تتصاعد حمى الإعلام الديني بشكل واضح في الآونة الأخيرة، في سياق مواز لتصاعد حالة الطائفية الدينية بشتى صورها في حياتنا الخاصة والعامة؛ ولأن الإعلام الفضائي أصبح ذا تأثير واسع وملموس في السياق الاجتماعي العربي، فمن البديهي أن يتم استغلاله لنقل التصورات الدينية والمذهبية إلى عالم السماوات المفتوحة، فأصبح للقنوات الدينية بمختلف توجهاتها حضور ذات تأثير ملموس على الوضع الديني، وما يصحبه من صدى على الحياة الاجتماعية بشكل مباشر؛ لذا أصبح من الواجب رصد تلك الظاهرة التي تأسست من الأساس للتعبير عن الأفكار والمعتقدات الخاصة بكل مذهب أو دين، وموقفه من الذات والآخر.
ويعتبر الإعلام المذهبي من أهم الميادين التي تتجلى فيها تلك الظاهرة، فالخارطة الإعلامية تمتلئ مفاصلها بالقنوات الفضائية التي تنطلق من أسس مذهبية، وقد زاد من معدلات ظهور هذه القنوات المستجدات السياسية على صعيد أكثر من قطر عربي وحالة الاحتقان الطائفي والاصطفاف الطائفي الطارئة على المشهد الإقليمي.
وسنحاول في هذا التقرير بداية رصد مختلف توجهات القنوات الشيعية التي وصلت لما يزيد عن أربعين قناة، أغلبهم على القمر الصناعي العربي (عرب سات) والمصري (النايل سات) والأوروبي (الهوت بيرد)، مما شكل ظاهرة لا يستهان بها في الإعلام العربي، هذا بخلاف القنوات الشيعية الناطقة بلغات غير العربية، كالفارسية أو الأوردية والإنجليزية. وإن كان رصدا يتسم بالشمولية والتركيز على القنوات الناطقة بالعربية، في محاولة لنقل أهم ما يميز تلك القنوات عامة، ومدى تعبيرها عن الواقع المذهبي، والموقف من الآخر، وتفاعلها مع القضايا السياسية والاجتماعية على الأقل في محيط المشاهد المستهدف منها، وهل تمكنت تلك القنوات من تجاوز الذات المذهبية لتنفتح على عالم أكثر رحابة وقبولا للآخر، أم ظلت معبرة عن نفس الإشكاليات الشيعية ولم يتعد دورها مجرد حسينيات فضائية؟
هذا ما سنحاول تحليله في النقاط الآتية:
أهم القنوات الشيعية:
من الممكن حصر أشهر القنوات الشيعية التي تحظى بنسب مشاهدة ليست بقليلة في أوساط الشيعة العرب، في الآتي: قناة (أهل البيت الفضائية) وهي تعد من أكثر القنوات الشيعية انتشارا، ومكان بثها من كربلاء بالعراق، وهي مدعومة من (آية الله السيد هادي المدرسي)، وهو من آيات الله المعروفين في العراق، ولدى الشيعة بشكل عام، والقناة تقدم برامجها بثلاث لغات العربية، والإنجليزية، والأوردية، ويليها قناة (الأنوار، الأولى والثانية)، ومركز بثها من الكويت، على الأقمار الثلاثة الرئيسية، الأولى متخصصة في الحوارات والدراسات المذهبية، والثانية تعمل على نشر الطقوس الشيعية مثل اللطميات والأدعية والبكائيات، وكلاهما مملوك لأحد النواب الكويتيين.
وكذلك قناة (المنار) اللبنانية والمملوكة لحزب الله، وإن كانت ذات أبعاد سياسية من حيث الموضوعات والأهداف، ولكن هذا لا يمنع بثها للعديد من البرامج الدينية المذهبية بشكل مباشر.
وقناة (المعارف)، وتُبث من البحرين، وتعود ملكيتها للشيخ حبيب الكاظمي، وهو ممن لهم تواجدهم الخاص في العديد من البلدان ذات الكثافة الشيعية مثل العراق وقُم ولبنان.
والعديد من القنوات الأخرى مثل (الزهراء) وهي تبث من لندن، وعلى القمر الأوروبي (الهوت بيرد) فقط، و(الفرات) وهي تبث من العراق، وتابعة لمجلس الثورة الإسلامية بالعراق، وكذلك قناة (الكوثر) وهي قناة إيرانية ناطقة باللغة العربية، تتبع بشكل مباشر حكومة الجمهورية الإيرانية.
