لم تكن الثورة الإيرانية (أو كما اصطلح عليها فيما بعد بالإسلامية) التي أسقطت نظام البهلوي الشاهنشاهي قبل ثلاثين عاما، مجرد حدثا داخلي أو انقلاباً شبيه بتلك الانقلابات التي شهدتها إيران مرارا خلال المرحلة التي أعقبت تأسيس أولى كياناتها السياسية المستقلة عقب انفصالها عن الإمبراطورية الإسلامية في القرن التاسع الهجري على يد إسماعيل الصفوي.
لقد شكلت هذه الثورة حدثاً فريداً من نوعه فيما يخص شكل نظامها وشعاراته التي تركزت على معاداة الشرق والغرب و " تصدير الثورة "، وهو الشعار الذي جعله نظام الثورة على رأس أولوياته فيما يتعلق بعلاقاته مع البلدان العربية خاصة والإسلامية عامة.
ومن بين الشعارات الأخاذة الأخرى لنظام الثورة كان شعار " اليوم إيران وغداً فلسطين" وهو ما جعل الكثير من المراقبين يعتقد و منذ الوهلة الأولى أن هذا الشعار قد لا يعدو كونه شعاراً استهلاكياً شأنه شأن شعار (لا شرقية ولا غربية) وغيره من الشعارات الأخرى التي كانت تمثل المحرك الأساسي لعواطف الجموع الغفيرة من الجماهير الفرحة بسقوط عرش البهلوي و المتطلعة لبناء غداً أفضل تسوده العدالة والمساواة والحرية الخلاّقة.
و إذا كان هذا هو تطلع الشارع الإيراني، المتنوع الأعراق والمذاهب، فان الشارع العربي أيضاً لم يكن هو الآخر بأقل حماسة من نظيره الإيراني بشأن تعاطفه مع هذه الثورية وشعاراتها التي توسموا فيها خيراً. فقد كان الشارع العربي فرحا لسقوط أكبر حليف للكيان الإسرائيلي في المنطقة، وثاني أهم عدوي للعرب. والأمر الآخر أن شعارات الموت " لإسرائيل " و الموت " لأمريكا " التي كانت تدبج خطابات قادة الثورة الإيرانية، قد أعادت إلى أذهان الجماهير العربية، التي كانت قد أصيبت بعد اتفاقية كامب ديفيد بفقدان الثقة بما حولها من أنظمة وحكام، حماسة الأيام التي عاشتها على نغمة الخطابات الثورية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وذكرى موقف التحدي العربي الجريء الذي تمثل في قرار الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز آل سعود بوقف تصدير النفط للولايات المتحدة الأمريكية، وذكرى صور معارك حرب العبور، وصور البطولة التي جسدها الفدائيون الفلسطينيون في معركة الكرامة. و في الجملة فان الشارع العربي كان بحاجة ماسة إلى سماع أي خطاب أو مشاهدة أي حدث يمكن أن يعطيه بارقة أمل جديدة ويعيد له الثقة التي كان قد فقدها بمن حوله، وقد جاءت شعارات نظام الثورة الإيرانية لتلفت انتباهه وتجعله يستمع لها بتفاؤل كبير متجاوزاً كل الخلافات المذهبية والقومية، ومتناسيا كل المواقف العدائية التي وقفتها إيران ضد العرب والتي تمثل جانب منها باحتلالها لإقليم الأحواز و الجزر الإماراتية الثلاثة و أراضي عربية أخرى، و فوق ذاك كله مناصرتها العلنية للكيان الإسرائيلي.
و لم يكن هذا التعاطف العربي مع الثورة الإيرانية محصوراً بالعامة بل غلب أيضاء على عواطف وعقول عدداً من القادة العرب لحد وقوف بعضهم مع إيران في حربها الظالمة ضد العراق ومدها بصواريخ بعيدة المدى لضرب بغداد أملا في تحقيق الحلم الذي هيجته الشعارات الإيرانية في أذهانهم واستولت به على شعورهم و مشاعرهم العربية النقية.
