تقرير يكتبه: مروان محمود
رغم تراجع سعد الحريرى، رئيس وزراء لبنان عن استقالته التى أعلنها بداية الشهر الماضى، مازالت تبعات زلزال الاستقالة تلقى بهزات على المشهد السياسى اللبنانى، يراها البعيد بأنها «زوبعة فى فنجان»، ويعتبرها كثيرون بأنها أزمة هدأت نسبيا ولكنه «هدوء يسبق العاصفة»، فى بلد يخشى أهله من العودة إلى الفراغ السياسى والذى كان يعانى منه على مدار عامين، وسط حالة من الصراع والتوتر الإقليمي والدولى .
بدايات الأزمة
الحريرى أعلن استقالته فى يوم 4 نوفمبر الماضى، من العاصمة السعودية الرياض، وذلك عبر قناة «العربية»، ونقلتها عنها محطة «المستقبل»، متهما إيران في شكل مباشر بأنها «تطاولت على سلطة الدولة، وأنشأت دولة داخل الدولة، وانتهى بها الأمر أن سيطرت على مفاصلها وأصبح لها الكلمة العليا والقول الفصل في شؤون لبنان واللبنانيين»، معتبراً «أننا نعيش أجواء شبيهة بالأجواء التي سادت قبيل اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ولمست ما يحاك في الخفاء لاستهداف حياتي».
وفي بيان تلاه عبر الشاشة وبدا جالساً خلف مكتب وإلى جانبه العلم اللبناني، توجه الحريري إلى «إخواني وأحبابي أبناء الشعب اللبناني العظيم بهذا الخطاب في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ بلادنا والأمة العربية، التي تعيش ظروفاً مأسوية أفرزتها التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية». وقال: «أنتم يا أبناء الشعب اللبناني العظيم، بما تحملونه من مثل وقيم وتاريخ مشرق، كنتم منارة العلم والمعرفة والديموقراطية، إلى أن تسلطت عليكم فئات لا تريد لكم الخير دُعمت من خارج الحدود، وزرعت بين أبناء البلد الواحد الفتن، وتطاولت على سلطة الدولة، وأنشأت دولة داخل الدولة، وانتهى بها الأمر أن سيطرت على مفاصلها وأصبح لها الكلمة العليا والقول الفصل في شؤون لبنان واللبنانيين».
وأضاف قائلاً: «أشير وبكل صراحة ومن دون مواربة إلى إيران، التي ما تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب، تشهد على ذلك تدخلاتها في الشؤون الداخلية للبلدان العربية في لبنان وسورية والعراق والبحرين واليمن. يدفعها إلى ذلك حقد دفين على الأمة العربية، ورغبة جامحة في تدميرها والسيطرة عليها. وللأسف، وجدت من أبنائها من يضع يده في يدها، بل ويعلن صراحة ولاءه لها، والسعي لخطف لبنان من محيطه العربي والدولي بما يمثله من قيم ومثل. أقصد في ذلك «حزب الله» الذراع الإيراني، ليس في لبنان فحسب، بل وفي البلدان العربية».
واعتبر الحريري أنه «خلال العقود الماضية، استطاع «حزب الله» للأسف فرض أمر واقع في لبنان بقوة سلاحه الذي يزعم أنه سلاح مقاومة، وهو الموجه إلى صدور إخواننا السوريين واليمنيين، فضلاً عن اللبنانيين، ولست بحاجة إلى سرد هذه التدخلات، وكل يوم يظهر لنا حجمها والتي أصبحنا نعاني منها، ليس على الصعيد الداخلي اللبناني فحسب، ولكن على صعيد علاقاتنا مع أشقائنا العرب، وما خلية «حزب الله» في الكويت عنا ببعيدة، ما أصبح معه لبنان ومعه أنتم أيها الشعب اللبناني العظيم في عين العاصفة، ومحل الإدانات الدولية والعقوبات الاقتصادية بسبب إيران وذراعها حزب الله». ومضى قائلاً: «قرأنا جميعاً ما أشار إليه رأس النظام الإيراني من أن إيران تسيطر على مصير الدول في المنطقة، وأنه لا يمكن في العراق وسورية ولبنان وشمال أفريقيا والخليج العربي القيام بأي خطوة مصيرية من دون إيران، والذي رددت عليه في حينه. وأريد أن أقول لإيران وأتباعها أنهم خاسرون في تدخلاتهم في شؤون الأمة العربية، وستنهض أمتنا كما فعلت في السابق، وستقطع الأيادي التي تمتد إليها بالسوء، وكما ردت عليكم في البحرين واليمن فسترد عليكم في كل جزء من أجزاء أمتنا الغالية، وسيرتد الشر إلى أهله».
