<< العثمانيون كانوا يدّكون أسوار "فيينا" لغزو أوروبا.. وابن إسماعيل شاه يحتل "بغداد"
<< السلطان عبد الحميد الثاني كان يؤكد أن إيران "خطر محدق" على العالم الإسلامي
<< حروب الدولة الصفوية أنهكت الخلافة العثمانية وأعاقت نشر الإسلام في القارة الأوروبية
بينما كانت الدولة العثمانية تعزو ممالك أوروبا في القرن السادس عشر، رافعة راية الإسلام، ومدافعة عن الدول العربية من هجمات الحروب الصليبية، كانت الدولة "الصفوية" بمثابة خنجر في ظهر العثمانيين، حال الصفويون المؤامرات بالتعاون مع ملوك أوروبا للقضاء على القوة العثمانية الإسلامية.
تأسست الدولة الصفوية سنة 907هـ- 1502م، على يد الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي، الذي أقام كيان الدولة وأرسى قواعدها في إيران، وفرض فيها المذهب الشيعي بالقوة، ثم توّج الشاه إسماعيل نفسه ملكاً على إيران بعد انتصاره على القبائل التركمانية الحاكمة.
حرب إنهاك دولة الخلافة
شكّل قيام الدولة الصفوية في إيران تهديدا بديهيا لاستقرار مقاطعات الأناضول التابعة للإمبراطورية العثمانية، بسبب تأثير الصفويين على سكان تلك المناطق من أجل تحقيق غاياتهم السياسية، حسيث أدى ظهور الصفويين إلى فترة عدم استقرار داخلي في الأناضول العثماني، واجهت السلطان العثماني بايزيد الثاني (1481 _ 1512م)، الذي كان عليه الاستعداد لمواجهة الدولة الوليدة.
ولم تكن المواجهة الصفوية- العثمانية مواجهة عثمانية سنية للدولة الشيعية الجديدة في إيران فحسب، وإنما كرد فعل عثماني على الطموحات السياسية التوسعية للصفويين في الأناضول، إذ خططت القيادة الصفوية للانضمام إلى التمرد الواسع في الأناضول عام 1500م . لكن الخطوات التي اتخذها العثمانيون حرمتهم من المشاركة في هذا التمرد.
وبعد استتباب الأمر للصفويين، كان من المنطقي أن تتوجه بعدائها إلى دولة الخلافة العثمانية، طمعا في إقامة الإمبراطورية الصفوية على أنقاض دولة العثمانيين، فتحالف الصفويون مع الأوربيين، وفي مقدمتهم البرتغاليون، لمهاجمة أراضي الدولة العثمانية، وبعض الإمارات الأخرى المستقلة.
وبينما كان العثمانيون ينطلقون في فتوحاتهم شمالاً وغرباً باتجاه أوروبا، مستمرين دفاعهم عن الإسلام ضد الاستعمار الأوروبي، الذي كان الوريث الشرعي للخملات الصليبية، بدأ الصفويون ومنذ عهد المؤسس الشاه إسماعيل بافتعال الاضطراب على الحدود الشرقية للدولة العثمانية، وباغتوا جيش الخلافة من الخلف، الأمر الذي جعل السلطان "سليم الأول" يخرج لملاقاة الصفويين بعد أن شعر بخطرهم، واستمرت الحروب بين الخلافة العثمانية وبين الصفويين زمناً طويلاً، وبالرغم من انتصار العثمانيين في معظمها إلا أن هذه المعارك استنزفتهم وأنهكتهم وأعاقت فتوحاتهم ونشرهم للإسلام في القارة الأوروبية.
وأثّر القتال الذي دار بين الدولة العثمانية والصفويين تأثيراً مباشراً على الدولة العثمانية سواء في المجال العسكري وتقدمها في الفتوحات في أرض أوروبا أو في اقتصاد الدولة .
كما أثّر القتال على إيرادات الدولة العثمانية من الجمارك التي كانت تحصلها من الطرق القديمة في الأناضول، إذ أُقفلت معظم الطرق التجارية القديمة التي سادها الخطر، وصار التبادل التجاري بين الأقاليم الإيرانية والعثمانية محدوداً؛ في حين تحولت سيطرة البرتغال على البحار الشرقية إلى حصار شامل لكل الطرق القديمة بين الشرق والغرب عبر منطقة الشرق الأوسط، التي كانت حينئذ تحت سيطرة الدولة العثمانية.
ولكن بعد الهزيمة المرة التي لحقت بالشاه إسماعيل الصفوي في موقعة "جالديران" عام 920هـ أمام السلطان العثماني سليم الأول، تحرك الشاه للتحالف مع الأوروبيين لتغطية الهزيمة، فأقام العلاقات مع البرتغاليين في أول الأمر، ثم تحالفا معا ضد العثمانيين.
وتمكن الشاه إسماعيل من الفرار إلى أذربيجان بعد هذه الهزيمة، ودخلت الجيوش العثمانية "تبريز" عاصمة الدولة الصفوية، ومهدت الطريق لدخول السلطان سليم فدخلها فاتحاً منتصراً.
