنها، لاسيما وأن معظم سكانها كانوا من الفرس[45]. هؤلاء الذين أنهكوا الخلفاء، وقتلوا علي وولده الحسين، رضي الله عنهما، وهم يطالبون بالتوريث، الذي اعتادوا عليه، وأتعبوهم لكثرة ما مردوا على الفتن والنفاق، والخروج على السلطة في عهد فارس، حتى قال فيهم عمر بن الخطاب: « أعياني وأعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون أحدا ولا يرضى بهم. لا يصلحون ولا يصلح عليهم»، ( المعرفة والتأريخ2 /754). وقال فيهم علي بن أبي طالب: « اللهم إني قد مللتهم وملوني، أبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير طبيعتي وخلقي، وأخلاق لم تكن تعرف لي، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني. اللهم أمت قلوبهم ميت الملح في الماء»، ( تأريخ دمشق لابن عساكر1/314).
في « نوازع القومية وأسس العقيدة»[46] لاحظ د. عصام الراوي مسألة جديرة بالذكر. فبعد نهاية الحكم الفارسي انقسم الفرس إلى مجموعتين:
الأولى: اعتنقت الإسلام بصدق ولم تتوقف عند جنسية الفاتحين العرب في غالبيتهم، بقدر ما توقفت عند أخلاقهم ومبادئهم.
الثانية: تلك التي خرجت منها الشعوبية، وهي من بقايا البيوتات الفارسية المتعالية والتي تنظر إلى الناس نظرة سادة وعبيد.
في ضوء هاتين المجموعتين يمكن فهم التوصيف الأول للشعوبية باعتبارها « حركة تسوية». وهي حركة استندت في دعواها، بالدرجة الأساس، إلى الآية الكريمة، في قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾، ( الحجرات: 13). فمن المعروف أن الكثير من الموالي دخلوا الإسلام. وبخلاف بعض الآراء التي تتحدث، بلغة شعوبية، بقصد أو بدونه، وتتهم بموجبها الأمويين بأنهم تفاخروا بنسَبهم، ولم يعينوا في المناصب الكبرى غير العرب، فلم يكن من الممكن تسليم القيادة في بدايات الإسلام لغير العرب، ليس لأنهم الوارثون للنبوة، أو لأنهم أعلى وأجل من خلق الله، فهذا مما ينكره الإسلام، الذي أحل مفهوم الأخوة الإسلامية والتقوى، كمعايير للانتماء والتفاضل. بل لأن السابقون منهم كانوا (1) المصاحبون للرسول r، و (2) الشاهدون على النبوة، و (3) المجاهدون الذين ضحوا بأرواحهم لنصرة الدين، و (4) والحافظون للقرآن، و (5) العارفون بدقائق لغته، و (6) الحاضنون للرسالة، و (7) المحاربون للمرتدين من الأعراب والموالي بعد وفاة الرسول، و (8) رسل الدعوة.
هؤلاء وأمثالهم؛ هم الذين تحملوا العبء الأعظم في قيادة الإسلام والمسلمين، وخاضوا عشرات الغزوات، وبدؤوا الفتوحات العظيمة التي، أوصلت الإسلام إلى شتى أصقاع الأرض، كما نزل على محمد r، بلا زيادة أو نقصان أو تحريف. ليس هؤلاء، كما يقول البعض، هم الذين تفاخروا وتغطرسوا واستعلوا على غيرهم ممن دخل الإسلام، وتسببوا في مشاعر التمييز لدى الموالي الذين طالبوا بالمساواة والعدالة. وهي المطالب التي تبلورت لاحقا في مسمى « حركة التسوية»، أي تسوية الحقوق بين العرب وغيرهم. هذا لا ينفي وجود مفاخرة من هنا وهناك وهي مشاعر طبيعية، كما لا ينفي تساكن بقايا العقل الجاهلي، في سنوات النزول، حتى مع بعض الصحابة، وهم لمّا يزالوا يتربون على الوحي، ممن ردعهم الرسول، كما حصل مع أبي موسى الأشعري حين دعا مولاه بابن السوداء، أو لما ردع عمر بن الخطاب بعض الصحابة حين تفاخروا بأنسابهم وبينهم سلمان الفارسي الذي قال بأن نسبي هو الإسلام. وحتى مع عمر نفسه لما قال له الرسول: « أَتُحِبُّنِي يَا عُمَرُ؟، قَالَ: أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآنَ يَا عُمَرُ».
وفي المحصلة فالطرفين، مبدئيا، معذورون في المشاعر والمطالب. وعليه فلا أصحاب « حركة التسوية» شعوبيون ولا السابقون كذلك. وتبعا لذلك لا يصح إطلاق توصيف « المجوسية» على الفرس لكونهم فرس، وإلا فستغدو الشعوبية وصفا ينسحب على كل ذي نزعة قومية أو حقوقية. وفي هذا الصدد يلفت الراوي الانتباه إلى أن: « الفرس ليسوا كلهم شعوبيين كما سعى دعاة الفكر القومي العربي أن يثبتوه»[47]. والحقيقة أن المشكلة تكمن في ثقافة العبودية التي تم نقلها، بكل حمولتها « المجوسية» والسياسية والاجتماعية، إلى الإسلام والعروبة على حد سواء.
من هذه اللحظة، بدأت « حركة التسوية» تتحول من حركة حقوقية إلى وعاء حاضن، ومنبت لكافة فرق الشعوبية الباطنية، وزنادقتها وسياسييها ورموزها الاجتماعية ومثقفيها، لاسيما في الأدب، بكل صنوفه من الشعر والقصة والرواية لتتحول إلى قيم وعادات وتقاليد وأخلاق، وتصب جام أحقادها على الإسلام والعروبة. ومن جهتهم؛ اضطلع علماء « الإمامية» ومؤرخيهم بتغذيتها، إلى أن تبنتها « الصفوية» (1500 – 1722) ونظمتها، وأشاعتها بقوة السلاح والمال والجاه والإغراءات، لتنتهي بما أطلق عليه علي شريعتي بـ « الاستحمار». وهو المنهج الذي قدمه بالقول أن: « الشعوبية تحولت تدريجيا من حركة تسوية إلى حركة تفضيل العجم على العرب، وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة … وبغية ترسيخ أفكارها وأهدافها في ضمائر الناس، وعجنها مع عقائدهم وإيمانهم، عمدت الصفوية إلى إضفاء طابع ديني على عناصر حركتها، وجرها إلى داخل بيت النبي، إمعانا في التضليل، مستغلة التشيع، لكي تضفي على الشعوبية طابعا روحيا ساخنا، ومسحة قداسة دينية، ولم يكن ذلك الهدف الذكي متيسرا، إلا عبر تحويل الدين الإسلامي وشخصية محمد عليه الصلاة والسلام، وعلي، رضي الله عنه، إلى مذهب عنصري، وشخصيات فاشية، تؤمن بأفضلية التراب والدم الإيراني، والفارسي منه على وجه الخصوص»[48]. لذا فالطبقات المتضررة من الإسلام و« الصفوية»، المرتبطان ارتباطا وثيقا ومصيريا بـ « المجوسية»، هما من يتحملان وزر إشاعة الشعوبية وترسيخها وليس العامة من الناس.