وقال: «عاهدتكم عندما قبلت بتحمل المسؤولية، أن أسعى لوحدة اللبنانيين وإنهاء الانقسام السياسي واستعادة سيادته، وترسيخ مبدأ النأي بالنفس، ولقيت في سبيل ذلك أذى كثيراً، وترفعت عن الرد تغليباً لمصلحة لبنان والشعب اللبناني، وللأسف لم يزد هذا إيران وأتباعها إلا توغلاً في شؤوننا الداخلية، والتجاوز على سلطة الدولة، وفرض الأمر الواقع. إن حال الإحباط التي تسود بلادنا وحال التشرذم والانقسامات وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة واستهداف الأمن الإقليمي العربي من لبنان، وتكوين عداوات ليس لنا طائل من ورائها، أمر لا يمكن إقراره أو الرضا به تحت أي ظرف، وإني واثق بأن ذلك هو رغبة الشعب اللبناني بل طوائفه ومكوناته».
ورأى «إننا نعيش أجواء شبيهة بالأجواء التي سادت قبيل اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ولمست ما يحاك في الخفاء لاستهداف حياتي». وقال: «انطلاقاً مما أؤمن به من مبادئ ورثتها من المرحوم الشهيد رفيق الحريري ومن مبادئ ثورة الأرز العظيمة، ولأنني لا أرضى أن أخذل اللبنانيين أو أقبل بما يخالف تلك المبادئ، فإنني أعلن استقالتي من رئاسة الحكومة اللبنانية، مع يقيني بأن إرادة اللبنانيين أقوى، وعزيمتهم أصلب، وسيكونون قادرين برجالهم ونسائهم على التغلب على الوصاية عليهم من الداخل أو الخارج، وأعدكم بجولة وجولات مليئة بالتفاؤل والأمل بأن يكون لبنان أقوى مستقلاً حراً، لا سلطان عليه إلا لشعبه العظيم، يحكمه القانون ويحميه جيش واحد وسلاح واحد».
وساطة فرنسية مصرية
مصادر دبلوماسية ذكرت أن تعليق الحريرى لاستقالته جاء بعد سعى كلا من فرنسا مع مصر لوساطة مع السعودية تُبقي الرئيس سعد الحريري في منصبه، حيث أنه وبحسب المصادر، فإن الجانب الفرنسي يلحّ على بقاء الحريري في منصبه، وإنه يمكن إدخال تعديلات تعزز وضعه داخل الصيغة اللبنانية، وتبدي خشية كبيرة من حصول فراغ حكومي يؤثر بقوة في الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في لبنان.
تراجع مشروط
عقب عودته من باريس للمشاركة فى عيد الاستقلال، فى 22 نوفمبر الماضى فاجأ الحريري اللبنانين بـ«تعليق» استقالته من رئاسة مجلس الوزراء، عقب تعهد رئيس الجمهورية لضمان التزام «النأي بالنفس» .
وقال في خطاب تلاه من القصر الرئاسي، بعد جلسة عقدها مع الرئيس اللبنانى ميشال عون «لقد عرضت اليوم استقالتي على فخامة الرئيس عون، وقد تمنى عليّ التريث في تقديمها والاحتفاظ بها لمزيد من التشاور في أسبابها وخلفياتها السياسية، فأبديت تجاوباً مع هذا التمني».
الحريرى دعا إلى بذل الجهود من أجل الالتزام بسياسة النأي بالنفس، وتحييد لبنان عن النزاعات الإقليمية وعن كل ما يسيء إلى الاستقرار الداخلي والعلاقات مع الأشقاء العرب. وأضاف: «أتطلع إلى تقديم مصلحة لبنان العليا على أي مصلحة أخرى، والحفاظ على سلامة العيش الواحد بين اللبنانيين».
