الانتصارات العسكرية التي حققها العرب في فترة الفتوح الإسلامية هي خلاصة الخبرة العسكرية لعرب الشام والعراق الذين اعتنق بعضهم الإسلام واحتفظ البعض الآخر بدينه المسيحي.
قد يكون العرب هم الأمّة الوحيدة التي تدرّس تاريخها لأبنائها كما كتبه أعداؤها القوميون والعقائديون. فالحقبة التي تسمى الجاهلية، وهي تاريخ العرب ما قبل الرسالة المحمدية، والحقبة التي تسمى صدر الإسلام أي سيرة الرسول الكريم والخلافة الراشدة والدولة الأموية، كتبت كلها وصيغت بناء على الصورة التي كرّستها مؤلفات المؤرخين والإخباريين الفرس المسلمين القائمة على فكرة التفوق الحضاري الفارسي، مقابل البربرية العربية الموصومة بالبداوة والسلب والنهب، وهي الصورة التي انعكست في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في مؤلفات المستشرقين الغربيين ولا تزال مستمرة لدى الكثير من الأوساط البحثية في الغرب، بالإضافة إلى تعميم الرؤية العباسية- الفارسية لحقيقة الصراع على السلطة منذ حادثة سقيفة بني ساعدة وصولا إلى سقوط الحكم الأموي في الشام، وهي الرؤية التي تبناها المؤرخون اللاحقون، في العصرين الأيوبي والمملوكي، وهي عموماً رؤية تتفق بشكل أساسي مع الأيديولوجيا الشيعية حول تلك العصور، ولا مجال هناك للحديث عن أوجه الائتلاف والاختلاف بين الرؤيتين الشيعية والعباسية من هذه المرحلة لعدم تشتيت القارئ.
جذور النزعات الفارسية
من الناحية العلمية، لا يمكن إعادة جذور الاستراتيجيات الفارسية المعادية للعرب إلى الفترة السابقة للأسرة الساسانية التي بدأ حكمها في الربع الأول من القرن الثالث الميلادي (حوالي 226 ميلادي)، فالعلاقات بين الأسرة الإخمينية، أول سلالة فارسية حاكمة في المنطقة، والعرب كانت على خير ما يرام في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، بحسب مؤرخ اليونان الشهير هيرودوت.
أما الأسرة البارثية الطورانية فلم يعرف عنها موقف معادي للعرب، أو غير العرب من شعوب المنطقة، نظراً لأنها قامت أساساً على مبدأ اللامركزية والتوافق مع الزعامات المحلية. وحتى الساسانيون الذين بدأوا حكم سلالتهم بحرب الممالك والمدن التجارية العربية على ساحل الخليج العربي، ثم في فترة لاحقة داخل العمقين العراقي والشامي، انطلقوا في حروبهم هذه من أرضية اقتصادية تجارية هدفت إلى تدمير طريق الحرير البحري الذي كان يشكل مصدر دخل مهمّ لعرب الشام والعراق، وإلى الاستحواذ على نصيب الأسد من عائدات طريق الحرير البري، الذي كان ينطلق من مدينة تشانغآن (شيآن اليوم) في الصين ويصل إلى وسط وغرب آسيا قبل عبوره إلى أوروبا.
ومع أن شعباً آخر قوض نفوذ الساسانيين في أواسط آسيا في القرن السادس الميلادي، وانتزع منهم أجزاء كبيرة من طريق الحرير البرّي، والمقصود هنا شعب الخزر الطوراني، إلا أن المؤرخين المسلمين ذوي الأصول الفارسية، صبّوا جام غضهم في فترة لاحقة، على الجنس العربي في بداية التدوين في العصر العباسي، مستندين إلى نزعة قومية موالية للأسرة الساسانية، قادت إلى ظهور الحركة الشعوبية التي مثلت أقصى درجات التطرف وكلّفت سوريا في العامين 749 و750 للميلاد، أكثر من 600 ألف قتيل معظمهم من العرب المسلمين، بحسب المراجع التاريخية المسيحية المعاصرة لتلك الفترة، بالإضافة إلى إقصاء العرب عن دائرة القرار بشكل متعمد استمر إلى فترة الحروب الصليبية.