وحاك الشاه عباس كذلك مؤامرات مع الجانب الإسباني، القوة العسكرية الناهضة آنذاك، فقد قدّم عباس عروضاً للإسبان عن طريق البنادقة لكي يتقاسما أراضي الدولة العثمانية، فتحصل الأولى على الجزء الأوروبي منها، وتستأثر الثانية بالآسيوي.
وكانت إمارة فينيسيا من الدول المتأثرة تجارياً بسبب قضاء العثمانيين على الدولة البيزنطية وإغلاقها الطريق الرئيسي للتجارة بين أوروبا وآسيا، فأرسل الشاه إسماعيل السفراء إلى بلاط فينيسيا طالباً من أميرها الهجوم على العثمانيين عن طريق البحر، وأن يقوم هو بالهجوم من ناحية البر، بشرط أن تسترد فينيسيا قواعدها التي فقدتها في البحر الأبيض المتوسط.
على أسوار "فيينا"
بعد وفاة الشاه إسماعيل، خلفه ابنه "طهماسب" في الحكم، واستمر الابن على نهج أبيه، فتحالف مع ملك المجر ضد العثمانيين، عدوهما المشترك، فوجه الخليفة سليمان القانوني حملة عسكرية كبرى إلى إيران لقتال الصفويين، لكنه حول قواته ضد المجر نظراً لحيوية هذه الجبهة وأهميتها في مواجهة الأوروبيين المتحالفين معا ضد الخلافة العثمانية.
وظلت الحرب الضروس بين العثمانيين والصفويين سجالاً وحدثت عدة معاهدات صلح، لكن الجانب الصفوي كان دائم النقض لهذه المعاهدات لأنه كان يشعر بضعف الدولة العثمانية في ذلك الوقت.
وأدت هذه الحروب إلى أن يرجع القادة العثمانيون من فتوحاتهم في أوروبا ليوقفوا الزحف الصفوي على الأراضي السنية، كما حدث مع سليم العثماني، وكما حدث مع السلطان سليمان حينما حاصر مدينة "فيينا" عاصمة النمسا الآن عام 1529م، وكان يدك أسوارها لمدة 6 أشهر وكاد أن يفتحها لولا أن طارت إليه أنباء من الشرق جعلته يكر راجعاً إلى استانبول، بعد أن احتل الصفويون "بغداد".
ورمى العثمانيون بكل ثقلهم ونفوذهم في العراق العربي، واستقر لهم الأمر في الموصل والخليج واليمن وعدن وأصبحت لهم قواعد بحرية متقدمة تمكنهم من صد البرتغاليين، والحد من التعاون بين الإيرانيين والأوروبيين في منطقة الخليج، ووصل الأسطول العثماني إلى سواحل الهند (959 هـ/ 1551م) وأصبح قادراً على التجول بين البصرة والسويس. وكل ذلك فوت الفرصة على الإيرانيين لتنمية وتطوير التحالف مع القوى الصليبية التي عادت مرة أخرى إلى منطقة الخليج العربي في ثوب استعماري.
ويقول الدكتور محمد عبد اللطيف هريدي في كتابة "الحروب العثمانية الفارسية" إن من أسباب تردي الدولة العثمانية وتحولها من القوة إلى الضعف، هو حروبها مع الدولة الصفوية، إذ كانت هذه الحروب من الضراوة وطول الأمد بما يكفي لإنهاك العثمانيين وضعفهم ومن ثَم عدم قدرتهم على الصمود في الجبهات الأوروبية مما يعني انحسار المد الإسلامي عن أوروبا".
ويضيف "هريدي": "وهكذا، بدلاً من أن يضع الصفويون يدهم في يد العثمانيين لحماية الحرمين الشريفين من التهديد البرتغالي ولتطهير البحار الإسلامية منهم، وضعوا أنفسهم في خدمة الأسطول البرتغالي، لطعن الدولة العثمانية من الخلف، ورغم انتصار العثمانيين عليهم فإن الحروب معهم كانت استنزافاً لجهود العثمانيين على الساحة الأوروبية وعرقلة للفتوحات الإسلامية".
غير أن هذا الصراع العثماني- الصفوي لم يتوقف، بل استمر حتى عهد السلطان عبدالحميد خان الثاني (1293- 1327هـ/ 1876- 1909م) الذي كان يؤكد في كل مناسبة أن إيران خطر محدق على العالم الإسلامي وعلى المذهب السني.
وانتهت دولة الصفويين سنة 1148هـ، على يد نادر خان الذي كان في أول أمره من قطاع الطرق، وكان يتمتع بالطموح والذكاء، وقد تمكن بجيش من أفراد قبيلته "الأفشار" من الاستيلاء على إقليم خراسان، وأخذ يمسك بزمام الأمور في هذا الإقليم، وظهرت قوته، مما جعل الشاه طهماسب الثاني يستعين به، ويعينه قائداً لجيشه، واستطاع أن يصبح أقوى شخصية في إيران بعد تحقيقه لعدة انتصارات ضد منافسي الدولة، معلنا سقوط الدولة الصفوية.