بين عشية وضحاها، انطلق «الربيع الإيراني» جارفا بأمواجه العاتية حكم الملالي، في غضبة شعبية فاقت «الثورة الخضراء» التي اندلعت عام 2009، وقمعها النظام آنذاك بشكل وحشي لم يشهد له العالم مثيلا، غير أن الغضب في الشارع الإيراني هذه المرة وصل إلى الحلقوم، حيث انتفضت المحافظات الإيرانية لاسيما مدينة «قُم» الدينية التي احتشد الآلاف في شوارعها هاتفين بـ«الموت لحزب الله» و«اخجل يا خامنئي.. واترك البلاد».
وحسب المثل الشعبي العربي القديم «على نفسها جنت براقش»، ساهم الرئيس حسن روحاني نفسه في تغذية هذا الغضب. فقد كشف قبل شهر وفي سابقة هي الأولى من نوعها، النقاب عن الميزانية الجديدة، التي تتضمن تفاصيل لم يعلن عنها من قبل، تتعلق بمقدار الأموال التي تذهب إلى المؤسسات الدينية غير الخاضعة للمساءلة ومراكز البحوث وغيرها من المؤسسات المقربة من السلطة، بينما الشعوب الإيرانية لا تجد قوت يومها.
لقد انتقلت عدوى الاحتجاجات التي قام بها مواطنون إيرانيون في مدينة «مشهد» ثاني أكبر مدن البلاد، إلى العاصمة طهران والعديد من المدن والبلدات المجاورة لها، لتصبح أقرب إلى «انتفاضة شعبية» احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردية وارتفاع معدلات البطالة، ثم تحولت إلى تنديد بالنظام الحاكم، ومطالبة بعزل الرئيس الإيراني حسن روحاني، والتخلص من المُرشد الأعلى علي خامنئي.
وأظهرت مشاهد مصورة بعد شرطة مكافحة الشغب تضرب محتجين من طلاب الجامعات بالهراوات وتعتقلهم، فيما قالت «وكالة الطلبة للأنباء» إن مجموعة من أنصار الحكومة تجمعوا أيضاً خارج الجامعة في الوقت الذي حاولت فيه الشرطة تفريق المحتجين، موضحة أن السلطات أغلقت محطتين قريبتين للمترو حتى «انتهاء القلاقل الشعبية».
غير أن ما تقوم به أجهزة النظام لن يجدي فتيلا، فقد هبّت الشعوب الإيرانية أخيرا بكل قومياتها وأعراقها ضد حكم «الولي السفيه»، الذي أعاد البلاد إلى القرون الوسطى، وأفقروها، ووزع أقوات مواطنيها الفقراء على الحروب الصغيرة والجماعات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ضمن استراتيجية «تصدير الثورة» إلى دول الجوار العربي، التي أثبتت الأحداث فشلها خلال الأعوام المنصرمة فشلا ذريعا.
وردد المحتجون الغاضبون في أولى تجليات «الربيع الإيراني» شعارات مناهضة لنظام الحكم، تشجب تدخلاته في المنطقة العربية، هاتفين «غادروا سورية واليمن ولبنان.. فكروا فينا نحن الفقراء»، في انتقاد لنشر إيران قوات في هذه الدول، كما أعرب البعض عن غضبهم إزاء تدخل إيران في الخارج، مرددين «ليس لغزة، ليس للبنان، حياتي لإيران».
ووفق الشعارات التي أطلقها الإيرانيون خلال الأيام الماضية، بات واضحا أنهم يعتبرون أنفسهم أولى بالأموال التي تنفقها طهران منذ عدة عقود على ميليشيات «حزب الله" اللبناني و«فاطميون» الأفغاني و«الزينبيون» الباكستاني وحركة «النجباء» وميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق و«الحوثيين» في اليمن.
ومزق المتظاهرون من الشباب في ساحة «آزادي» صورة للمرشد «خامنئي»، وأطلقت قوات القمع الغاز المسيل للدموع في محاولة منها لتفريق المحتجين إلا أن المتظاهرين هتفوا ضدها «يا فاقدي الشرف».
غير أن الأخطر قادم، حيث يخشى نظام الملالي من انفلات الأوضاع، ومشاركة الشعوب غير الفارسية ومن بينهم العرب والأكراد والأتراك والبلوشستان في أعمال الاحتجاج، ويقارن النشطاء الأذريون وسائر الشعوب الحراك الإيراني بـ«الانتفاضة الخضراء» عام 2009 والثورة الإيرانية نفسها عام 1979، مؤكدين أنه في ظل عدم وجود ضمانات لإعطاء القوميات غير الفارسية حقوقها الأساسية، فإن أي تغيير جديد من شأنه أن يأتي بنظام مركزي جديد، يحرمهم من إدارة مناطقهم.
