حضرتُ منذ أسابيع قليلة في إسطنبول ملتقى عالمي عن الأقصى باسم "القدس أمانتي"، وكان الحضور كبيرا ومن عدة دول عربية وأجنبية، كلها تتكلم عن القضية المركزية وكيفية استمرار شحذ الهمم باتجاه مسرى نبينا المغتصب، وكانت لي كلمة على هامش الملتقى ممثلا عن الحراك الشعبي السني في العراق ومسؤول فريق القدس أمانتي فرع العراق.
قلت إن الأمة العربية والإسلامية منذ 1947 وإلى ظهور الثورة الخمينية كانت قضية القدس، عندها هي القضية المركزية والمحورية في الصراع مع اليهود، سواء كانت من جانب الحكومات أو الشعوب، ولم يستطع اليهود تفريق أنظار المسلمين عن هذه القضية الأم بقضايا أخرى، ولذلك كانت هذه القضية تستمد روحها باستمرار إيمانيا وفكريا، وهي الشغل الشاغل للشعراء والأدباء، فضلا عن رجال الدين والسياسة، وحيث إن اليهود لا يغلبون الأمة ويسومونها سوء العذاب إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وحيث إن الأمة كانت موحدة ضد اليهود في هذه القضية، فأي حبل من الناس هذا الذي فرق كلمتها وجعل لها قضايا مركزية أخرى حتى تشتت الأنظار عن القضية الأم، قضية الأقصى، وتنفس اليهود الصعداء من هذه الأمة التي خاضت معها الحروب تلو الحروب لتحرير الأقصى.
جاءت ما تُسمى بالثورة الإسلامية التي لبست ثوب الإسلام زورا وبهتانا، وخدعت الكثير من أبناء الأمة سياسيين أو دينيين أو أكادميين، ونادت منذ البداية بتحرير الأقصى الشريف، وشكل الخميني جيشا سماه بجيش القدس وأطلق يوما عالميا بزعمه باسم يوم القدس، ونجح بخداع الناس بهذه الشعارات الزائفة التي كشفت لنا الأيام أن القضية الفلسطينية لم تتأذ من شيء مثلما تأذت من المشروع الإيراني الصفوي.
بدأ الخميني بتصدير ثورته الشيعية وبدأ بالعراق، حيث كان له أتباع كثيرون هناك، فدارت حرب طاحنة استمرت 8 سنوات، أحرقت الحرث والنسل، وضعف الاهتمام بقضية الأقصى التي كانت من أولويات العراق في ذلك الوقت، حيث الدعم السخي لأهلنا في فلسطين ولا أحد يستطيع الإنكار.
ثم استمر المشروع الإيراني التآمري على الأمة بنشر التشييع وتهييج خلاياهم النائمة في بلداننا التي كانت تعيش بأمن وأمان، فانتشر الإرهاب والفتن والحروب، ثم جاء الاحتلال الأميركي للعراق ليحرق المنطقة ويجعل قضية القدس المركزية على الهامش، وتعترف إيران، لولا إيران لما سقطت كابول وبغداد، فأخرج العراق رغم أنفه من الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ثم جاءت انتفاضة تونس والجزائر وليبيا، وآخرها انتفاضة الشام ومصر، وتبين دور إيران الكبير في وأد هذا الربيع العربي الذي تحول بفضل المشروع الإيراني إلى خريف قاتم على الأمة وعلى القضية الفلسطينية.
وتبين كذلك الدور الإيراني الكبير في اليمن وجنوب السعودية والبحرين والكويت وغيرها من البلدان العربية، حيث حركت خلاياها النائمة المليشيات لتعبث بأمن البلاد، ولتصرف بلداننا حكومات وشعوبا عن قضية الأقصى المركزية، وأصبح لكل بلد قضيته المركزية.
فالعراق يأن تحت الاحتلال الإيراني والأميركي، وسوريا تأن تحت الاحتلال الإيراني والروسي، واليمن تأن تحت تمرد وخيانة الحوثي حليف إيران، بل وتدخلت إيران رسميا في العراق وسوريا واليمن، وويلاتها شاهدة للعيان في هذه الدول، فأصبح لكل بلد قضيته المركزية التي تشغله عن قضية الأقصى.
ثم استغلت تخلي الأمة عن دعم حركة المقاومة الإسلامية حماس وغيرها، تحت الضغط الدولي، فأمدتهم بالسلاح والمال لا حبا في حماس ولا في الأقصى، ولكن لتمزيق الأمة وتفريقها أكثر فأكثر، فلم يخدم اليهود أحد مثلما خدمتهم إيران، كذلك رفعت إيران شعار أنها الأب الروحي للشيعة في العالم، وهي حاميتهم في البلدان السنية، وفي الحقيقة أن إيران تستخدم الشيعة ولا تخدمهم، وتحتمي بهم ولا تحميهم، ونشرت الرعب عن طريق مليشياتها الإرهابية في العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين وغيرها من البلدان. بل إن لها يدا كبيرة في إنشاء داعش وغيرها لتدمير المشروع السني ووصم أهل السنة بالإرهاب للقضاء عليهم تحت مسمى محاربة الإرهاب، فتفرقت القضية المركزية وانشغلت الأمة بقضايا دولها الداخلية التي سببتها لها إيران بمشروعها الصفوي التوسعي.
فلم يجد اليهود حبلا من الناس منذ 1947 وإلى اليوم خدمهم خدمة مثلما خدمهم المشروع الإيراني الصفوي، ولو رجعنا إلى الوراء وقرأنا التاريخ جيدا، لوجدنا أن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لم يستطع فتح بيت المقدس في معركة حطين إلا بعد أن قضى على الفاطميين الرافضة وجيوبهم في عكا، فنحن اليوم أمام حبل من الناس ينصر اليهود ويبعد الأمة عن قضيتها المركزية، ويستعمل خلاياه النائمة التي هي من أبناء جلدتنا، لكنهم يدينون بالولاء العقدي للمشروع الصفوي، وتسخر إيران لهذا المشروع الخياني كل الإمكانات السياسية والدينية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية.
فإذا كان هذا المشروع قد شتت الأمة كل هذا التشتت وزرع الفرقة بين أبنائها، ألا يجب على الأمة أن تتكاتف وتجعل محاربة هذا السرطان من أولى أولوياتها، وتكون محاربة هذا المشروع شموليا موجها إلى السنة لتحصينهم وإلى الشيعة المخدوعين لكشف حقيقة هذا التشيع لهم، الذي هو النسخة المزورة للإسلام، ليعودوا إلى حضن الأمة الذي سلخهم منه المشروع الصفوي الإيراني باسم أتباع أهل البيت عليهم السلام زورا وبهتانا.
فلا يمكن لهذه الأمة اليوم أن تتوحد وتعود الأقصى قضيتها المركزية إلا بمجابهة هذا المشروع الإيراني الذي شتت الأمة.. مشروع بمشروع تشترك فيه الأمة وليس أفراد وجماعات، فإن الأمر خطير جدا يمس عقيدة الأمة وكيانها ومنهجها وتاريخها، وأصبح الجميع تحت مرمى نيران هذا المشروع الصفوي بمباركة من العالم الصليبي واليهودي، فالمشروع الإيراني اليوم يحمل ثأرا عقائديا وعنصريا لأهل السنة جميعا، فإن قضينا على هذا المشروع الصفوي التآمري عادت قضية الأقصى إلى الصدارة وإلا فلا قضية.
* الناطق الرسمي للحراك الشعبي السني في العراق