تجارب إجبارية تخوضها أحيانا بعض شعوب العالم بحماسة بالغة من أجل لحظة تغيير تعتقد أنها ستصنع الفارق في نمط حياتها ومستقبلها، ثم تكتشف الخطأ الفادح الذي ارتكبته أو المطبّ الصعب مع ما يتبعه من تكاليف الخروج الباهظة لإنقاذ أجيالها وإعادة إمكانية حركتهم بعد ترميم خط سيرهم ولو من نقطة الصفر.
ولاية الفقيه في إيران، منذ استلامها للسلطة في فبراير 1979 وتحديداً بعد انقضاء الزفة وشهور عسل التهليل للثورة الإسلامية، حصلت فيها انتفاخات بطموحات النظام المبتدئ في عالم السياسة وبقيادة دولة بحجم إيران السكاني والاقتصادي والجغرافي والتاريخي، وأيضا بعد إسقاط هالة نظام الشاه الإمبراطوري، بما تعنيه من تقديم الأعذار للنظام ومبررات غروره الجامح المكتسب من التأييد الواسع واندفاع الأحزاب الإسلامية وعديد الشخصيات من المهتمين، إن من العرب أو الدول الإسلامية أو الجاليات الإسلامية من أوروبا والولايات المتحدة ودول العالم المختلفة، والأدهى سقطات بعض المثقفين في تمجيدهم للثورة من الذين كانوا يغدقون على بيئاتهم لغة التنوير والتقدّم.
سارعت تلك الفترة القصيرة في إنضاج الأهداف والغايات المسبقة لثورة الخميني على غير مواعيدها أو مراحل نموّها الطبيعية بعد تجربة السلطة، لأن الأجواء المحيطة بها مع مناخ الاستقبال، سرعت من رغبة عدم التأخير في تنفيذ المهمات المخطط لها لارتباط الثورة كليا بالفقيه وولايته، أي بتشريع حكومة القانون الإلهي، بما تعنيه من مغادرة الشؤون الخاصة بفقه المذهب والتوجه إلى تشريعات ونصوص تحتكم إلى الثورة وتطبيقاتها.
الخميني كان جاهزاً لاختصار الزمن في المنهج والأفكار والتوجهات واكتساب الصلاحيات، لذلك ذهب لتشكيل فصائل مسلحة باغتنام نشوة الاستعلاء القومي والانتصار للمذهب التي تكررت باستمرار مع عبارة “خروج المارد المذهبي من القمقم”، بما تعنيه هذه العبارة من كسر لأغلال المظلومية التاريخية وتحررها من حيّز حدود خدمة الفقه والتأليف والتدريس في الحوزات ورعاية المراقد والإشراف على ما ينظم الحياة الدينية للمقلدين ويجيب على أسئلتهم، إلى فضاء مفتوح وبضمانة مقومات الدولة الحديثة من علاقات وسفارات ووزارات وهيئات وأجهزة أمنية تقليدية وقوات وصنوف عسكرية خاضعة لوزارة الدفاع، بما أضيف إليها من حمايات خاصة وما ألحق بها تاليا من حرس ثوري وتوابع.
مع بداية سنة 1980 انتهى الاحتفال بالثورة إلى بداية العمل بالتبشير العقائدي وتحويل المهمات الدينية إلى زعامات سياسية وعسكرية لتجنيد المقاتلين، وصناعة الخلايا باستغلال فكرة التسامح السائدة في معظم شعوب أمتنا العربية ودول الخليج العربي، لقربها الجغرافي من إيران والتي احتضنت على مر السنين المقيمين الإيرانيين الذين تعاملت معهم كمواطنين في الحقوق والواجبات. ثورة الخميني لم تتوقف عند حدّ ما، بل اعتبرت كل المنتمين إلى المذهب الذي تنتمي إليه، من المواطنين العرب أو من المسلمين، أتباع محسوم ولاؤهم لها ويمكن تجنيدهم في مهماتها “المقدسة”.
من يعود بالتاريخ إلى سنة استلام الخميني للسلطة في إيران، لا تفوته تفاصيل دقيقة في كيفية نشوء الإرهاب وزيادة معدلات التطرف وبداية ظاهرة اللجوء أو النزوح، مع انكفاء العديد من المواطنين إلى التكتل في مجموعات متجانسة دينياً أو مذهبياً أو قومياً طلباً لدواع أمنية مجتمعية، وهو ما حصل بوضوح في العراق بعد الاحتلال الأميركي وتفرد الميليشيات الخاضعة لإيران بإشعال الفتنة والحرب الأهلية الطائفية.
منذ أربعة عقود والنظام الإيراني يراهن على احتلال العراق، ليطرحه نموذجاً لمشروعه العالمي التبشيري؛ فماذا جنى الإيرانيون من زرع النظام الفاشي لولاية الفقيه في إيران؟ كي يحصد العراقيون ثمار ديمقراطية الاحتلال الأميركي للعراق التي تركت غثاء سيل الملالي يستجمع مشروعه بالعملاء وأذنابهم.
التغيير الديموغرافي في بغداد وحدها، طال أكثر من مليوني مواطن، غالبيتهم من أطراف مذهبية ودينية وسياسية مستهدفة بغايات أبعد حتى من قضية الاختلاف مع سلطة عملاء الاحتلال الإيراني، لأنها غايات تتعدى إلى إفراغ بغداد والمدن العراقية من محتواها الحضاري والمدني.
يرادُ من المناصب السياسية في العراق أن تغفر لموزعيها ولمن ارتضى طي صفحة الماضي وتدمير مدن أهله، تحت مبررات التوافق والدخول في تحالفات تعيد تبييض الإرهاب الإيراني والفساد، للبدء بصفحة جديدة من المحاصصة، لكن على مقاييس دولة ميليشيات مستقرة ولها خط إنتاج واعد وفق التصميم الأولي لولاية الفقيه.
أول مظاهر الصلاحيات إعلان الحشد الطائفي تشكيل قوات التعبئة الاحتياطية، كوجبة أولى تتكون من عدة ألوية “لحماية البصرة والتصدي للأخطار المحتملة”، دون أن تنسى إضافة التطوع الاختياري في محاولة تسخير الشباب لمهمات مقبلة ومحتملة ضمن مناوشات الصراع الأميركي الإيراني أو لإخماد أي حركة احتجاج على أرض العراق.
ما يسجل على المقاومة العراقية، انحسارها بعد الإعلان عن انسحاب الجزء الأكبر من القوات الأميركية وتركها العراق للاحتلال الإيراني، حيث فتحت حكومة نوري المالكي الأبواب مشرّعة للإرهاب وأجنداته الإيرانية، ألا يستحق شباب البصرة المجد والفخر، لأنهم أشعلوا بشجاعة نادرة وبدمائهم فتيل المقاومة ضد المحتل الإيراني.
(العرب)