بعد مضي ثلاثين عاما على انتصار الثورة الإيرانية وتأسيس نظامها الفريد من نوعه، من جهة خلط مفهوم الجمهورية بالإسلامية و تسليم زمام شؤونها العامة والخاصة بيد حاكم مطلق يسمى الولي الفقيه، بات يتعذر على الكثير ممن امنوا أو كانوا قد تفاءلوا بشعارات الثورة ونظامها، تفسير المواقف الإيرانية التي تثير الحيرة بالنسبة لهم. فشعار" تحرير طريق كربلا " الذي لم يستطع قادة النظام الإيراني تحقيقه خلال ثماني سنوات من حربهم العدوانية على العراق، فقد تحقق لهم بوقوفهم مع جيوش الغزو الغربية لهذا البلد العربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ليس من اجل الوصول إلى القدس كما كانوا يزعمون حينها بل من اجل تفريغ بغداد من العرب السنة وحرق مساجدهم و تقليل نسبة عددهم ليكونوا أقلية تحكمهم أكثرية عمل قادتها السياسيون ومراجعها الدينيون على تحقيق حلم بقي يراود الإيرانيون طوال ألف وأربع مئة عام مضت، أي منذ معركة القادسية الخالدة التي هدت عرس كسرى وأدخلت نور الإسلام إلى بلاد فارس.
بعد ثلاثين عاما من تأسيس الجمهورية الإيرانية التي كانت قضية فلسطين من ضمن شعاراتها الصّياحة، يتساءل سائل من الذين كانوا متفائلين جداً بتلك الشعارات، ترى ماذا تحقق لفلسطين من تلك الشعارات، وماذا تحقق من طموحات الذين كانوا قد جردوا السلاح على إخوتهم ووقفوا مدافعين عن نظام طهران أملا في تحرير القدس برشاش الخميني؟.
لا احد ينكر أن رشاش الخميني طوال الثلاثين عاما الماضية قد مزق " ومازال يمزق " صدور مئات الآلف من أبناء الشعب العراقي وغيرهم من العرب الذين كان لهم قصب السبق في نصرة فلسطين ولكنه لم يطلق رصاصة واحدة على الجيش الذي احتل فلسطين ويرتكب المجازر تلو المجازر بحق الفلسطينيين، ومع ذلك فان النظام الإيراني مازال يزاود على الجميع في ما يخص مسألة الدفاع عن فلسطين!.
علماً أن القدس والمسجد الأقصى المبارك، الذي قال الإيرانيون أن احتلال كربلاء شرطاً لتحريره، ليس له مكانة من القدسية في عقيدة قادة النظام الإيراني. واليك بعض ما ورد عن مكانة المسجد الأقصى المبارك في الكتب العقائدية لهؤلاء المتبجحين بالدفاع عن فلسطين.
أولا: جاء بحار الأنوار للمجلسي (22ص/90ج) عن أبي عبد الله " الإمام جعفر بن محمد الصادق " قال: سألت عن المساجد التي لها الفضل فقال: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، قلت: والمسجد الأقصى جعلت فداك؟ قال: ذاك في السماء، إليه أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن الناس يقولون إنه بيت المقدس فقال: "مسجد الكوفة أفضل منه"!.
ثانيا: جاء في كتاب الخصال للشيخ الصدوق: 137. " لا تشدو الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله، ومسجد الكوفة ".
ثالثا: روى الكليني في كتاب الكافي، بإسناده عن خالد القلانسي أنه قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: صلاة في مسجد الكوفة بألف صلاة. كتاب وسائل الشيعة ج3/ص547.
و لقصر المقام نكتفي بهذه الإشارات التي وردت في كتب عقائد الأمامية عن مكانة قبلة المسلمين الأولى لتعرف حقيقة هذه المكانة في عقيدة قادة النظام الإيراني.
إذن لماذا بقيت فلسطين حاضرة في خطاب قادة النظام الإيراني أن لم يكن لديهم هدف استراتيجي ابعد من الشعارات؟. و الجواب ربما تجده في ملخص هذا الذي سوف استعرضه لك عن ما حققته الجمهورية الإيرانية للفلسطينيين من خلال ما قاله الإيرانيون وليس مما أقوله انأ.