والملاحظة الجديرة بالذكر أن معظم تلك القنوات حديثة العهد فلم يتجاوز أقدمها، وهي قناة أهل البيت عام 2005، وأحدثها قناة (فورتين) أو الأربعة عشر -إشارة إلى الأربعة عشر معصوما، وهم الإثنا عشر إماما والنبي وفاطمة- عدة أشهر، فهذه القنوات وإن كانت الأكثر حضورا لكنها لا تشكل العد الحصري فهناك غيرها قنوات كثيرة تقف معها على ذات الأرضية.
الذات والآخر في مضمون ما يعرض:
لا يغيب عنا أن المستهدف من هذه القنوات ليس الجمهور المعتنق للمذهب الشيعي فقط، بل إن معتنقي المذاهب والديانات الأخرى لهم حضورهم في مضمون ما يُقدّم من موضوعات في سياق الدعوة المذهبية، أو التبشير المذهبي إن جاز التعبير.
فمن خلال متابعتي لما تعرضه، وبتحليله من منظور الأنا الشيعي، والآخر أيا كان، توصلت لنتائج من الممكن إجمالها في الآتي:
أولا: تميل بعض تلك القنوات إلى تغليب الذات، أي مناقشة القضايا المذهبية الخاصة فقط، دون المساس المباشر بالمذاهب الأخرى، خاصة المذهب السني، والجدير بالذكر أنها تعبر مباشرة عن مذهب الأغلبية الشيعية وهو الإثنا عشري؛ أي عرض لمسائل الفتوى في المذهب، دون الدخول في القضايا الخلافية بين المذهبين، سواء على المستوى التاريخي، أو الفقهي.
مثال قناة الأنوار، والتي رغم تعدد قنواتها وانتشارها، فإنها تميل للجانب الشعائري الطقسي، والمسائل الفقهية الشيعية، خاصة قضايا الإمامة والولاية والمهدوية، ومناقشة الأفكار المذهبية؛ مما ينقلنا مباشرة للنقطة الثانية من التحليل.
ثانيا: الموضوعات المقدمة تظهر الشيعة بوصفهم كتلة واحدة، أي تنحي تماما أي خلافات داخلية، في حالة من تضخيم للذات المذهبية؛ أي محاولة صنع حالة من المصالحة التاريخية والمذهبية مع القضايا الإشكالية والخلافية داخل المذهب الشيعي، مما يثير التساؤل حول طبيعة الطرح الذي تستهدفه تلك القنوات من تجميل لصورة التشيع إلى أبعد مدى ممكن.
وفي مقابل تلك المحاولة لتنحية القضايا الخلافية والإشكالية تجري محاولة صنع إجماع واتفاق داخل التركيبة الشيعية تنطلق من التركيز على الروايات التاريخية المذهبية عن حياة أئمة التشيع، مثل سم الحسن بواسطة معاوية، أو مقتل علي الرضا بسمه كذلك على يد المأمون، وكلها تكريسات مذهبية تبدأ بحكايات الأطفال في البرامج المقدمة، وصولا للبرامج الحوارية والدعوية.
وكذلك كثرة بث الشعائر الشيعية الخاصة باللطميات والعزائيات وهي مكثفة بعدد الأئمة الإثنا عشر على مدار العام، مما يعطي انطباعا بحالة إيمانية جارفة تستهدف مزيدا من تجميل الوجه الديني للتشيع أمام الآخر المستهدف؛ مما يحول تلك القنوات في معظم الأحيان إلى حسينيات أو مجالس عزاء.
ثالثا: من الملاحظ كذلك أن مجرد ذكر كلمة الآخر في سياق الخطاب المقدم، يشير مباشرة إلى السنة، وفي هذا السياق يبدو الآخر هنا أهل السنة بشكل عام والاتجاه "الوهابي" بصورة خاصة؛ حيث تتم مهاجمته بشكل مباشر وكثيف.
فقناة (أهل البيت) على سبيل المثال تستهدف في معظم برامجها عقد المقارنات المذهبية، والإلحاح على مناطق الخلاف بين المذهبين بشكل عام، والوهابية المتشددة خاصة، مثل قضايا العقيدة، والموقف من الصحابة والأئمة على الجانبين، مع نفي فكرة تقديس الصحابة لدى السنة، فيرون أن لقب صحابي لابد ألا يطلق على كل من شاهد النبي، ولكن المناصرين فقط لآل البيت. وفكرة ختم النبوة لدى السنة، وامتداد العلم النبوي مع الأئمة في التشيع، واعتبار أغلب الروايات السنية مأخوذة عن صحابة غير ثقات ولا يجوز الأخذ منهم مع وجود آل البيت. والهجوم اللاذع على المذهب الحنبلي بوصفة كان بداية التشدد وتغييب العقل أمام النقل من وجهة نظرهم، وكذلك كان مفتتحا للوهابية بعد ذلك، ومن أهم البرامج التي تعمد إلى تلك الخلافات في قناة أهل البيت (برنامج سبل الإسلام).
