تكرر ذات السيناريو في عدة دول: تتخذ الدولة مجموعة من الإجراءات التقشفية لمواجهة عجز الموازنة العامة، وترفع الدعم عن سلع أساسية مثل الوقود والكهرباء والخبز، وتكون النتيجة المباشرة هي ارتفاع سريع في أسعار السلع التي رفع عنها الدعم، وبالتبعية انخفاض حاد في القدرة الشرائية لقطاع واسع من الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وسرعان ما ينفجر بركان الغضب في صدور الملايين الذين تضرروا من سياسات حكومتهم، والذين يعانون أصلا من بطالة واسعة وأزمات معيشية خانقة، وتكون النتيجة أن يتحول هذا الغضب إلى تظاهرات واحتجاجات عفوية بلا قيادة واضحة. أما الدولة، فسرعان ما تحمّل الأعداء في الخارج مسؤولية الاحتجاجات، وكأنه لا توجد أسباب داخلية عميقة لقيامها.
هذا ما حدث في إيران مؤخرا، كما حدث من قبل في دول أخرى في منطقتنا، مثل مصر وتونس، أو دول في أميركا اللاتينية، مثل فنزويلا، مع اختلاف في التفاصيل، ولكن يبقى الخط العام للأحداث متشابها، وهو ببساطة أزمة اقتصادية اجتماعية عميقة تنفجر مع تزايد ضغوط المعيشة على الجماهير.
وبالنظر إلى المؤشرات الاقتصادية في إيران، تبدو أبعاد الأزمة واضحة. إذ تبلغ نسبة البطالة بين الشباب تحت سن الثلاثين نحو 26.7 بالمئة حسب إحصائيات منظمة العمل الدولية، مع ملاحظة أن هؤلاء الشباب يمثلون نحو نصف سكان إيران الذين يصل عددهم إلى نحو 80 مليون نسمة، وهو وضع يتشابه مع دول أخرى كثيرة في المنطقة تتميز جميعها بأنها مجتمعات شابة، وذلك على عكس ما هو عليه الحال في دول أخرى مثل أغلب الدول الأوروبية.
ويعني وجود هذا العدد الكبير من الشباب في إيران أن أعدادا كبيرة منهم يدخلون سوق العمل سنويا بحثا عن عمل، هذا في الوقت الذي لم يحقق فيه الاقتصاد الإيراني نموا كافيا لتوليد وظائف لكل من يبحث عنها. ولم يحدث هذا الوضع بين يوم وليلة، بل عبر سنوات طويلة من العقوبات الاقتصادية التي عانت منها إيران قبل توقيع الاتفاق النووي.
فقد كان النمو في الناتج المحلي الإجمالي ضعيفا في بعض السنوات، بل انكمش هذا الناتج في ثلاث سنوات تحديدا، وهي 2012 و2013 و2015 قبل أن يعود لنمو سريع بلغ 12 بالمئة في عام 2016 بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية.
وأسفر هذا الاتفاق عن تحرير جانب من الأرصدة الإيرانية التي مولت مجموعة من المشاريع، لكن هذا النمو السريع في عام واحد غير كاف لامتصاص بطالة متراكمة منذ عدة سنوات بين الشباب الإيراني.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتراجع النمو في الناتج المحلي الإجمالي الإيراني إلى 4.2 بالمئة في عام 2018، وهي نسبة أقل من توقعات الكثير من الإيرانيين الذين راهنوا على طفرة اقتصادية بعد رفع العقوبات، وهو ما لم يحدث.
ولعل أحد الأسباب في ذلك هو تردد الكثير من الشركات الغربية في الدخول إلى السوق الإيراني بسبب استمرار العقوبات الأميركية على القطاع المالي الإيراني، علاوة على المخاوف من الإجراءات التي يمكن أن يقوم بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التعامل مع الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس السابق باراك أوباما، وينتقده ترامب بشدة.
علاوة على البطالة الواسعة بين الشباب، يعاني الإيرانيون منذ عدة سنوات من ارتفاع مستمر في الأسعار بلغ 31 بالمئة في عام 2013 عندما تراجعت إيرادات إيران من النفط بسبب العقوبات الاقتصادية، واضطرت الحكومة الإيرانية إلى تخفيض قيمة الريال الإيراني بشكل كبير. والملاحظ أن الرئيس الإيراني حسن روحاني نجح نسبيا في الحد من التضخم بحيث بلغ 11 بالمئة في عام 2016 حسب بيانات البنك المركزي الإيراني، لكن من الواضح أيضا أن موجات التضخم التي حدثت في السنوات العشر الأخيرة أدت إلى تراجع ملموس في القدرة الشرائية للكثير من الإيرانيين.
