تمتلئ أنحاء الشرق الأوسط بالفرص الضائعة، والآمال المفقودة والأحلام التي تحولت إلى غبار. ويذهب الاتفاق النووي الإيراني الآن في الاتجاه نفسه. وكان الرئيس حسن روحاني -بطل هذا الزمان و”الرجل الطيب” الإيراني في أميركا- قد حصل على الدعم حتى من المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، عندما وقع الاتفاق النووي مع ست قوى عالمية في العام الماضي على خفض نشاطات بلده النووية في مقابل وضع نهاية للعقوبات الغربية عليه. لكنه يشرع في الظهور الآن مثل أبله.
في المقابل، يتبين أن كل ثوريي إيران القدماء، وأبناء الشهداء والمحاربين القدامى وجماعة الحرس الثوري ومديري كل المؤسسات التابعة له، كانوا على حق كل الوقت. لقد تم رفع العقوبات –لكنها لم تُرفع. والاستثمارات الغربية لا تتدفق على إيران –بالرغم من كل الوعود- لأن المصارف –وخاصة المصارف الغربية- خائفة من احتمال انتهاك بقية قوانين العقوبات الأميركية، بحيث لا تجرؤ على التعامل مع الجمهورية الإسلامية. إن واشنطن تعطي الشيء وتأخذه في الوقت نفسه؛ وهو شعار ينبغي على كل رئيس إيراني أن يتعلمه.
كان محمد خاتمي هو رجل الدولة الحقيقي الوحيد الذي أنجبه الشرق الأوسط على مدى نصف قرن، وكان قد انتُخب رئيساً لإيران في العام 1997. وأراد خاتمي صناعة “مجتمع مدني” -أقرب ما يمكنك تحصيله إلى دولة علمانية تحكمها حكومة شيعية ديمقراطية. لكن الولايات المتحدة عاملت خاتمي بازرداء –وبذلك أصبح أحمدي نجاد غريب الأطوار الرئيس التالي، ورجلاً كان اليمين الأميركي أكثر راحة معه
ألم يقولوا كل الوقت أن قادة إيران هم مجانين نوويون معادون للسامية، حتى أنهم –وهذا من عند الإسرائيليين- أسوأ من هتلر نفسه؟ والآن، ربما يخسر روحاني -الرجل الذي تستطيع أميركا أن تعمل معه- انتخابات الرئاسة في العام القادم لأنه هو أيضاً نسي الشعار الذي يقول في أبسط صوره: لا تثق بأميركا.
لم يتم دمج إيران في النظام المالي العالمي –ولن يحدث ذلك- حتى مع أن الصينيين سيكونون سعيدين بالاتجار معها.
ويقترح أنصار خامنئي الآن أن المرشد الأعلى –ليس الذكي الداهية وإنما الرئيس الساذج- هو البطل العظيم لتاريخ إيران الحديث (بعد آية الله روح الله الخميني، بطبيعة الحال). فهو يقول أن المصارف تخاف الأميركيين “الذين لم يعملوا وفق وعودهم، والذين أزالوا العقوبات على الورق فقط). لكن الأسوأ مع ذلك، هو أنه على حق. وقد أعلن أحد مؤيديه الأسبوع الماضي: “إن حياة خامنئي هي التي يجب أن تكتبوا عنها. إنه المخلِّص”. نعم، بفضل أميركا.
لأن الكثير من أكبر المصارف في أوروبا لن تتعامل مع إيران خوفاَ من انتهاك العقوبات الأميركية الأخرى التي ليست لها أي صلة بالاتفاق النووي –لكن لها الكثير من الصلة بوكالات الولايات المتحدة ونيابتها العامة، الذين يتصيدون الأدلة على غسيل إيراني للأموال، وعلى تمويل “الإرهاب” وارتكاب الجرائم المالية. وكان بنك “بي أن بي” الفرنسي قد دفع 2.3 مليار جنيه إسترليني من أجل تعاملات له مع إيران قبل بضع سنوات –وعلى مدى خمس سنوات، يقترب الرقم، إلى جانب مصارف “ستاندرد تشارترد” و”أتش. أس. بي. سي” إلى نحو 10.7 مليار جنيه إسترليني.
وهكذا، لما تضع المصارف ومؤسسات المالي الأوروبية نفسها في موضع دفع المزيد من الغرامات، فقط لأن حكوماتها لا تريد أن تتعامل تجارياً مع إيران؟ تقول مجلة “الإيكونومسيت” أن بعض المصرفيين الأميركيين لن يقوموا حتى بمنح بطاقاتهم التعريفية للإيرانيين. والآن، هذا ما يمكنك أن تسميه الخوف.
