لا أشعر بمفاجأة كبيرة حين تكون إيران ومسؤولوها المصدر الأساسي للأخبار حول ما يدور من صراعات وتطورات في العراق، فقد سبق المسؤولين الإيرانيين نظراؤهم العراقيون في الإعلان عن نتائج العمليات العسكرية الإيرانية بالفلوجة، واعتبروا أن ما حدث هو “نصر إلهي”، وقال كبير مستشاري قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إيرج مسجدي “إن حلب والفلوجة وبقية مناطق سوريا والعراق هي الخط الأول لمحور المقاومة”، وأن “مدافعي الحرم”، وهي التسمية التي تطلق على الميليشيات الشيعية الإيرانية المشاركة في العمليات العسكرية في هذين البلدين، “سيبقون هناك إلى حين القضاء على آخر أفراد تنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية والتكفيرية الأخرى”.
ما يهمني في هذا التصريح أن إيران لم تعد تخفي نواياها وخططها العسكرية والاستراتيجية المقبلة، فقد نقل موقع تسنيم الإيراني عن مسجدي قوله إن القتال في سوريا والعراق يحقق “عمقا لأمن إيران”، ويدافع عن حدود البلاد، معتبرا أن داعش وما وصفه بـ”الجماعات التكفيرية المدعومة من السعودية وإسرائيل” تعمل على احتلال سوريا والعراق بغية الوصول إلى إيران. ورأى مسجدي أن هذا الأمر كاف ليكون مبررا لوقوف إيران إلى جانب حلفاء لها، كأفغانستان وباكستان ولبنان، لإبعاد هذه التهديدات عن البلاد.
النوايا هنا واضحة وضوح الشمس، فإيران باتت تعمل كقوة إقليمية مهيمنة تتحرك في محيط استراتيجي واسع بمعزل عن القانون الدولي وتفرض إرادتها وإملاءاتها على الجميع ثم تجاهر بعدم الرغبة في التخلي عن وجودها العسكري غير المشروع في دول عربية لها سيادتها، بدعوى الحفاظ على أمن إيران وبناء حائط صدّ أمامي في مواجهة مؤامرات مزعومة.
لو أخذنا بهذا المنطق الإيراني الأعوج لتحول العالم إلى غابة حقيقية، وانفتحت السيناريوهات على نهايات مفتوحة يصعب على أعتى مؤلفي الدراما التنبؤ بمساراتها، فهذا النمط من التفكير الغوغائي يضرب عرض الحائط بكل الاتفاقيات والتفاهمات والقواعد المؤسسة والمؤطرة لحدود السيادة والنفوذ، التي استقرت عليها العلاقات الدولية وتأسست بموجبها الأمم المتحدة في منتصف أربعينات القرن الماضي.
كيف لدولة مثل إيران أن تجاهر باحتلال دولتين عربيتين للحفاظ على أمنها؟ وإذا كان هناك من يقر هذا التصرف الاستعماري، فكيف للعالم أن يبحث عن نهاية حقيقية للإرهاب؟ ولماذا لا يفهم الجميع أن تنظيمات الإرهاب وجماعاته تقتات على الصراعات المذهبية؟ وأن هذه الصراعات أحد أخطر روافدها وعوامل الجذب التجنيدية والاستقطابية، في منطقة يمثل الدين لشعوبها حساسية فائقة.
لا أحد يختلف مع الهدف الخاص بمكافحة تنظيم داعش الإرهابي، ولكن الكارثة أن يتحول هذا الهدف إلى ستار أو غطاء لاحتلال دول أخرى وتحقيق مصالح استراتيجية وتنفيذ مشروعات استعمارية يتمّ استدعاؤها من سراديب التاريخ. ودعوني أقُلها بصراحة، إيران لا تريد لتنظيم داعش أن يندحر سوى بعد أن يساعدها في استكمال مخطط السيطرة الكاملة على المناطق الشيعية من العراق، وإحكام قبضتها على سوريا، إذ لا يعقل أن تشعر إيران بالخوف من تنظيم داعش، في حين لا تشعر بأي قلق تجاه إسرائيل، التي تزعم ليل نهار أنها عدوتها اللدود.
المسألة إذن لا علاقة لها بأمن إيران، ولو أن كل دولة طاردت تنظيما تشعر بالخطر تجاهه لاحتلت الولايات المتحدة إيران نفسها، التي تأوي قادة تنظيم القاعدة وتوفر لعائلاتهم المأوى، وتعتبر الدولة الوحيدة في العالم التي ترعى الإرهاب وتخصص له ميزانيات من دخلها القومي بشكل رسمي، وتتجاهل معاناة شعبها وتفشي الفقر والأوبئة الاجتماعية والأخلاقية بين أبنائه.
ثمة نقطة أخرى تتعلق بمنطقية التصريحات الإيرانية، فإيران التي تريد أن تقنع الجميع بخطر تنظيم داعش على أمنها القومي، تشير على لسان مساعد رئيس هيئة الأركان العسكرية، العميد مسعود جزائري، بأنّ لديها قدرات عسكرية هائلة “ما خفي منها أكبر وأهمّ”، وأن هذه القدرات “لو تمّ عرضها كلها لتعجبت الولايات المتحدة الأميركية منها” بحسب تعبيره. والسؤال هنا، إذا كانت إيران تزعم امتلاك قدرات عسكرية “هائلة” قادرة على إثارة رعب الولايات المتحدة نفسها، فكيف تخشى من توغل محتمل لتنظيم بدائي عسكريا وتنظيميا وفكريا مثل تنظيم داعش؟ هذا التناقض الغريب يؤكد أن المسألة لا علاقة لها البتة بداعش ولا بالإرهاب، ومن ثم فليس لديّ أيّ شك في أن هذه الظاهرة الداعشية البغيضة هي نتاج مختبرات الحرس الثوري الإيراني، كي تكون غطاء استراتيجيا مقنعا لتحقيق أهداف إيرانية في احتلال العراق والتدخل في سوريا.
تريد إيران من جوارها الإقليمي أن يسلم بعقيدتها الاستراتيجية الجديدة القائمة على الهيمنة، والتي تتجلى في لعب دور عسكري خارج الحدود الإيرانية، من أجل “مطاردة الأعداء” كما تزعم إيران، وهذه الاستراتيجية هي الوجه المقابل للفوضى الإقليمية المؤكدة، ويجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن الصمت في مواجهة هذا الحديث الإيراني سيجلب كوارث على الجميع، ويجعل فكرة القضاء على الإرهاب بعيدة المنال تماما مهما بذلت من جهود على المستويات الفكرية والأمنية والدينية والثقافية والتربوية، لأن إشعال صراع مذهبي -شيعي سني- في هذه المنطقة كفيل بتوفير كل ما تحتاجه تنظيمات الإرهاب من “أوكسجين” لعقود طويلة قادمة.