مراقبون وصفوا تعليق الحريرى لاستقالته بأنها عودة مشروطة، وأنها كشفت عن أزمات حاول جاهدا أن تخمد ولا تظهر على السطح منذ تشكيل حكومته على مدار العام الماضى، إلا أن ما يقوم به «حزب الله» جعله يخرج عن صمته ويقلب الطاولة قبل فوات الآوان، وما يفسر قوله بـ«إن الأجواء التي يعيشها لبنان تشبه الى حد بعيد الاجواء التي كانت سائدة عند اغتيال والده»، حيث يحمل الحريري أحد حزب الله والحكومة السورية مسؤولية اغتيال والده .
«حزب الله» يعترف بدوره التخريبي
تيار «المستقبل» الذى يترأسه الحريرى يرى أن هناك العديد من القضايا الخلافية مع تيار «حزب الله» والتى بسببها تدخل لبنان فى نفق مظلم وسط حالة من الصراعات الإقليمية التى تشهدها المنطقة بشكل عام، وفى القلب منها لبنان، والذى يعانى من أزمات اقتصادية منذ سنوات، إضافة إلى الملف الأمنى الذى بات مهددا على الحدود ، بسبب الصراع المسلح فى سوريا والعراق، فى إطار محاربة «داعش»، أو الدعم الذى يقدمه «نصرالله» إلى الحوثيين فى اليمن ليزيد من اشتعال الأزمة، ويؤجج من الصراع فى اليمن، والتى تواجها السعودية بحرب ضمن حملة دولية ممثلة فى «عاصفة الحزم»، وهو ما فسره الحريرى فى خطابه واكتفى بقوله «النأى بالنفس» والكف عن التدخل واقحام اللبنانيين فى شئون الدول الأخرى .
«حزب الله» لم ينف تلك التدخلات، حيث أقر أمينه العام حسن نصرالله ، عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، والذى انتهى إلى مجموعة القرارات الحازمة التي اتخذت من قبلهم، فى خطابه بـ«ضلوع حزب الله بالإرهاب وحرائق المنطقة، ونيته إرسال مليشياته المسلحة إلى المناطق التي يستهدف تخريبها وزعزعة استقرارها، برعاية إيرانية، وهو ما وصفه البعض بأن الخطاب حمل تناقضات كثيرة يمكن رصدها بسهولة، هذه التناقضات تعكس حالة الإرتباك الذي يعيشه الحزب بعد إعلان قرارات المجلس الوزاري العربي التي صنفته إرهابياً، حيث أعلن «نصرالله» بعد يوم واحد من صدورها نيته سحب ميليشياته المسلحة من العراق، معترفاً في الوقت ذاته بالتدخل وإرسال مسلحين إلى دول أخرى.
«نصرالله» الذي يمثل أداة طهران الرئيسية التخريبية في المنطقة بشكل غير مباشر اعترف بقيام ميليشياته بدور تخريبي يستهدف زعزعة استقرار المنطقة بقوله «إن من سينسحبون من العراق سيعودون للالتحاق في أي ساحة أخرى تتطلب منهم ذلك».
واعترف «نصرالله» في خطاب تلفزيوني بأن حزبه أرسل أعداداً كبيرة من قياداته وكوادره المسلحة إلى العراق، بالتنسيق مع الحكومة العراقية آنذاك، بينما اتهم الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتى للشؤون الخارجية، «برنامج إيران الصاروخي وحزب الله بأنهما سبب عدم استقرار المنطقة»، فى حين هددت السعودية بـ«إنها تدرس الذهاب إلى مجلس الأمن لعرض التدخلات الإيرانية، قائلة إن هناك تفاهماً مع الولايات المتحدة التي فرضت أمس عقوبات جديدة على طهران».
التصعيد العربى كان مثمرا حيث أبدى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قبل يومين مرونة واستعداداً للتفاهم مع الحريري. وقال «بالتأكيد نحن جميعاً في لبنان ننتظر عودة رئيس الحكومة، وهو بالنسبة لنا ليس مستقيلاً» مضيفاً «عندما يأتي سنرى ونحن منفتحون على كل حوار وكل نقاش يجري في البلد».