تدمير السلسلة الحضارية العربية
تتقاطع المعطيات الآثارية التي حددت موعد خراب مدن السلسلة الحضارية العربية في الخليج، مع المعطيات التاريخية التي تحدثت عن انقلاب سياسي في إيران المجاورة، تمثل بسقوط البارثيين وصعود الساسانيين إلى حكم إيران الكبرى في العام 226 م، والمرتبط، بشكل أو بآخر، مع نهاية حكم سلالة هان الملكية الغربية في العام 220 م، هذه النهاية التي كان من نتيجتها انقسام الصين إلى ثلاث ممالك متناحرة، هي مملكة “شو هان” في الغرب، ومملكة “واي” في الوسط والشمال، ومملكة “وو” في الجنوب والجنوب الشرقي، خاضت فيما بينها حروباً أهلية دامت إلى العام 280 ميلادي، تولت بعدها السلطة أسرة “ألجين” التي أعادت توحيد الصين من جديد.
لقد سعى أردشير بن بابك بن ساسان للسيطرة على حكم إيران الكبرى منذ العام 220 م، أي في العام نفسه الذي سقطت فيه أسرة هان الغربية، ولم يبلغ غايته الأخيرة إلاّ في العام 226 م، أي أنه خاص حرباً طويلة ضد البارثيين استمرت ست سنوات، استخلص خلالها السلطة بشكل متدرج ومدينة مدينة، وذلك نتيجة طبيعة السلطة البارثية المعتمدة بشكل رئيس على قوة الزعامات المحلية والإقليمية.
وكان من نتائج ضعف البارثيين وفقدانهم عائدات شبكة طرق الحرير التي تمر في أراضيهم؛ أن انفضت تلك الزعامات المحلية عنهم مرحبة بزعيم جديد ينتمي إلى سلالة دينية عريقة، ويحمل مشروعاً مركزياً لعموم إيران، وربما وعوداً بإعادة فتح طريق الحرير.
لا بد أن هذه التواريخ والمعطيات تعني أن المشرق العربي دخل عصراً جديداً من العلاقات الدولية، من أبرز ملامحها نهاية السلسلة الحضارية التجارية العربية – الآرامية في الخليج العربي وحوض الفرات، وفي سياقها نهاية مدن مثل مليحة في إمارة الشارقة الحالية والجرهاء (الزارة في القطيف، شرقي المملكة العربية السعودية الحالية)، وكرخ ميسان في شمالي الخليج العربي قرب موقع المحمرة الحالية.
فهذه المدن انتهت عملياً بتدميرها على يد قوات أردشير في فترة تتراوح بين عامي 226 و236 للميلاد، فيما واصلت تدمر، في عمق البادية السورية، ودورا أوروبس، على شاطئ الفرات، والحضر، جنوبي غربي الموصل، الحياة بقوة خطوط تجارية أخرى، بعيداً عن الحرير وعوائده العالية، ولكن، ومهما تعددت الأسباب، يبدو أن التاريخ لا يرحم، وكان لا بد من نهاية هذه المدن في عهد ابن أردشير وخليفته شابور الأول في أربعينات القرن الثالث الميلادي، والذي رسم بهجماته المدمرة، المقترنة بالحرق، نهاية سوداء لحقبة ذهبية نادرة في تاريخ العرب الشماليين.
لا نعرف الآن بالضبط ماذا حل بشبكة طرق الحرير بعد نهاية أسرة هان الغربية، ولكن الوقائع تشير إلى تدمير طريق الحرير البحري العابر للخليج العربي على يد الملك أردشير الساساني، مقابل تعزيز طريق الحرير البري وجعله خياراً وحيداً نحو الغرب، وانفراد أسرة من الأسر الصينية الثلاث بهذه التجارة وتحويلها إلى الطريق البري فقط، نظرا لعدم قدرتها السيطرة عل الطريق البحري.
فبعد أن قام أردشير الأول بتَأسيس قاعدة ملكه في إصطخر (بيرسيس)، توسعت أراضي مملكته بسرعة، ودان له أمراء المقاطعات الفارسية بالولاء، وخلال سنوات تُوّجَ في طيسفون كحاكم وحيد لبلاد فارس، وأخذ لنفسه لقب (شاهنشاه) أَو (ملك الملوك).
وتشير الوثائق الصينية إلى توطيد علاقات الساسانيين مع السلالات الصينية المتتابعة، بعد إغلاق طريق الحرير البحري، تلك السلالات التي كان يهمها عودة الحياة إلى طريق الحرير البرّي، والذي ضمنه الساسانيون وعملوا على تأمينه قدر ما استطاعوا إلى ذلك من قوة.