وكان لبعض الشعارات القومية الفارسية المتطرفة من قبل محتجين في بعض المدن كطهران وأصفهان وشيراز وغيرها كالمطالبة بعودة نجل الشاه الإيراني الذي أطاحت به ثورة الشعوب الإيرانية عام 1979 وشعارات أخرى حول معاداة العرب، أبعدت بعض الشباب التركي والعربي عن الانخراط في الاحتجاجات، ولو بشكل مؤقت على الأقل.
ويؤكد المراقبون السياسيون أن ما حدث خلال الأيام الماضية في إيران أمر طبيعي، خصوصا عندما تذهب عائدات النفط والأموال إلى الميليشيات المقاتلة في لبنان وسوريا واليمن، مؤكدين أنه بعد سنوات الصمت، ها هو «الربيع الإيراني» يشتعل، ما يؤكد وصول تلك الأحداث التي صفق لها قادة النظام الإيراني عام 2011 إلى عقر دارهم في طهران.
وامتدت التجمعات والمسيرات بأشكال مختلفة إلى جميع أنحاء إيران، حيث تشهد المدن اعتصامات ليلية، خاصة مدينة «رشت»، شمال البلاد، ترافقها شعارات مناهضة للنظام تطالب بـ«إسقاط الدكتاتورية" و«تحرير إيران» وغيرها من الشعارات التي بدأت بالتنديد بسياسات حكومة روحاني حول ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين.
يأتي ذلك، فيما تستعد 70 مدينة في أنحاء البلاد كافة للخروج بمظاهرات عارمة ضد النظام خلال الأيام المقبلة، حسبما جاء في ملصق انتشر بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يحدد زمان ومكان انطلاق المظاهرات في نقاط التجمع المتوقعة، وهو ما يؤذن ببلوغ الانتفاضة الشعبية مرحلة «الثورة»، حسب المراقبين السياسيين الذين أكدوا أن الأمور قد تخرج عن سيطرة «الملالي» تماما.
ونزل المحتجون إلى الشوارع، يصرخون بأعلى أصواتهم ضد الظلم والفساد والفقر، لم ترهبهم تهديدات المرشد ولا أسلحة «الحرس الثوري»، بعد وصول نسبة التضخم إلى 20%، وبعد أن تجاوز عدد العاطلين عن العمل 20 مليوناً، بما نسبته 25% من الشعب الإيراني، وبعد أن أصبح 40 مليوناً من الشعب الإيراني تحت خط الفقر، وهو نصف عدد الشعب الإيراني البالغ تعداده 80 مليون نسمة.
في المقابل، يهدد قادة «الحرس الثوري» بسحق الانتفاضة حيث نقلت وكالة «إيسنا» عن اللواء إسماعيل كوثري أحد قادة الحرس أنه «إذا استمرت الاحتجاجات فإنها ستواجه بقبضة من حديد، وسنقوم بالرد على المتظاهرين بقوة". ولكن المراقبين يرون أن هذه التهديدات لا وزن لها، وأن الجياع الذين خرجوا بعشرات الآلاف إلى الشوارع ليس لديهم ما يخسرونه، وأن الأمور تتجه نحو عصيان مدني شامل.
فيما جاءت بيانات الحكومة و«الحرس الثوري» محملة مسؤولية ما يحصل لـ«أياد داخلية تحركها مؤامرة خارجية يقودها الأعداء»، وداعية إلى الابتعاد عن الحملات الاحتجاجية، وهو ما يعني وصول النظام إلى حافة الإفلاس السياسي.
ونظرا لضخامة التظاهرات، وللمرة الأولى، تطرق التلفزيون الرسمي إلى الاحتجاجات الاجتماعية عارضاً مشاهد منها ومعتبراً أن من الضروري الاستماع إلى «المطالب المشروعة» للسكان. لكنه ندد في الوقت نفسه بوسائل الإعلام والمجموعات «المعادية للثورة» المتمركزة في الخارج والتي تحاول استغلال هذه التجمعات!
أخيرا، وليس آخرا، قد تظن الديكتاتوريات مع مرور الوقت وهي في سدة الحكم أن الأمور لن تتغير، وتراهن على غفلة الشعوب، وتعتقد أن صمت الشعوب خنوع واستسلام، لكن الشعوب الإيرانية انتفضت أخيرا لأنها - ببساطة- تمتلك تاريخاً وحضارة وأحلاماً، أما النظام الإيراني فليس لديه غير أيديولوجيا رجعية وسلوك قمعي، ويعتقد أنه يستطيع أن يستمر على هذا النهج إلى الأبد، والحقيقة عكس ذلك، فخسائر النظام في كل مكان، وهذا أفضل وقت له للانسحاب من المناطق التي قام بتخريبها وعودته إلى داخل حدوده، وترك الشعوب غير الفارسية لكي تقرر مصيرها بنفسها.