المبحث الثالث
الحركة الشعوبية
احتلت الشعوبية من « الإمامية» منزلة الأس، بكل ما أنتجته من تحريفات في الدين، وفرق باطنية، وعداء بغيض للعروبة والعربية، وتزييف التاريخ والخيانة على مدار التاريخ. لذا كانت خلاصة الباحث العربي الأحوازي، صباح الموسوي، ملفتة حين قال بأن: « الشعوبية زعمت بأن الإسلام مشروع تعريب وليس دينا سماويا». وفي السياق؛ ينقل الموسوي عبارة مثيرة عن الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، خلال اجتماعه بالجالية الإيرانية في أمريكا، لحضور احتفالات الألفية الثانية، التي أقيمت في ولاية نيويورك، بدعوة من الأمم المتحدة، قوله: « نفخر نحن الإيرانيين بأننا قبلنا الإسلام ورفضنا العربية». والحقيقة التاريخية أن أغلب الشعوب الأعجمية التي دخلت الإسلام، ظلت محتفظة بلغتها، لكنها لم تقل في يوم ما أنها قبلت الإسلام ورفضت العربية. أما إيران فقد رفضت العربية والعروبة على السواء! فكيف قبلت دينا جاء به نبي عربي، وكتابا من السماء نزل باللغة العربية؟ فإنْ كانت تقبل الإسلام فعلا؛ فبأي لغة ستقرأه أو تفهمه؟ وكيف قبلت لغتها الحرف العربي بينما رفضت العربية من الأصل؟
تأتي مثل هذه التصريحات من رئيس جمهورية، يعلم يقينا أن العربية في صدر الإسلام، كانت تغزو العالم الإسلامي، وتستوطن في شغاف قلوب المسلمين، كمدخل، لا مندوحة عنه، للتعرف على الدين الجديد، وفهمه عميقا باللغة التي نزل بها القرآن الكريم. بل أن أميز علماء الحديث، كانوا من الأعاجم، وحتى من فارس، التي رفض شعوبيوها العربية. وأكثر من ذلك أنها صارت لغة التباهي والاعتزاز، التي يتسابق إلى تعلمها كل من دخل الإسلام، إلا عند مجوس فارس وورثتهم، فهي مرفوضة ومحقرة ومحاربة، هي وأهلها! فأي إسلام هذا الذي قبلته فارس ولم تقبل معه لغته ولا أهله وحاضنيه؟ فهل مشكلة فارس مع العربية والعروبة؟ أم مع الإسلام؟ بحسب صباح الموسوي؛ يبدو أنها مع الإسلام.
لكنها، في الواقع، مع الاثنين معا. إذ من شبه المستحيل الفصل بين الإسلام والعربية أو العروبة. وهذا ما أقر به المفكر الإيراني، والأستاذ بجامعة طهران، صادق زيبا، لأسبوعية « صبح أزادي» الإيرانية، حين قال: « أعتقد أن الكثير من الإيرانيين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتدين وغير المتدين في هذا المجال». وفي تفسيره للنزعة العنصرية الفجة تجاه العرب « يعتقد» أن: « هناك علاقة مباشرة بين تدني المستوى الثقافي والنزعة العنصرية»، إذ أن: « نفس المعادلة نشاهدها في أوروبا حيث أغلبية العنصريين غير متعلمين، فنراهم يعادون اليهود والمسلمين والأجانب، إلا أن هذا الأمر يختلف في إيران تماماً لأنكم ترون الكثير من المثقفين يبغضون العرب، وتجدون الكثير من المتدينين ينفرون منهم، إلا أن هذه الظاهرة أكثر انتشاراً بين المثقفين الإيرانيين، فهذه الظاهرة تنتشر بين المتدينين على شاكلة لعن أهل السنة». ويوضح بأن: « الحقد والضغينة تجاه السنة ورموزهم لدى الكثير من الإيرانيين هو في واقع الأمر الوجه الآخر للحقد على العرب»[33].
في الحقيقة ثمة صعوبة في فهم تبريرات زيبا الثقافية! فليس من المنطق القول بأن « هناك علاقة» و « مباشرة بين تدني المستوى الثقافي والنزعة العنصرية»، ثم القول بأن الظاهرة تنتشر بين المثقفين بشكل صريح، فيما يجري التعبير عنها لدى المتدينين بلغة « لعن أهل السنة». فما الموقف مثلا من شخصيات جمعت بين السياسية والدين؟ وتتربع على قمة هرم السلطة، كمرشدَي الثورة، خميني وخامنئي، ورؤساء الجمهورية كخاتمي ونجاد؟ أو شخصيات أكاديمية رفيعة، كشريعتي، حين يقول:《 هجمت الخلافة مرة أخرى، وأغار سعد بن أبي وقاص آخر في قادسية أخرى. وزحف وحوش العرب من جهة الغرب هذه المرة. فنهبوا مدائن « نا ». ودفنوا لغتنا وإيماننا وثقافتنا وتاريخنا. وجاؤوا بالعبودية والجهل بستار المدنية والعلم. وهدموا الأسوار والبروج وأسقطوا الجدر والسقوف. وأطفأوا نيران المعابد》[34]. هذا مع العلم أن شريعتي من المفترض أنه من أشد المناهضين للصفوية والشعوبية!!! وهل ينطبق موقف هؤلاء من العرب والعروبة على الرسول r؟ وعلى آل بيته؟ وعلى الأئمة رضوان الله عليهم؟ وهل تنطبق أحقادهم على آيات الله البينات، حين يقول عز وجل: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾، (الأحقاف:12)، وقوله: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾، (الشعراء: 195). بمعنى آخر: هل الفرس المجوس من ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؟ أم من ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾؟
