جاءت التصريحات الأخيرة التي أطلقها أعوان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول إرسال حاملة الطائرات أبراهام لنكولن، وما يرافقها من مدمرات وقاذفات، وبهذا التوقيت الذي يأتي في أعقاب التضييق النفطي على إيران، وإدراج حرسها الثوري على قائمة الإرهاب، تأكيدا لما أسرَّه لكاتب هذه المقالة، قبل أكثر من عام، مصدرٌ سياسي أميركي عراقي موثوق به جدا وله علاقة تكاد تكون يومية بأعضاء الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس، مؤكدا أن الإدارة الأميركية لا تفكر بتوجيه ضربة عسكرية، من أي نوع وأي حجم، لمواقع إيرانية، ولكنها أبلغت النظام الإيراني عبر أطراف ثالثة، منها عراقية ولبنانية وفلسطينية، بأن الولايات المتحدة سترد بقوة على أي عمل عدواني، صغير أو كبير، تقوم به عناصر من الحرس الثوري أو الميليشيات العراقية واللبنانية ضد أي وجود أميركي في العراق أو سوريا، أو ضد أيٍ من حلفائنا في الخليج العربي.
فمستشار الأمن القومي، جون بولتون، قاله بوضوح إن “نشر حاملة الطائرات (أبراهام لينكولن)، وقاذفات قنابل، إلى منطقة القيادة المركزية، هو رسالة جلية إلى النظام الإيراني بأن أي هجوم على المصالح الأميركية أو على حلفائنا، سيقابل بقوة لا هوادة فيها”.
وأضاف يقول إن “الولايات المتحدة لا تسعى إلى الحرب مع النظام الإيراني، ولكننا مستعدون تماما للرد على أي هجوم، سواء كان من وكيل، أم من الحرس الثوري الإيراني، أم من قوات الجيش النظامية”. أما وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو فقد قال، بصراحة تامة، “إن حكومة الولايات المتحدة ترصد الأنشطة الإيرانية”. وهدد النظام الإيراني بأن أي هجوم على مصالح واشنطن أو حلفائها “سيقابل برد قاس″.
ونقلت وكالة رويتر عن مسؤول أميركي طلب عدم ذكر اسمه “إن معلومات المخابرات كانت محددة لدرجة أنها قدمت تفاصيل عن أماكن الهجمات المحتملة على القوات الأميركية، وعن الإطار الزمني لتنفيذها”. وأضاف قائلا “إن التهديدات لم تكن ضد القوات الأميركية في العراق فقط، بل ضد القوات القادمة إلى المنطقة والمغادرة منها”.
وإذا علمنا بأن القوة الحقيقية الفاعلة في الولايات المتحدة هي للمصارف العظمى والشركات المئة الكبرى ولشبكات الإذاعة والتلفزيون والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي ولوبيات الحكومات الخارجية الغنية والقوية، والكثير من الشركات الأجنبية كذلك، فسوف ندرك أن أميركا، بكل قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وليس برئيسها وحده، قد اختارت ملاعبة الفأر الإيراني، وجرَّه إلى ساحة نزال لا يقدر على تحمل ثمنه وانعكاساته وتأثيراته على مصيره ومستقبل وجوده في السلطة في إيران ذاتها، وربما، قبل ذلك، على وجوده الاستعماري في الدول العربية التي تمكن من التسلل إليها.
وما لم يعد سرا هو أن الرئيس الأميركي ترامب، ومعه القوى الفاعلة في أميركا، آتٍ ليثبت للعالم أن المصالح قد تغيرت، وتغيرت المواقف هي الأخرى. والمواجهة مع إيران هي واحدة من معارك الربح والخسارة التي يبرع فيها ترامب أكثر من سواه. وعيب المرشد الأعلى الإيراني وكبار أعوانه ومستشاريه أنهم لا يقرأون هذه التقلبات والتبدلات والتحولات. فقد تملَّكَهم وهْمُ القوة وغرورُها، وأعمتهم عنصريتهم وطائفيتهم عن تلمس الصراط المستقيم.
فدولة إيران، مهما تبجحت وتباهت بصواريخها وميليشياتها ومفاعلاتها وعلمائها، تبقى دولة من دول العالم الثالث يصعب أن تسمح لها القوى الكبرى المهيمنة على العالم بأن تكبر أكثر من المقرر والمسموح، وأطـول من الزمن المقنن والمرسوم.
ومن اللازم هنا أن نتذكر نظرية أطلقها روبرت ماكنمارا، الذي كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، عام 1962 تقول “لنجعل الاتحاد السوفييتي قلعة مسلحة، ولكن لا تملك الزبدة”.
وبالفعل أجبرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون حكومة الاتحادَ السوفييتي على دخول سباق تسلح تقليدي ونووي هائلين، وأدخلوها في حروب باردة وساخنة في جمهورياته المتعددة أنفقت فيها القسم الأكبر من ثرواتها على ترسانتها الحربية، حتى أصبحت قوة نووية هائلة ولكن بشعب يعيش على أقل من الكفاف، الأمر الذي جعل النظام يتهاوى على يد ميخائيل غورباتشوف من الداخل، ودون حروب. وإيران اليوم داخلة إلى نفس تلك اللعبة الخادعة.
وما إقدام ترامب على جعل عقوباته الخانقة مسلحة بالقوة الباطشة المتأهبة إلا سعيا وراء تفليس النظام الإيراني من هيبته أمام شعبه وأمام شعوب المنطقة، وإلا استفزازا مُذلا ومهينا يهدف إلى استدراج أحد قادة الحرس الثوري أو الميليشيات العراقية أو اللبنانية إلى ارتكاب حماقة من أي نوع وأي حجم لتكون القشة التي ستقصم ظهر هذا البعير الأطرش والأخرس والأعمى الذي لا يريد أن يعرف حده فيقف عنده، وأنه، عاجلا أو آجلا، لن يكون إلا من الخاسرين.
نقلا عن العرب اللندنية