لم تملك قوى الإسلام السياسي في العراق (شيعية وسنية) إرثا سياسيا نضاليا قبل الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) إلا أن حزب الدعوة، تمكّن من أن يرسم لنفسه طريقا عقائديا إلى أن وصل إلى تحقيق هدف الحكم المذهبي استنادا إلى نظريته التي بناها مؤسسه وقادته الأوائل، بعد الغزو الأميركي في سنة 2003.
بعد تغير النظام في العراق، تصدّر هذا الحزب العملية السياسية وأصبح هو المسؤول التنفيذي الأول في الحكم على امتداد السنوات الماضية، بشراكة القوى الشيعية الأخرى التي اعتمدت على الزعامة المتمثلة بالعوائل الدينية المعممة ذات الإرث المذهبي كعائلتي الحكيم والصدر.
حصر الأميركيون الحكم بممثلي الشيعة وحدهم دون السنة وفق مفهوم مغشوش يقول إن الشيعة والأكراد هم فقط من عارض النظام السابق، رغم أن تاريخ معارضة الإسلام السياسي “السني” لذلك النظام معروف ومن أبرز الأسماء من العلماء السنة الذين أعدموا عبدالعزيز البدري وغيره كثيرون.
سلّم الأميركيون الحكم لقادة الإسلام “الشيعي”، ممثلا في حزب الدعوة، دون تفريق ما بين الأيديولوجي والحزبي. ولا شك أن هذا الحزب وبحكم تجربته التنظيمية تصّدر موقع الصدارة في صفوف المعارضة. وكان يعتز بأدبياته الفكرية والسياسية كحزب عقائدي، لكنه حين شعر بقرب تنفيذ الولايات المتحدة لمشروع احتلال العراق سارع إلى تعديل منهجه السياسي الرافض للحملة العسكرية الأميركية على البلاد.
رأى حزب الدعوة في الاحتلال الأميركي للعراق فرصة تاريخية له ولممثلي الشيعة؛ وهذه هي الخطوة الانتقالية الأولى لهذا الحزب، بعد خضوعه لإيران في حربها ضد العراق، من طريق المسار النضالي الوطني إلى دهاليز الصفقات السياسية وتلبية المصالح الإقليمية والدولية.
مسح الحزب من أجندته، بعد مؤتمر لندن للمعارضة العراقية 2002، ما قاله قبل شهر من تاريخ انعقاد ذلك المؤتمر. وهرول زعماؤه إلى حكم بغداد رغم معارضة بعض “الدعويين” لهذا الانبهار السريع بحلم السلطة، ووصفوا أنفسهم “بالبراغماتيين” فهذه سلطة العراق يقدمها إليهم الأميركيون كباقة ورد. هكذا، بدأ حزب الدعوة لحظة تحول كبرى من تنظيم معارض كوادره وأنصاره ما بين معتقلين ومعدومين ومطاردين في بلدان اللجوء إلى حاكم فعلي للعراق. وحكم حزب الدعوة العراق رسميا بقرار أميركي إيراني منذ عام 2005 حين أصبح أمينه العام إبراهيم الجعفري رئيسا للوزراء في وقت كان تيار شيعي آخر هو التيار الصدري يقاوم الأميركيين بالسلاح إلى جانب قوى سنية أخرى مقاومة.
كان على حزب الدعوة أن يحل هذه العقدة الفكرية والسياسية ما بين الوفاء للأميركيين وبين الفكر الأيديولوجي الذي التحف به سنين معارضته السابقة، ليحسم الأمر لصالح الانحياز للسلطة والمال والنفوذ.
تعرّض حزب الدعوة خلال مسيرته إلى انشقاقات كثيرة كغيره من الأحزاب، ولتفادي حدوث ذلك بما قد يؤثر سلبا على مكانته في السلطة، أغدق العطايا على أتباعه. واجتذبت أضواء السلطة قادة وكوادر ومفكرين من قيادات حزب الدعوة سبق أن انشقوا عنه وخرجوا منه خلال مراحل المعارضة، فعادوا موالين ومدافعين عن تجربة حكم الحزب.
وتولى أعضاء الحزب المناصب الحيوية في الأمن والاستخبارات والتربية والتعليم والخارجية، وهذا العمل المنظم لم يخّل بقواعد المحاصصة الطائفية التي قادتها الأحزاب الشيعية جميعها، وبذلك تمت صناعة جمهور زائف من الموالين الذين حصلوا على الوظائف الكثيرة، وتحولوا مع غيرهم إلى مافيات الفساد الذي دمر البلد.
إلى جانب الحماية السياسية، خلق الحزب ظهيرا عسكريا، حيث انضم البعض من الموالين والأعضاء إلى تنظيمات ميليشياوية مسلحة. وتحولت السلطة إلى هدف ثمين يجب الدفاع عنه حتى النهاية.
وظهرت بدعة “الولايات الأولى والثانية والثالثة” لرئاسة الوزراء من قبل حزب الدعوة دون السماح لغيره بالحصول عليها، بل وصل الصراع حولها داخل قيادة حزب الدعوة ذاته، ليعود شبح الانشقاقات والانقسام ليخيم من جديد على الحزب، بتطور الخلاف بين رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وسلفه نوري المالكي.
الصراع بين العبادي والمالكي ليس صراعا فكريا أو عقائديا بل هو صراع على من يكون حاكما. في خضم المعركة، اتهم جناح المالكي العبادي بالخضوع للرغبات الأميركية مقابل حصوله على الولاية الثانية. وقد تناسى أنصار رئيس الوزراء العراقي السابق، التاريخ القريب بتسليم الأميركيين حكم العراق لحزب الدعوة، وتعيين المالكي في رئاسة الوزراء.
ويبدو أن الحزب استشعر الخطر المحدق، فتعالت مؤخرا أصوات بعض “الدعويين” داخل الحزب للتصالح تحت عنوان عدم التفريط في حكم حزب الدعوة وبقاء شعار “ما ننطيها” الذي رفعه أمين عام الحزب نوري المالكي نافذا، إلى جانب البيان السياسي التبريري الذي صدر عن قيادة الحزب قبل أيام محاولا التنصل من الفشل والإضرار بمصالح العراق وشعبه بطلب توزيع هذا الفشل بينه وبين الكتل المشاركة بالعملية السياسية. وكأن وجود شريك في الفشل والفساد وظلم العراقيين يمنع المسؤولية التاريخية عن حزب الدعوة.
قضية صعبة على الأحزاب الأديولوجية أن تحدث مراجعة لمساراتها وهي داخل السلطة إلا إذا أزيحت عنها. ورغم ذلك تبقى بعض تلك الأحزاب مصرّة ومتمسكة بل ومقدّسة لمسيرة فشلها، وهذا للأسف يحصل في العراق ومنطقتنا العربية.
حزب الدعوة مسؤول عما حصل في العراق من نكبات. وشكلت الفصول الأخيرة من حكم الدعوة شهادة وفاة لمسيرته في العراق ولسلطته التي استمرت اثني عشر عاما، ومن كارثة الكوارث أن يسعى حزب الدعوة إلى تجديد الفشل عبر الإصرار على التمسك بالسلطة. وإذا كان هناك بعض المخلصين لفكر هذا الحزب وأيديولوجيته فعليهم السعي لإقناع القيادات السلطوية بإعلان الاعتذار للشعب العراقي عن مسيرة الفشل، وأن تنشغل بمداواة جروح هذا الحزب ونكسته التاريخية في حكم العراق. الحكم على فشل هذا الحزب هو بداية لخلاص العراق من حكم الإسلام السياسي.
(العرب)