بدأت الاصطفافات والتكتلات والمفاوضات المكثفة تجري داخل مؤسّسات صنع السياسة الخارجيّة الأميركية في واشنطن منذ أن عيّن الرئيس دونالد ترمب، السفير جون بولتون، المعروف بحماسه لإلغاء اتفاق إيران النووي، مستشاراً للأمن القوميّ.
وبينما نقترب من 12 مايو (أيار)، وهو الموعد الذي حدده ترمب لاتخاذ قرار حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستستمر ضمن اتفاق إيران النووي الذي بات يعرف بالخطة المشتركة الشاملة JCPOA أم سيلغيه ويعيد فرض العقوبات الشاملة على طهران، تصاعدت النقاشات داخل الإدارة الأميركية حول جدوى تعديله من إلغائه كلياً.
وقال ترمب إن الكونغرس والحلفاء الأوروبيين إذا لم يتمكنوا في الموعد المقرر من إصلاح عيوب الاتفاق الكارثي فإن الولايات المتحدة سوف تنسحب منه، مشترطاً ثلاثة مطالب أساسية لتعديله:
1 - وقف تطوير واختبارات الصّواريخ الباليستية الإيرانية.
2 - الانسحاب الإيراني من دول المنطقة والحد من أنشطتها المزعزعة للاستقرار والداعمة للإرهاب في الشرق الأوسط.
3 - تعديل بند «غروب الشمس» في الاتفاق الذي يتيح لإيران استئناف أنشطتها النووية بمجرد انتهاء الاتفاق بعد عشر سنوات من توقيعه.
ومن ناحية أخرى، وكما في السابق، فقد كثفت جماعات اللوبي الإيراني في أميركا نشاطاتها الحثيثة مع المؤسّسات الليبراليّة الأميركيّة التي تتمسك بميراث باراك أوباما، وتقوم تخويف الجمهور الأميركي وتحذيره مما يصفونه بخطورة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ودخولها في حرب مع إيران، وكذلك مع كوريا الشمالية.
هذه المجاميع وخاصّة اللوبي الإيراني، استغلت قرار تعيين جون بولتون مديراً للأمن القومي ومايك بومبيو، وزيراً جديداً للخارجية، وهما من صقور الإدارة، في دعايتهم للتحذير من تبعات سياسة ترمب الخارجية وأطلقوا على الفريق الجديد في الإدارة لقب «حكومة الحرب».
وفي يناير (كانون الثاني) 2018، عمل كل من وزير الخارجية المقال ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي السّابق هربرت ماكماستر ووزير الدفاع جيمس ماتيس، على إجبار ترمب بأن يقرّ أن إيران كانت ملتزمة تقنيّاً بالاتفاق، وهذا ما حدث. لكن الآن اثنين من هؤلاء الثلاثة ذهبا ومن المحتمل أن تكون جينا هاسبل، مديرة وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) معارضة للانسحاب من الاتفاق النووي، وفقاً لسوابقها الطويلة في الوكالة.
غير أن بولتون وبومبيو متّفقان مع ترمب على أنّ الاتفاقيّة النووية مع إيران كانت كارثية وتهدد الأمن القومي الأميركي، وكلاهما قد اقترحا بأن تغيير نظام الملالي الحاكم في طهران هو الحلّ الوحيد والأنجع لأن النظام الإيراني بات يشكل مصدر قلق مستمر وتوجهاته تزعزع الأمن والاستقرار في المنطقة.
ليس من الواضح أن يتم تعيين بومبيو وزيراً للخارجيّة الجديد بحلول شهر مايو، إلا أنه من المتوقّع أن تبدأ جلسات الاستماع للتنصيب خلال هذا الشهر. لكنّ السيناتور الجمهوري بوب كوركر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في الكونغرس قال إنه بسبب قرب الانتخابات والترشيحات يمكن أن يتحرّك مجلس الشّيوخ ببطء في هذه الفترة حول قضية التنصيبات الجديدة في الحكومة.