كما تعمل القناة على الترويج للمذهب بشكل تبشيري، باستضافة من تحول من السنة إلى التشيع أو "المستبصرون"، وتدخل معهم في سجالات متعددة ضد المذهب السني.
ثمة مفارقة يمكن تسجيلها تتعلق بخطاب الكثير من الفضائيات الشيعية التي تبث بلغات غربية، فخطاب هذه القنوات المتجه للآخر غير المسلم يتسم بالهدوء والتسامح، كما تعمل على ترويج الحكايات الشيعية الخاصة بالأئمة بكثافة متزايدة، وتبتعد تماما عن أي سجال مذهبي في هذا الخطاب تحديدا، لتعطي انطباعا أن للإسلام وجها واحدا فقط، ولا يحتمل التعدد.
انعكاس القضايا السياسية:
طبيعة التشيع من الأساس الدمج بين ما هو سياسي وما هو ديني، خاصة مع وجود دولة إيرانية مذهبية مكتملة الأركان، وبالتالي تنعكس الأفكار السياسية على الخطاب الشيعي المقدم في سياق الفضائيات، سواء الداخلية أو الخارجية، مثل مناقشة موضوع ولاية الفقيه وضرورة قيادته للعالم الإسلامي، خاصة أن قضية الولاية المحدودة والمطلقة من الأفكار التي تحظى بسجالات واسعة في الأوساط الشيعية السياسية والمذهبية، فتتناول العديد من القنوات -خاصة المعارف التي تبث من البحرين، والكوثر الإيرانية- قصة ولاية الفقيه في العديد من برامجهما.
وفي تجل آخر لانعكاس الأزمات السياسية، يبرز ما تروج له القنوات الشيعية ذات المنشأ العراقي، من أن المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي تتم على يد الفصائل الشيعية في العراق دون غيرها، وكذلك الترويج للمقاومة اللبنانية، تحت قيادة حزب الله وإيران، في محاولة لتهميش كل الأدوار الوطنية المشاركة في مقاومة الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي أو دمجها تحت لواء المقاومة الشيعية.
ويظهر تأثير الاحتقان والاصطفاف السياسي ذروته عندما يتعلق الأمر بـ"الوهابية" التي تتعرض دائما لهجوم مستمر، وتحميلها كل أوزار المشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة تلك التي تتعلق بنزعات التشدد والاحتقان الطائفي، فتلك القنوات بشكل عام تؤكد تسييس الوضع الحالي للمجتمع العربي لصالح المذهب الشيعي، وتبني خطاب سياسي موحد، خاصة في الموقف من التكتلات السنية المتمثلة في خطابهم بالوهابية السعودية.
مشروع الدولة الدينية في الإعلام الشيعي:
لم يطرأ أي تغيير مؤثر على مشروع الدولة الدينية من حيث النظرية في الخطاب الشيعي الحديث إن جاز التعبير، فما تزال دولة المهدي هي العنصر الأصيل في كل ما يقدم من برامج على القنوات الشيعية، مع تصدير فكرة أن تلك القنوات ما هي إلا استكمال للمشروع المقدس المؤسس لانتظار المهدي.
ويظهر ذلك بوضوح في القنوات ذات السمة الإيرانية بشكل عام، أو القنوات التي تعبر عن الجانب الحركي في التشيع مثل قناة المنار التي تُعيد صياغة الأفكار النظرية عن الدولة الدينية، إلى تجسيدات حركية في موقف حزب الله من إسرائيل، والأنظمة المتوائمة معها، فتظهر القناة حزب الله بوصفه جهاد ما قبل الدولة الدينية المهدوية، مع التضامن الكامل مع المشروع الإيراني.
وهذا ينقلنا إلى مرحلة ثانية يفرضها علينا السياق السياسي بشكل عام، وهي موقف الخطاب الشيعي من المشاريع الدينية البديلة، المتمثلة في الحركات الإسلامية السنية مثل حركة الإخوان المسلمين.