سلاح «حزب الله»
استطاع حزب الله مستفيدا من تعاون وتحالف وثيق مع سوريا وإيران، بناء ترسانة عسكرية كبيرة مكنته خلال العقد الماضي من تنفيذ عمليات عسكرية خارج حدود لبنان وجعلت منه «دولة داخل الدولة» بحسب وصف الحريرى فى نص استقالته التى تراجع عنها، ولكن بقيت اتهاماته مثار جدل فى أوساط الشارع اللبنانى، ففى الوقت الذى يرفع فيه «حزب الله» لاءات بشأن ترسانة السلاح التى يمتلكها، تطالب القوى السياسية بأن لا يكون هذا السلاح بعيدا عن الجيش اللبنانى، بل الأخطر ما يعتبره اللبنانيون بأن ما يعتبره «حزب الله» سلاحا للمقاومة أصبح سلاحا موجها لصدور اللبنانين فى الداخل، وهو ما لم يعد مقبولا معه ذلك الأن ويتساءلون : ما الذى يمنع «حزب الله» بأن يكون سلاحه تحت لواء الجيش اللبنانى إذا كان يدعو ويشدد أمينه العام عند كل مناسبة أنه مع استقرار لبنان ووحدة شعبه ؟! .
المراقبون يرون أن انتصارات «حزب الله»، والتى خرج استعرضها أمين عام الحزب «نصرالله» فى خطاب متلفز أعادت الحزب إلى حجمه الصغير وعمل على محاصرته، أو كما وصفها البعض بأنها «خطابات كثيرة، عكست حالة من التوتر الداخلي والتناقض الملحوظ وفقدان المصداقية»، وهو ما يتطلب معه أن ينأى الحزب بنفسه وباللبنانيين عن صراعات تشهدها المنطقة لا يقدر الوطن على تحمل أعبائها فى الوقت الحاضر أو مسقبلا .
استقالة الحريري أعادت الجدل حول سلاح «حزب الله» في الشارع اللبناني إلى الواجهة من جديد. فبدأ هذا الصراع يحتدم بعد انهيار حكومة التوافق الوطني برئاسة سعد الحريري التي شكلت عام 2009، وصعود موضوع المحكمة الدولية إلى السطح، فتظاهر آنذاك فريق الرابع عشر من آذار لانتقاد سلاح «حزب الله»، ولوضع حد لما يعتبرونه استغلالاً للسلاح في الصراع السياسي الداخلي.
ويبدو أن العبور إلى تسوية جديدة تحت راية «النأي بالنفس» هو عنوان المرحلة المقبلة التي يؤيدها الشارع اللبناني بهدف تخطي الأزمة الراهنة.
*****
اغتيال الحريرى .. وتورط «حزب الله»
تهديدات سعد الحريرى جاءت لتعيد إلى الأذهان حادث اغتيال والده رفيق الحريرى رئيس وزراء لبنان الأسبق منذ 12 عاماً، بعدما اختلف مع النظام السوري وانضم إلى المعارضة اللبنانية.
وكانت التظاهرات الشعبية رد الفعل الأولي على الاغتيال فى عام 2005، ووُجهت أصابع الاتهام للنظام السوري، ما أجبره على سحب قواته العسكرية والأمنية من لبنان بعد وصاية دامت 30 عاماً.
عقب الحادث طالبت التظاهرات والاعتصامات بتحقيق دولي محايد وبمحكمة دولية أسستها الأمم المتحدة عام 2009. لكن الاغتيالات استمرت لتطال قياديين في قوى الـ14 من آذار المعارضة لما أصبح يعرف بـ«محور المقاومة» و«الممانعة» بقيادة إيران وسوريا.
التحقيق كشف أن قياديين بحزب الله شاركوا بتنفيذ تفجير الحريرى، و رفض «حزب الله» تسليم المطلوبين من أعضائه للمحكمة الدولية، واحتل بيروت بسلاحه عام 2008، وطرد رئيس الحكومة سعد الحريري من الحكومة عام 2010.
ومع بداية الثورة السورية نقل حزب الله سلاحه إلى المدن السورية لدعم النظام، فيما أطلق سراح أحد السياسيين المحسوبين على سوريا بعد تهريبه عبوات ناسفة من دمشق إلى لبنان لتنفيذ اغتيالات .