لكن السّؤال الذي يطرح هنا هو هل أن ترمب نفسه يرغب فعلاً وقادر على مواجهة المخاطر؟
قد لا تكون الإدارة قادرة على حشد إجماع قانوني لإلغاء اتفاقية إيران النووية. وحتى لو استطاعت تحقيق ذلك، فهل ستختار المواجهة في منطقة جيواستراتيجيّة حاسمة؟ هل يسمح البنتاغون بالوقوع في حرب أو حتّى في وضع البلاد في مصير مجهول؟
لكن إذا ما افترضنا أن ترمب سيفي بالعهد الذي قطعه في خطاب متلفز في يناير الماضي وتخلى عن الاتفاق، فكيف سيتصرف الاتحاد الأوروبي حينها؟ وماذا سيكون رد فعل إيران بعيداً عن التهديدات الغوغائية.
هذا بينما نرى أن إيران لم تتمكن من استقطاب الاستثمارات الأوروبية وفق الاتفاق النووي، كما أن استمرار الاحتجاجات في الداخل بات يهدد بقاء النظام بأكمله، هذا فضلاً عن تزايد إنفاق النظام على حلفائه وميليشياته في سوريا واليمن والعراق وإيران ولبنان وتمويل عشرات الآلاف من المرتزقة في هذه الدول.
يروج اللوبي الإيراني في أميركا بأن إلغاء الاتفاق سيكون في مصلحة المتشددين المعادين للغرب في إيران المتشدّدة، لكن الواقع هو أن هذا اليمين وحليفه الحرس الثوري هم السبب فيما آل إليه الاقتصاد الإيراني المتدهور، في ظل الفساد المتفشي في جميع هياكل الدولة.
شخصياً، أعتقد أن من يرون أن ترمب لم يفكّر كثيراً في عواقب تمزيق اتفاقيّة إيران وأنه ليس لديه استراتيجيّة لاحتواء الردّ الإيراني، مخطئون، لأنه يمكن لترمب أن يتحدى الإيرانيين وباستخدام فائض النفط الحالي لتشجيع الحلفاء الأوروبيين على عدم شراء النفط الإيراني، وذلك سيدمر اقتصاد نظام الملالي، كما سيتيح للشعوب الإيرانية مواجهة هذا النظام المتهالك.
ومن ناحية أخرى، فقد طالب ترمب الكونغرس بالعمل المشترك لمعالجة عيوب الاتفاقية، لكن الكونغرس يتطلع إلى المساعي الأوروبية التي فشلت بدورها في إقناع الإيرانيين لمراجعة الاتفاق حتى الآن، وقال السيناتور كوركر في 13 مارس (آذار)، إننا ألقينا الكرة في ملعب البيت الأبيض.
وكان الاجتماع الدوري لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية المنعقد في 16 مارس المنصرم قدم تقريراً عن برنامج إيران النّووي، وأكّد التزام طهران المستمرّ وقرر أن تعمل الدول الأوروبية الثلاث ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، على فرض عقوبات إضافيّة على إيران للحد من برنامجها للصّواريخ الباليستيّة والأنشطة التي تقوم بها إيران في سوريا، لكنهم لم يقدموا أي شيء للأميركيين حول إحراز أي تقدم بخصوص المفاوضات مع إيران حول مراجعة الاتفاق النووي. وقالت فيديريكا موغيريني مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إنه ليس هناك اقتراح لفرض عقوبات إضافيـــة على إيران.
ومن غير الواضح ما إذا كان تصريح موغيريني حقيقياً أم أنه تضليل للرأي العام، وهل هناك سيناريو مختلف اتفق عليه البيت الأبيض والحلفاء الأوروبيون سيتم الإعلان عنه في اللحظة الأخيرة مع انتهاء مهلة ترمب؟
وبناء على هذا، أرى أن الصراعات والنقاشات والاصطفافات ستكون على أشدها هنا في واشنطن خلال الأسابيع المقبلة، حول موت أو بقاء الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب.
*ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران
(الشرق الأوسط)