وحسب إحصاءات البنك الدولي، فقد انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر إلى 8 بالمئة من إجمالي السكان خلال الفترة من 2009 إلى 2013، ولكنها زادت مرة أخرى إلى 10.4 بالمئة في عام 2014 مع تولي روحاني الحكم. ويعتمد الملايين من أبناء الأسر الفقيرة على الدعم المالي الذي تقدمه لهم الدولة، ولكن في ظل إجراءات التقشف التي طبقها روحاني في الموازنة الأخيرة من المنتظر أن تقل هذه المساعدات بنحو خمسة مليارات دولار، الأمر الذي سوف يتضرر منه نحو 30 مليون فرد، هذا علاوة على رفع أسعار البنزين بنحو 50 بالمئة. وهذا يعني ببساطة انخفاض حاد في مستوى معيشة الفقراء في إيران، وهو ما يفسر رد الفعل الغاضب والسريع على الإجراءات الاقتصادية الأخيرة.
هذا مع الأخذ في الاعتبار أن سياسة روحاني تتناقض تماما مع سياسة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد التي قامت على تقديم مساعدات مالية واسعة سعيا لاكتساب الشعبية بين الجماهير، لكنها أدت في المقابل إلى ضغوط كبيرة على موازنة الدولة. ومن ثم، كانت الحاجة ملحة إلى إجراءات قاسية لمواجهة عجز الموازنة العامة للدولة، وهو ما يحاول روحاني القيام به.
وما ساهم أيضا في انخفاض القدرة الشرائية للإيرانيين التراجع في سعر صرف الريال الإيراني، وهو ما يعني ارتفاع أسعار السلع المستوردة، علاوة على السلع المحلية التي تتضمن مواد خامة أو سلعا وسيطة مستوردة.
وإجمالا يمكن القول إن الإيرانيين يعانون من خمس مشكلات اقتصادية هامة: البطالة، وانخفاض القدرة الشرائية، وتراجع قيمة العملة، علاوة على الفساد، والفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الإيراني.
ويرى اقتصاديون أن إيران في حاجة إلى إصلاحات هيكلية لكي تواجه هذه المشكلات، وهو ما حاول روحاني، بدرجة ما، أن يبدأ في القيام به، لكن الأوضاع السياسية والاجتماعية المعقدة تجعل من هذه الإصلاحات أمرا بالغ الصعوبة.
من أبرز الصعوبات أن هناك قطاعات كبيرة من الاقتصاد الإيراني تحت سيطرة هيئات عسكرية، مثل الحرس الثوري الإيراني، أو مؤسسات دينية على اختلاف المسميات والمراجع التي تتبعها. وحسبما أوردت مجلة “فورتشن” الأميركية فإن بعض الاقتصاديين يقدرون أن نحو 60 بالمئة من أصول الاقتصاد الإيراني تحت سيطرة مؤسسات عسكرية ودينية، وهذه المؤسسات لا تقوم بدفع الضرائب وتتوفر لها عمالة أغلبها رخيصة، الأمر الذي يضعها في وضع أفضل كثيرا من المؤسسات الخاصة التي يمكن أن تنافسها.
وإذا أضفنا إلى هذه الصراعات الداخلية في إيران بين القوى المختلفة، والتي تسعى كل منها لتعزيز نفوذها، خاصة مع الحديث عمن سيكون المرشد القادم بعد تدهور صحة المرشد الحالي، علي خامنئي، تبدو القدرة على التغيير أكثر صعوبة.
وهذا كله على مستوى الداخل الإيراني، أما على المستوى الخارجي فهناك الضغوط من قبل إدارة ترامب كما ذكرت، وهناك أيضا التمويل الكبير الذي تقدمه طهران لجماعات موالية لها في لبنان واليمن وسوريا، والذي يرتبط بمشروعات استراتيجية لا يمكن لطهران أن تتنازل عنها بسهولة.
والنتيجة أنه بعد أكبر احتجاجات شهدتها إيران منذ عام 2009، وبعد سقوط 21 فردا على الأقل في المظاهرات التي بدأت من مدينة مشهد، ثاني أكبر المدن الإيرانية، وامتدت لعدة مدن أخرى، أعلن روحاني أنه سيراجع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة مؤخرا، ومن الواضح أنه سيقوم بترضية الجماهير باتباع سياسات أقل تقشفا وأكثر رحمة بالفقراء، لكن هذا لا يعني أن المشكلة قد انتهت.
صحيح أن إيران دولة غنية لديها ثاني أكبر احتياطي من الغاز في العالم، ولديها صادرات من النفط وسلع أخرى، لكن الصحيح أيضا أن تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة، وهناك عشرات الملايين من الشباب الذين يبحثون عن فرصة عمل، وعن حياة أفضل، وإذا لم يتخذ المسؤولون الإيرانيون خطوات حقيقية لتحقيق الإصلاحات الهيكلية المطلوبة لمواجهة المشكلات القائمة، فإن الأزمة يمكن أن تطل برأسها من جديد.
*كاتب مصري مقيم في لندن
(العرب)