وقد ورد في الوثائق الصينية القديمة تقرير عن ثلاثة عشر سفيراً تجارياً ساسانياً جاؤوا إلى الصين. وأشارت الوثائق أيضاً، إلى أن النشاطات التجارية بين الساسانيين والصين شهدت نشاطاً ملحوظاً منذ عهد أردشير وابنه شابور الأول، حيث نشط طريق للحرير عبر المقاطعات الايرانية الشمالية مع سلالة “شو هان”، وبعدها سلالة “ألجين”.
كما أرسل الملوك الساسانيون في مناسبات مختلفة أكثر الراقصين والموسيقيين الفرس موهبة إلى الإمبراطورية الصينية في فترة حكم ليو يانغ في عصر سلالة “ألجين” (265 م – 420 م) وسلالة “وي الشمالية” وسلالة “تشانجان” وسلالة “تانغ” وغيرها.
ويبدو أن السلالات الحاكمة في الإمبراطوريات الصينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية، استفادت على حد سواء من التجارة على طول طريق الحرير عبر آسيا الوسطى. وقد جمعتهم المصلحة المشتركة في صون وحماية تلك التجارة، فتعاونوا معاً في حراسة طريق الحرير البرّي، وحفروا الآبار في مناطق الحدود الآمنة لإبقاء القوافل بعيدة من قطاع الطرق وقبائل الترك الرحل.
المصادر العباسية
وهنا، لا بد من تناول المصادر التاريخية الإسلامية، ذات المرجعيات الساسانية، التي جيّرت التاريخ لصالح وجهة نظر أيديولوجية شعوبية نشأت بعد الإسلام، فحوّرت أخبار هجوم أدرشير على الساحل الغربي للخليج العربي، عازية السبب إلى عصيان العرب لأوامره، وليس لأنه أراد تقديم أوراق اعتماد لإحدى الأسر الصينية التي تسيطر على إنتاج الحرير!.
في الشهنامة رسم الفردوسي صورة الشرير فأعطاه اسما عربيا «الضحاك»
هكذا، نقرأ في شاهنامة الفردوسي التي جمعت في العصر العباسي الأوسط، قصة عن متمرد فارسي يدعى هافت واد تحالف مع العرب ضد أردشير فما كان من الأخير إلا أن عبر البحر بعد أن قضى على هافت واد، وأخضع العرب في البحرين والساحل المجاور. ويذكر الطبري، الذي يعتمد على مصادر تاريخية منحازة لبني ساسان، منها كتاب خداينامة أو سير ملوك الفرس، أو كتاب التاج في سيرة أنو شروان، أن عدداً كبيراً من ملوك العرب ورؤساء الحجاز تركوا بلادهم وسكنوا البحرين ومدن الخليج أمثال الحجر والحسا وسبع أو ثمان غيرها في عهد الملوك البارثيين (الإشكانيين)، وكانت الحجر، حسب قوله، المدينة الأهم في مدن البحرين، فأجلوا أهلها الأنباط واحتلوا مكانهم. والأنباط في عرف المؤرخين المسلمين تشمل جميع الآراميين.
ومن هنا نشأ حلف التنوخ الذي انطلق نحو جنوب العراق، حسب قوله.
ويضيف الطبري أن أردشير، الذي هاجم مدن الخليج، بنى في البحرين مدينة أطلق عليها اسم تبن أردشير، بناها على جثث أهلها لأنهم فارقوا طاعته وعصوا أمره، فبنى سافاً من السور لبناً وسافاً آخر من الجثث، ولذلك سماها تبن أردشير . ويزودنا حمزة الأصفهاني، كعادته، بقوائم المدن والموانئ التي أنشأها أردشير في الخليج والتي بلغت حسب زعمه 11 مدينة و8 موانئ .
ومثل هذه الأخبار والقوائم التي اعتاد حمزة الأصفهاني على تثبيتها في مؤلفاته، لا يعول عليها، وثبت أن الكثير منها محض أوهام. ولم تعثر حتى هذه اللحظة أي من البعثات الآثارية على أيّ مدينة من هذه المدن المزعومة.