الثابت الذي لا مراء فيه أن عداء فارس للعرب يسبق الإسلام. أما وجه الثبات في الأمر، فله من وقائع التاريخ والأحداث ما لا يحصى ولا يُعَد. أما أدبيا، فأبلغها جاء عبر قصيدة لَقيطِ بنِ يَعمُر بن خارجة الإيادي، أحد فحول الشعراء في العصر الجاهلي. وهو الذي كان يعمل كاتبا عند كسرى. ولعله علم بحكم مهنته، ما يدبره الفرس للعرب من حرب قادمة، فما كان منه إلا المسارعة إلى تحذير بني قومه، في قصيدة هي بحق تصلح لهذا الزمان[35]. تقول بعض أبياتها:
يا دارَ عَمْرَةَ مِن مُحْتَلِّها الجَرَعا هاجَتْ لي الهَمَّ والأَحْزانَ والوَجَعا
يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غيراً على نسائكم كسرى وما جمَعا
يا أَيُّها الرَّاكِبُ المُزْجى على عجَلٍ إِلى الجَزِيرَةِ مُرْتاداً ومُنْتَجِعا
أَبْلِغْ إِياداً، وخَلِّلْ في سَراتِهِمُ إِنِّي أَرَى الرَّأْيَ، إِنْ لَمْ أُعْصَ قد نَصَعا
يا لَهْفَ نَفْسِيَ إِنْ كانَتْ أُمُورُكُمُ شَتَّى، وأُحْكِمَ أَمْرُ النَّاسِ فاجْتَمَعا
أَلاَ تَخافُونَ قَوْماً لا أَبَا لَكُمُ أَمْسَوا إِليكمْ كأَمْثالِ الدَّبا سِرَعا
….
في كُلِّ يومٍ يَسُنُّونَ الحِرابَ لكم لا يَهْجَعُون إِذا ما غافِلٌ هَجَعا
لا حَرْثَ يَشْغَلُهُمْ بل لا يَرَوْنَ لهمْ مِن دُونِ قَتْلِكُمُ رَيّاً ولا شِبَعا
.…
وتَلْبَسُونَ ثِيابَ الأَمْنِ ضاحِيَةً لا تَجْمَعُون وهذا الجَيْشُ قد جَمَعا
مالِي أَراكُمْ نِياماً في بُلَهْنِيَةٍ وقد تَرَوْنَ شِهابَ الحَرْبِ قد سَطَعا
على كل حال، فبالرغم من الوضوح النسبي في المعنى اللغوي للشعوبية إلا أن المشكلة في توصيفها ظلت حاضرة في أغلب الأبحاث التي تناولتها، سواء لجهة اعتبارها حركة أو نزعة أو عقيدة أو اتجاه أو تيار أو فلسفة أو حتى ثقافة. وإذا قبلنا فكرة أنها ظهرت مع نهايات الحكم الأموي (41 – 132هـ / 662 – 750م) وبداية الحكم العباسي، فهذا يعني أنها حافظت على الاستمرارية دون توقف لأكثر من 1250 عاما. ولا يخلو وصف د. عبدالله السامرائي للشعوبية من وجاهة معتبرة حين يقول بأنها: « مجموعة مواقف متحدية يدفعها الوعي حينا فتكون منظمة، ويدفعها الحقد والحسد حينا آخر فتكون نزعة عدائية غير منظمة».
والثابت أن الجاحظ في كتابه « البيان والتبيين» كان أول من ذكرها رسما في التاريخ بالقول: « لم نرَ قوماً أشقى من هؤلاء الشعوبية ولا أعدى على دينه ولا أشد استهلاكاً لعرضه». وفي تفسير القرطبي قال عنها: « الشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم»، وكذا الزمخشري في أساس البلاغة: « هم الذين يصغّرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم»، وقال عنها ابن قتيبة: « لم أر في هذه الشعوب أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والحشوة». أما ابن تيمية فبعَّضَهم، بحيث لا يطال التوصيف كل الفرس، فقال: « من الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب والغالب إن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس .. إن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر». وقال فيها البغدادي: « الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنون عودة الملك إلى العجم». ومن جهتها اختصرت الإنسكلوبيديا البريطانية الشعوبية بالقول أنها: « كل اتجاه مناوئ للعروبة».
والسؤال: مع أن بعض الهنود والترك، خاصة من الفرس أو المتحدثين بالفارسية، وكذا الأندلسيين الذين طالتهم الشعوبية الفارسية في توسعها التاريخي، قبل أن تندثر إلى حد ما، لكن ما الذي جعلها تتضخم عند الفرس دون غيرهم من الشعوب والأمم؟
لا ريب أن أول الإجابات تتصل بكثرة دخولهم الإسلام. لكن المشكلة أعمق من ذلك. إذ ثمة الكثير من الشعوب والأمم دخلت الإسلام وكانت أكثر عددا من فارس. فكل بلاد الترك دخلت الإسلام، وكذلك الأكراد، والمصريين وحضارات ما بين النهرين وبلاد الشام وشمال أفريقيا وأجزاء من أفريقيا وشرقا وصل الإسلام حتى أقاصي الأرض مرورا بالهند والصين وماليزيا وإندونيسيا، وشمالا بلغ أوروبا. ومع ذلك لم تظهر الشعوبية فيها، ولم يحتج سكانها على العربية أو يرفضوها أو يعادوا ملتها. فلماذا فارس بالذات؟ ولماذا بدت نظرية ابن خلدون القائلة بأن « المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب» وكأنها، على الأقل، مهتزة إنْ لم تكن بلا جدوى مع فارس؟