غريب أمر المستبدّين، يبدو أنهم يعيشون دائماً خارج الزمن، ولا شأن لهم بالتاريخ ودروسه، ويظهرون من العناد ما يقارب حد الغباء. إنهم دائما الاستثناء، وما يحصل للآخرين لا يحصل معهم. حال تذوقهم سحر ونفوذ السلطة تصبح خطواتهم نحو الانتحار حتمية. لم ينجُ من هذا الفخ حتى الآن سوى بن علي، حاكم تونس المخلوع، الذي ينعم بشيخوخة هادئة بعيدا عن الأضواء.
تباهى حكام ايران باحتلال 4 عواصم عربية. لا شك أن رغبتهم بالسيطرة واستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية أنستهم تجاربهم التاريخية على هذا الصعيد، وأنها منيت جميعها بالفشل الذريع.
سبق أن كتبت حرفياً لحديثي الإذاعي في 30 من شهر أكتوبر الماضي ما يلي: "يحكى أن طانتات طهران، وبعد أن انكشف الوجه القمعي للنظام الديني بعد الثورة الإسلامية بقليل، كن يعزّين أنفسهن لجلب الصبر بالقول: لا بأس مهما طال زمنهم فهم إلى زوال، إذا ليس الآن، فبعد حوالي 35 أو أربعين عاماً".
سيحتفل النظام الإيراني بعيده الأربعين بعد عامين. وبما أن أنظمة الحكم لا تدوم إلى الأبد، فهل يكون العد العكسي قد بدأ!!
أنشهد يا ترى نهاية لهذه الفورة كما حصل في الماضي على ما يحكي غومبرتش في "مختصره لتاريخ العالم"؟
"يروي أن بلاد فارس التي حُكمت من الأشوريين ومن ثم البابليين، أفاقت يوما رافضة الهيمنة الخارجية، فقام ملكهم سايروس بشن حملة على بابل التي انهارت واحتلها ووصل مصر وهيمن على العالم القديم من الهند إلى أعتاب اليونان. إلا أن الإغريق الأغنياء والأحرار المعتادين إدارة شؤونهم رفضوا الخضوع لحاكم يرسل أوامره ، يعلم الله من أي موقع في قلب آسيا، متوقعا الطاعة الفورية. فثاروا وقاوموا الفرس الذين عانوا هزائم مريرة واندحروا إلى داخل حدودهم إلى أن قضى الاسكندر المقدوني على إمبراطوريتهم.
بحسب غومبريتش دامت هذه الفورة الغريبة بين سنتي 550 و500 قبل الميلاد، أي 50 حولاً قبل أن تعود فارس إلى حجمها الطبيعي".
قوانين التاريخ تقول إنه لا بد من اندحار الفرس داخل حدودهم (واعفونا من تهمة العنصرية لأن حكام إيران هم من استخدم هذا التعبير).
لا أحد يمكنه التنبؤ متى تندلع التظاهرات والاضطرابات ولا كيف تنتهي. لكن كان من المنتظر أن يتحرك شيء ما في إيران في زمن العولمة التي سحقت كل السدود ونشرت ثقافة الحقوق والحريات والمواطنة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التظاهرات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي ليست أمراً غريباً عن إيران، لكن نجح النظام في كل مرة إما بإرضاء المتظاهرين بإجراء المفاوضات والاستجابة لمعظم طلباتهم وتحسين الأجور، أو باستخدام القبضة الحديدية ضد المتظاهرين القوميين.
إلا أن تلك التي انطلقت الأسبوع الماضي غير مسبوقة ليس بسبب اتساعها، وفقط، بل أيضا بسبب طبيعتها؛ إنها عفوية وشعبية في جوهرها خلافاً للعام 2009 ، ومنتشرة في طول البلاد وعرضها وفي مختلف الثقافات ومن دون مركز او قيادة. وهذا ما قد يضعفها، لكنه يحميها أيضاً من القمع في رأي البعض.
انتفاضة العام 2009 كانت سياسية وحصلت بين جناحي الحكم. وكان إبطالها برجوازية المدن وطلابها وخصوصا طهران. لكن التحرك انبثق هذه المرة من المدن الصغيرة وقرى الريف وفقرائه؛ أي قاعدة النظام الاجتماعية الأساسية من الناس العاديين. طابع هذه الانتفاضة اجتماعي وليس إيديولوجيا.
فاز روحاني بالانتخابات بناء على وعد تحسين الوضع الاقتصادي؛ لكنه تسبب بشعور هائل بالإحباط والغضب لدى الجماهير لأنهم انتظروا انتعاش الاقتصاد بعد الاتفاق النووي وتحسين ظروف معيشتهم..ناهيك عن انه خيّب أحلام الجيل الإيراني الشاب الذي لا يحمل مظالم اقتصادية فقط ولكنه يشكو من غياب الحرية السياسية والاجتماعية.