ومن هنا، فلا يمكن تفسير هذه المبالغات التي لجأ إليها المؤرخون المسلمون من أصول فارسية الموالون للأسرة الساسانية، إلا بالصراع العربي الفارسي أثناء الخلافة العباسية، والذي ولّد ظاهرة الشعوبية لدى الكثير من مثقفي الفرس المسلمين، والذين دأبوا على الانتقاص من شأن العرب؛ مقابل إعلاء شأن ملوك بني ساسان، مسقطين مواقفهم اللحظية على التاريخ، ومحاولين إثبات وجهة نظرهم بالتفوق الفارسي من خلال تأصيله وجعله صراعاً قديماً بين الحضارة الفارسية والبربرية العربية، حتى وصل الأمر بمؤلف الشاهنامة الفردوسي في عصر لاحق إلى نسبة الشخصية الأكثر شراً في الملحمة وهي أزدهاك (الضحاك) إلى الجنس العربي.
وقد تنبه الجاحظ إلى الخلل العلمي الكبير في النصوص الفارسية التي يُعتمد عليها في تدوين التواريخ والأخبار الفارسية التي قال عنها في الجزء الثالث من كتابه البيان والتبيين، إنه لا يعلم “إن كانت صحيحة غير مصنوعة أو قديمة غير مولّدة، إذ كان ابن المقفع وسهل بن هارون وأبو عبيد الله وعبد الحميد وغيلان يستطيعون أن يولّدوا مثل تلك الرسائل ويصنعوا مثل تلك السير”.
درس من التاريخ
لا شك في أن المصادر الرومانية التي تحدثت عن كثافة في عدد القبائل العربية في منطقة الخليج خلال الحقبتين الهلنستية والرومانية، ومنها قبيلة نوخيتي (ربما تنوخ)، كانت تشير إلى نظام دقيق في حماية طرق القوافل المتعددة التي كانت تعبر المنطقة، ودليل ذلك أن تلك المصادر لم تشر إلى أن القبائل المذكورة كانت تمارس السطو أو النهب، عكس المصادر الإسلامية ذات الأصول الفارسية، التي تفننت في إبراز بداوة العرب وبربريّتهم، مقابل حضارة الفرس ومدنيّتهم.
والملاحظ أن الرواية العربية التقليدية حول حلف التنوخ وتوجهه إلى العراق وبادية الشام، تتزامن مع تدمير حواضر الخليج، ومنها مليحة وميناء الدور، وهي هجرة اضطرت القبائل العربية لها بسبب انقطاع سبل الرزق، وليس لأيّ سبب آخر. وكان من نتيجة ذلك أن الكثير من هذه القبائل انخرط في الجيوش الرومانية والساسانية، وتحول خلال القرون التالية إلى قوة عسكرية لا يستهان بها، عبرت عنها كتابات مؤرخي العصر البيزنطي كأمياني مارسلليني ومالالاس وبروكوبيوس وغيرهم، والذين رصدوا في كتاباتهم الغساسنة والمناذرة كقوتين تقاتلان بالنيابة عن روما وطيسيفون (المدائن)، وترجحان كفة هذه القوة أو تلك.
هذه الحروب وما جرّته من كوارث على بلاد العرب كانت من الأسباب الحاسمة في ظهور الدعوة الإسلامية وانتصارها اللافت خلال عقدين من الزمن.
فالعرب الذين دمرت مدنهم على يد الساسانيين لم يكونوا يملكون جيوشا للدفاع عن أنفسهم، ولكنهم وبدءا من أواسط القرن الثالث الميلادي انتبهوا إلى هذه الثغرة وتحولوا خلال القرون اللاحقة إلى قوة عسكرية أساسية في عموم المنطقة. والانتصارات العسكرية التي حققها العرب في فترة الفتوح الإسلامية هي خلاصة هذه الخبرة العسكرية لعرب الشام والعراق الذين اعتنق بعضهم الإسلام واحتفظ البعض الآخر بدينه المسيحي ولكنه ساهم في هذه الحروب لصالح بني قومه ضد الساسانيين والبيزنطيين.
وهذه الحروب والفتوحات هي التي أدت إلى ظهور حركة التسوية الفارسية في العصر الأموي، ثم الشعوبية في العصر العباسي، والتي كانت تزعم بأن العرب قبائل والفرس شعوب وأن الله قدم الشعوب على القبائل حتى في النص القرآني.
*كاتب من فلسطين مقيم في الإمارات
العرب