ولكن، دعونا ننتقل، لحظة، إلى بيروت، حيث مصرف لبنان المركزي عالق في أزمة مع حزب الله، الميليشيا الشيعية التي أخرجت جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان في العام 2000، والتي تقاتل الآن وتموت من أجل إنقاذ حكومة بشار الأسد في سورية (والتي هي أيضاً، بطبيعة الحال، تحت العقوبات). وسواء كان العمل الأول –في عيون واشنطن- جريمة أكبر من الثانية أم لا، فإن الحقيقة هي أنه لا يُسمح لأي مصرف لبناني بأن تكون له أي تعاملات، أو أن يحتفظ بأي حسابات تشمل أعضاء حزب الله أو أنصارهم. وسوف تخسر المصارف اللبنانية التي تكسر هذه القواعد حقها في التعامل بالدولار الأميركي.
أدانت قيادة حزب الله إلى محافظ البنك المركزي، رائد سلامة، على خضوعه للمطالب الأميركية، مدعية أن العقوبات الأميركية تستهدف المجمتع الشيعي كله في لبنان. ويجد رائد العجوز المسكين نفسه عالقاً –وهو المصرفي اللامع والرائع الذي جاء في أعقاب عدد من المحافظين المتراخين للغاية، والمجبر الآن على تطبيق العقوبات على من لا سلطة له عليه، والذي سيدمر أي مصرف خاص يطيع القواعد الأميركية المفروضة على مصرف لبنان المركزي. وبما أن 65 في المائة من كل ودائعها هي بالدولار –وكذلك 70 في المائة من كل تحويلاتها- فإن انتهاك القواعد الأميركي يعني أن البنوك اللبنانية سوف تخرج تُفلس وتخرج من العمل.
سمى المكتب الأميركي لمراقبة الأصول 99 حساباً ذات صلات غير قانونية بحسابات مزعومة لحزب الله، بما فيها مؤسسات خيرية، ومدارس، وشركات ومحطات تلفزة. وحتى أعضاء حزب الله في البرلمان، المنتخبين قانونياً وبنزاهة للبرلمان اللبناني، والذين يتولى اثنان منهما وزارات، لم يعودوا يستطيعون الاحتفاظ بحسابات بنكية. والآن، ربما توافق على أن للغرب كل الحق في قص ملايين حزب الله. وسواء كانوا “إرهابيين” أم لا، فإنهم أكثر قوة من الجيش اللبناني، وهم محل اللوم على الفشل في انتخاب رئيس لبناني، وينخرطون بشكل خطير في حربي لبنان وسورية الأهليتين. وإذا كان ذلك يهم، فإن أي مصرفي غربي عاقل أو حكومة عاقلة لا يريدون أن يمنحوا تفويضاً وشيكاً على بياض لجيوش إيران من الأعمال التجارية والشركات المراوغة المرتبطة بحسابات النظام البنكية أو عملياته العسكرية المشبوهة.
لكن بين المصارف اللبنانية التي تطيع قواعد سلامة الأميركية، هناك “بلوم بانك”؛ وفي نهاية الأسبوع الماضي فقط، انفجرت قنبلة بزنة 3-4 كيلوغرامات خارج مكاتب إدارته في ضاحية فردان البيروتية. وكانت تلك ليلة أحد، وكان هناك القليلون في المكان –وأصيب اثنان فقط بإصابات طفيفة- واستنتجت الشرطة على الفور أنه كان عملاً رمزياً أكثر منه عسكرياً. وعندما يريد لبناني أن يقتل، فإنه يفعل ذلك بدقة بابلو أسكوبار. لكن الصوت الراعد للنوافذ المحطمة قال قصته الخاصة. هل كان ذلك تحذيراً من حزب الله؟ غير مرجح، كما قال البعض. إن حزب الله ليس بهذه الفجاجة. حسناً، ربما!
لكن بوسعكم رؤية الصورة. عندما لا تستطيع إيران أن تخرج من مظلة العقوبات التي ظنت أنها أفلتت من قيودها، فإن ميليشياها التي تدفع لها في لبنان –البلد الذي وصفه رجل دين شيعي ذات مرة بأنه “الرئية التي تتنفس إيران من خلالها”، تصبح عالقة في نفس الشبكة المالية. وبذلك، لا يكون من الصعب على الإيرانيين أن يروا ما يسمونه بالإيرانية “دسيسة” –والذي يشير إليه حزب الله بالعربية ببساطة باسم “مؤامرة”.
ولكم أن تقرروا بأنفسكم ما إذا كان هذا صحيحاً. أما في إيران، فإن رفع العقوبات هو وعد لا يتم الوفاء به، وهناك يتبسم جماعة الحرس الثوري، والاتفاق النووي يتدحرج بكل تأكيد منحدراً إلى قاع التلة. إنه، بعبارة أخرى، حلم يتحول سريعاً إلى غبار.
المصدر| صحيفة الغد