في خضم حملة الانتخابات البرلمانية الإيرانية الثامنة التي أجريت مؤخراً، كانت فلسطين حاضرة في الحملات الانتخابية لبعض القوى الإيرانية الموالية للنظام، وهي قوى تحتل مكانة مرموقة في السلطة. وعلى سبيل المثال نذكر هنا التصريح الذي أدلى به " حسين مرعشي " الناطق باسم حزب " كار گزاران سازندگي"، الحزب الموالي لرئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، و نشرته صحيفة " اعتماد ملي " العدد 570 الصادر في 28 يناير الماضي، حيث قال في معرض انتقاده لتصريحات الرئيس احمدي نجاد بشأن الهلوكوست وإسرائيل ما نصه: (الإيرانيون و منذ سنوات يعتقدون أن أموالهم تذهب هدرا بشأن الاستثمار في قضية فلسطين. فالإيرانيون لديهم مشاكل مع العرب أهم واكبر من المشاكل التي لديهم مع الآخرين ولكن السيد احمدي نجاد لم يشر إليها؟).
ولم يكن تصريح زعيم حزب الله الإيراني، آية الله " محمد باقر خرازي ". ابعد من تصريح حسين مرعشي. فقد قال آية الله خرازي، و هو احد أقطاب تيار ما يسمى بالمحافظين، في حديث نشرته صحيفة "عصر إيران" الصادرة في يوم الأحد 2 مارس الجاري وأعادت نشره وكالة أنباء "أخبار الشيعة" الإيرانية، فقد صرح هذا القيادي الإيراني البارز متسائلاً: (ما هي الفائدة التي جنيناها أو سوف نجنيها من دعم الحركات الفلسطينية. فإذا أردنا دعم الفلسطينيين يجب أن نكون متيقنين أن فلسطين ستكون سائرة على مذهب أهل البيت (يعني شيعة) وإذا لم تكن على مذهب أهل البيت إذن ما الفرق بين إسرائيل وفلسطين).
وردا على هذه التصريحات فقد نشرت صحيفة " عصر إيران " مقالا مطولا بقلم " فتاح غلامي " احد المسئولين في المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية الإيرانية، بعنوان " التشيع في فلسطين " ننقل بعض ما جاء فيه عن انجازات النظام الإيراني لفلسطين.
يقول المسئول الإيراني المذكور: (كان التشوق إلى معرفة مذهب التشيع بعد انتصار الثورة الإيرانية قد انتشر على مستوى واسع جدا ولم تكن الأراضي الفلسطينية مستثناة من هذا التشوق الأمر الذي خلق قلقاً لدى أهل السنة في المنطقة. ومثال على ذلك أن العالم السني يوسف القرضاوي انتقد في مؤتمر تقريب المذاهب الذي عقد في الدوحة بصراحة الشيعة. و طالب القرضاوي خلال حديثه الشيعة بالتوقف عن الترويج لمذهب التشيع في البلدان والأراضي التي يسكنها السنة. و وصف القرضاوي ترويج التشيع بين أبناء الشعب الفلسطيني بالفتنة.
وعن دور الثورة الإيرانية في نشر التشيع في فلسطين، فانه يمكن أن نشير إلى حركة الجهاد الإسلامي على أنها أكثر الحركات الفلسطينية تشيعا والأكثر ارتباطا بحزب الله وإيران وقد قامت بدور مهم في نشر التشيع في فلسطين.
ولايقتصر انتشار التشيع على حركة الجهاد الإسلامي بل تعدى إلى حركات وطنية ودينية أخرى أخذت طابع التشيع وهي تهتم في الغالب بالشؤون الثقافية والاجتماعية، كالحركة " الإسلامية الوطنية" التي بتشيع رئيسها الأستاذ محمد أبو سمرة وكوادرها أصبحت من الحركات التي تحسب على شيعة فلسطين وقد أنشأت الحركة مركز القدس للدراسات والبحوث لدعم نشاطها الدعوي. وتعتبر مدينة بيت لحم اليوم مركزاً رئيسياً للشيعة في فلسطين.
فبعد الثورة الإسلامية تأسست في مدينة بيت لحم مجموعة باسم " اتحاد شباب الإسلام " اخذ عملها طابع الجمعيات الخيرية من اجل الترويج لمذهب التشيع، حيث أقدمت هذه المجموعة على تأسيس مستوصف الإحسان الخيري ومستوصف السبيل ومركز نقاء الدوحة الجراحي ومدرسة النقاء ومركز النقاء النسوي، إضافة إلى فتح دور للقرآن الكريم في المساجد وغيرها ساهمت بالترويج لتشيع بشكل واسع.