يكرر النظام الإيراني سلوك الأنظمة العربية، فيتهم المتظاهرين بالفوضى والعمالة والعصيان والخروج عن طاعة الولي الفقيه. تحمّل المراجع الإيرانية القوى الأجنبية مسؤولية التظاهرات بدلاً من الاعتراف بوجود قاعدة احتجاج مركزها إيران نفسها.
ويبدو أن ما يحصل الآن هو نتيجة الحسابات الخاطئة لتناتش السلطة بين جناحي النظام؛ فبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" أن المحفز الأول للغضب الشعبي، كان تسريب الرئيس روحاني الشهر الماضي الميزانية الحكومية المقترحة. ولأول مرة، تعرض أجزاء سرية من الموازنة، بما في ذلك تفاصيل عن المعاهد الدينية. اكتشف الإيرانيون أن ملايين الدولارات تذهب لتنظيمات الخط المتشدد والجيش والحرس الثوري ولمؤسسات رجال الدين التي تزيد ثروات الملالي. بينما اقترحت الميزانية إنهاء الإعانات النقدية لملايين المواطنين، وزيادة أسعار الوقود وخصخصة المدارس الحكومية. هذا في حين تبلغ نسبة البطالة بين الشباب، الذين يمثلون نصف عدد السكان، حوالي 40% بحسب التقديرات.
يبدو أن هذا التسريب هدَفَ إلى الاستفادة من الاستياء الشعبي لصالح الجناح الإصلاحي، ولقد نجح الأمر لكن أكثر من اللازم وأكثر مما انتظره المسربون. فبدأ تداول الرسائل والفيديوات على وسائط التواصل المستخدمة من أكثر من 40% من الشعب الإيراني. ووضعوا جميع ممثلي السلطة في سلة واحدة.
تواصل حوالي 40 مليون إيراني مستخدم على "تلغرام" (تطبيق معلوماتي) الرسائل: في الوقت الذي تضرب فيه البطالة الشعب، تحصل المنظمات الدينية على ميزانيات ضخمة. شعر الإيرانيون بالإحباط والغضب، إذ يكلفهم نشاط القوات المسلحة الإيرانية في عدد من الدول المجاورة ميزانية تبلغ 11 بليون دولار مع اقتراح زيادة 20% . كما زادت ميزانية ممثلي المرشد الأعلى في الجامعات. ويحصل المعهد الذي يديره رجل الدين المتشدد مصباح اليزدي على ثمانية أضعاف ما كانت عليه موازنته قبل عقد من الزمان.
تضافرت البطالة وارتفاع الأسعار وتقليص الدعم ورفع الضرائب والفساد الكبير وتدخل إيران في الجوار. وبالأساس غياب أي أفق اقتصادي.
لقد انقلب كل شيء في إيران في أقل من عقد من الزمان. وأفرغ الجفاف الذي دام 14 عاما القرى، حيث ينتقل السكان إلى المدن القريبة ويكافحون للعثور على وظائف. لقد وسع الوصول إلى الفضائيات والإنترنت عبر الهاتف النقال أفقهم وعالمهم.
ورغم تهديد وزارة الداخلية بـ"دفع الثمن الغالي" والحرس الثوري باستخدام "القبضة الحديدية" ضدهم؛ مع ذلك توسعت التظاهرات جغرافياً والشعارات القاسية التي ترددت فيها غير مسبوقة منذ الثورة الإسلامية في عام 1979. في هذه المرة يبدو أن الأسباب أكثر شمولية وتتعلق بأمراض مزمنة وأصيلة.
قد لا يمتلك الشعب الإيراني أملا كبيراً في النجاة من ردة فعل النظام العنفية؛ فأنظمة الاستبداد لا تلجأ إلى التسويات بحسب ما تكتب "حنة ارندت". وكأنها لا تطلع على التاريخ ولا تقرأ "سيمون دو بوفوار" حين تكتب قائلة: إننا إذا عشنا بما فيه الكفاية، سنرى أن كل انتصار سيتحول ذات يوم إلى هزيمة.
فحتى لو خبت المظاهرات في نهاية المطاف أو قمعت بالقوة، فإنها ترفع إشارة تحذير بارزة أمام النظام. يقول جزء من الغاضبين إنهم لا يحتملون بقاء رجال الدين في السلطة بعد الآن حتى ولو كان مصيرهم كالعراق وسوريا؛ لكن التجار وسكان طهران يتخوفون من ذلك ولا يرغبون بخراب البلد ويقبلون مصيرهم مع هذا النظام.
في كل الأحوال إنه حول جديد في حياة إيران. وهذا ما أكدته المحامية الإيرانية شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، أن الاحتجاجات المناهضة للنظام في إيران ليست سوى "بداية حركة كبيرة" قد يفوق مداها احتجاجات 2009.
*أستاذة جامعية
صحيفة "النهار" اللبنانية