ما تفعله التيارات السياسية المدنية في العراق أمر يثير الاستغراب فعلا بسبب ما ينطوي عليه من سذاجة سياسية وانتهازية نفعية صارخة.
زعماء تلك التيارات يدخلون إلى الانتخابات رغبة منهم في أن يكونوا أعضاء في الحكومة أو مجلس النواب، وهم يدركون أن وجودهم هناك لن يحقق شيئا مما يعلنون أنهم يسعون إليه عن طريق المشاركة السياسية.
يظهرون من خلال دعواهم تلك كما لو أنهم على حق. فهم، كما يقولون، لا يرغبون في أن تنفرد الأحزاب الدينية بالحكم وتشريع القوانين والتحكم بثروات البلد وطرق إنفـاقها.
ذلك على المستوى النظري هو أمر حسن، بل هو فعل نضالي في ظروف سيئة كالتي يعيشها العراق حاليا، حيث الكلمة العليا للميليشيات الطائفية المدعومة من إيران.
ولكنه على المستوى العملي مجرّد كلام، ذلك لأن وجودهم في السلطة منذ أكثر من عشر سنوات لم يقلل من منسوب الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة، كما أن عضويتهم في مجلس النواب لم تمنع استصدار قرارات دفعت بالعراق إلى مستوى غير مسبوق من التخلف والتمييز على أساس الجنس.
أثبتت تجارب السنوات الماضية فشل التيارات المدنية في إحداث درجة من التغيير، أيّا كانت نسبتها، بل إن وجود أصحاب الرؤى المدنية داخل العملية السياسية قد أضفى على تلك العملية القائمة على أساس غير مدني الكثير من الشرعية، فكان ذلك الوجود بمثابة غطاء استعملته الأحزاب الدينية لتضليل العالم الخارجي بأنها لم تقصِ أحدا، وأن وجودها مستلهم من تنوع الطيف السياسي العراقي.
بهذا المعنى يكون ممثلو التيارات المدنية قد وقعوا في شرك الخيانة. علموا بذلك أم لم يعلموا. وهي خيانة مزدوجة. خيانة مَن صوتوا لهم وخيانة مشروعهم السياسي المعلن.
إنهم يمارسون خديعة، الهدف منها الحصول على امتيازات شخصية في ظل انهيار لافت لمبادئ وقيم المجتمع المدني، وذلك لصالح تكـريس هيمنة التيارات الدينية.
لا تحتاج الأحزاب الدينية الحاكمة إلى إعلان العراق دولة دينية ليكون كذلك. العراق دولة دينية بالفعل.
ما إن يختلف طرفان من الأطراف السياسية الحاكمة فيه حتى يُنظر إلى مرجعية النجف. كما أن الشعب صار يناشد تلك المرجعية التدخل من أجل الحدّ من تغوّل الفاسدين واستشراء الفساد، ناهيك عن أن سلطة رجل الدين في الشارع العراقي باتت لا منازع لها.
لقد حلت الخرافة محل العلم، وباتت السلطة تُستلهم من المرويّات الطائفية. فهل علينا أن نصدق في ظل كل تلك الهيمنة الدينية أن في إمكان بضعة أفراد يتسللون خلسة إلى مجلس النواب وإلى الوزارات أن يحدثوا تغييرا من خلال دعوتهم للحفاظ على الأسس المدنية التي قامت عليها الدولة المدنية الحديثة منذ عشرينات القرن الماضي؟
إن صدقت تلك المحاولة فهي فارغة من أي معنى. ضحك كالبكاء إذا لم يكن أسوأ.
الواقع يقول إن العراق المنكوب بمتدينيه الذين خلطوا الحلال بالحرام من خلال عدم احترامهم لروح العدالة، قد نُكب أيضا بأدعياء العلمانية المتاجرين بحقوق المواطنة ومبادئ العدالة الاجتماعية.
كان الأولى بمعارضي قيام الدولة الدينية أن يعارضوا من حيث المبدأ وجود حزب الدعوة وهو حزب طائفي في الحكم. كان عليهم أن يقفوا مع الشعب خارج أسوار المؤسسة الدينية الحاكمة.
ولكنهم فعلوا العكس تماما. لا لشيء إلا لأنهم هم أيضا من اختراع ماكنة الاحتلال الأميركي. وهنا بالضبط تكمن العقدة المستعصية على الحل.
منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها سلطة الاحتلال الأميركي تأليف حكومة عراقية كان الخيار المدني مستبعدا، ولم يكن أحد قد طالب بقيام حكومة كفاءات.
وما يؤكد ذلك المنحى الخطير أن أحمد الجلبي عراب الاحتلال الليبرالي قد أقام البيت الشيعي وتزعمه لسنوات قبل أن يحل التحالف الوطني “مجموعة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران” محله.
علمانيو العراق المتسللون إلى السلطة ليسوا سوى فصل من فصول الكارثة العراقية.
(العرب)