أما المركز الشيعي الآخر فهو في بيت لحم ويدار من قبل " محمد شحادة " احد أنصار حركة الجهاد الإسلامي والذي له دور في نشر التشيع.
والمؤسسات الشيعية النشطة الأخرى هي " الجمعية الجعفرية " في قضاء الجليل وتحديداً في دبوريق، وتعمل بإدارة " أشرف أمونة " وهي جمعية تتولى رعاية هيئات منها حسينية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومكتبة الزهراء عليها السلام ومجلة السبيل.
كما توجد مؤسسة شيعية أخرى هي "المجلس الشيعي الأعلى في فلسطين" برئاسة محمد غوانمة، احد الأعضاء السابقين لحركة الجهاد الإسلامي.
كما انه يوجد هناك عدد من المستبصرين وهم من العلماء السنة الفلسطينيين الذين اعترفوا بأحقية مذهب أهل البيت. ومن بين هؤلاء الأشخاص الشيخ محمد عبد العال الذي كان قد أمضى سنوات في البحث والتدقيق في مذهب التشيع.
وكان عبد العال قد ذكر في إحدى مقابلاته، إن من أهم الكتب التي قرأتها، كتاب المراجعات والذي لم يزد في إيماني شيء غير انه أضاف إلى معلوماتي شي جديد، ولكن الحادثة التي أنهت الأمر و هدتني إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، كانت على النحو التالي. في احد الأيام ذهبت أتمشى إلى حانوت صغير لأحد أقربائي و جالست عنده وسمعته ينادي على احد أحفاده أن يجلس محله ليذهب هو لأداء صلاة العصر، وعندها أخذني التفكير، إذا لم يكن شخص يستطيع ترك حانوت صغير من اجل الذهاب إلى الصلاة دون أن يجلس احد محله ليحافظ له على أمواله، إذن كيف يمكن أن يكون النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله –قد يترك امة بدون إمام أو وصي؟. فوالله لا يمكن أن يكون كذلك).
وبهذه القصة (المضحكة) أنهى المسئول الإيراني مقالته التي رد بها على المعترضين على دعم إيران لبعض الحركات الفلسطينية. مؤكدا أن النظام الإيراني قد استطاع أن يدخل التشيع إلى فلسطين وهذا هو ما لم يحصل في عهد أي من الأنظمة الإيرانية السابقة. فوجود التشيع بأي منطقة يعني أن هناك نفوذ لإيران، وهذه هو محط الجّمال.
الحادثة الأخيرة التي طبلت لها وسائل الإعلام الإيرانية واعتبرتها نصراً لإيران، كانت حادثة لف جنازة الشهيد " محمد شحادة"، الذي اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلية في الثاني عشر من مارس الجاري في بيت لحم، بعلم حزب الله يوم تشييعه.
واعتبرت وسائل الإعلام الإيرانية أن محمد شحادة كان قد تيشع عندما كان في سجون الاحتلال الإسرائيلي مطلع الثمانينات حيث اختلط بسجناء لبنانيون شيعة وعقب ذلك أصبح من العناصر البارزة في ترويج التشيع في الأراضي الفلسطينية.
لم يحزن المسئولون الإيرانيون لمقتل هذا المجاهد الفلسطيني، ولكنهم فرحوا وهلهل إعلامهم لكون جثمان الشهيد شحادة لم يلف بالعلم الفلسطيني، الذي يفترض أنه استشهد من اجل أن يرفرف هذا العلم خفاقا على مبنى رئاسة الدولة الفلسطينية في القدس، وإنما لكونه لف بعلم حزب الله الموالي لإيران، ليقولوا أن في فلسطين هناك من يوالي إيران أكثر من ولائه لفلسطين وان استشهد باسم الدفاع عن فلسطين.
فهل هناك أكبر من هذه مصيبة بالنسبة لنا من أن تتحول دماء شهداءنا ثمرة جاهزة نقدمها بأيدينا لحكام طهران الذين كل ما قدموه لفلسطين هو أنهم ادخلوا فيها التشيع!!.
فهل عرفنا ماذا تنوي إيران من وراء دعم بعض الحركات الفلسطينية وما هو جوهر المشروع الإيراني في فلسطين؟.
*رئيس المؤسسة الأحوازية للثقافة والإعلام
(نُشر هذا المقال في (23/03/2008م) وكأنه نُشر الآن).
شبكة البصرة