فموقف القنوات الشيعية من الإخوان المسلمين يظل غائما ومتغيرا حسب الظروف والمراهنات السياسية في المنطقة بشكل عام، خاصة القنوات التي تعتمد الخطاب الحركي أو التي تطرح السنة ومذاهبهم في سياق النقد أو القدح. فرغم الهجوم الذي تشنه قنوات مثل (أهل البيت) أو غيرها على التيار الوهابي، بأفكاره النظرية أو بتطبيقاته السياسية والحركية، فإنها لا تتطرق إلى الإخوان المسلمين بنفس التوجه وذات القدر، بل قد يكون فكر الإخوان أو مواقفهم السياسية بعيدة عن القدح بشكل عام.
وإن كانت قناة المنار حاولت طرح مشروع الإخوان عن الدولة الدينية، بوصفه مشروعا سلبيا افتقد إلى الطابع الحركي المؤسس له، مع الإلحاح على تسليط الضوء على النزاعات الداخلية داخل التركيبة الإخوانية في مصر أو في الأردن في الآونة الأخيرة، والتواؤمات بين الجماعة والأنظمة السياسية التي تحتويها؛ أي نقد الجانب الحركي للإخوان وليس الأيديولوجيا الحاكمة للجماعة، مع تقديم التشيع بوصفه المشروع الوحيد القائم ذا الملامح الأيديولوجية والحركية الواضحة.
فالدولة الدينية كما يطرحها الخطاب الإعلامي الشيعي، تعتمد بالأساس على نفي كل مشروع بديل، بتحييده أو بالهجوم عليه مباشرة، وطرح النظرية الشيعية المهدوية كمشروع الخلاص المنتظر، مع التدليل عليه بالدولة الإيرانية ومواقفها السياسية، وكذلك المواقف السياسية الحركية لحزب الله بشكل مباشر.
تأثير الإعلام الشيعي في الفضاءات العربية:
الملاحظ من خلال المتابعة، أن للقنوات الشيعية كثافة عددية وانتشارا لا يستهان به في فضاءات المجتمع العربي بشكل عام، وحتى تكون النتيجة واضحة ودقيقة لابد من قياس لنسب مشاهدة تلك القنوات وهذا ما لا يتوفر في هذا السياق الآن.
ولكن من خلال قياس تأثير ما تعرضه تلك القنوات من الممكن الاعتماد على وسيلتين: أولاهما متابعة ردة الفعل في القنوات السنية، خاصة القنوات التي تتبنى الخطاب السياسي البديل، فنلاحظ أن تلك القنوات النقيضة تمثل نقدا للخطاب الشيعي المعلن في قنواته، ويتم ذلك بكثافة متزامنة مع حمى النقد الشيعي للمذهب السني، فيتم نقد الفكر الشيعي في قضايا مثل الشفاعة والإمامة وسب الصحابة، وغيرها من الأفكار الخلافية؛ مما يعطي مساحة للمشاهد العادي أن يشتبك في الفكرة ويتقاطع معها سلبا وإيجابا، بواسطة متابعة القنوات الشيعية، والتفاعل معها بشكل أو بآخر، وهذا ينقلنا للوسيلة الثانية.
أغلب القنوات الشيعية التي تمارس أدوارا نقدية للآخر السني، تعمد إلى فتح حوارات مباشرة مع الجمهور بشكل عام، فيكون أغلب المتصلين بتلك القنوات من السنة الذين يدافعون أو يسألون، وبديهي أن يتم هذا خاصة في سياق برنامج يعرض لأفكار ضد عقيدة أو مذهبية المتصل، ولكن الكثافة تبدو ملفتة، خاصة مع قناة مثل أهل البيت، والتي تحقق نسبة مشاهدة عالية بين الشيعة، أو غيرها من القنوات، مما يشير إلى أن هذه القنوات تحقق نسبتها كذلك بين السنة.
وفي النهاية، من الممكن التوصل من خلال هذا العرض إلى أن القنوات الشيعية تجسد أزمة أخرى تضاف لسياقات الاحتقان المذهبي في البلدان العربية، خاصة في المجتمعات ذات الحضور الشيعي الملحوظ، فهي ظاهرة ملفتة، خاصة فيما تمارسه من دور ترويجي ملحوظ للتشيع في الداخل والخارج. وإن كانت تعبر عن حالة حمى الإعلام الديني بشكل عام، والتي أصابتنا في كل أشكال التعبير الديني بمختلف الطوائف والمذاهب، فهي مجرد إعادة صياغة لواقع فقد التفاعل مع الآخر وقبوله.
المصدر|الحوار المتمدن