سيقترف الرئيس دونالد ترامب خطأً جسيماً إذا ما انسحب في الأشهر المقبلة من خطّة العمل الشاملة المشتركة، وهي الاتفاق النووي الذي تمّ توقيعه بين مختلف القوى العالمية وإيران في العام 2015. فستوّجه هذه الخطوة، التي هدّد ترامب بتنفيذها إذا لم يتّخذ قريباً الكونغرس أي تدبير للتشدّد في السياسة الأمريكية الإجمالية تجاه إيران، ضربةً للمصالح الأمريكية والقيادة العالمية الأمريكية أخطرَ من قرارات ترامب السابقة المتعلّقة بالمعاهدات. فصحيحٌ أنّ ترامب شكّك في بعض التحالفات عندما كان مرشحاً رئاسياً، إلا أنه وفريق الأمن القومي التابع له قد التزموا بكاملها تقريباً منذ شهر يناير. وصحيحٌ أنه انسحب من الشراكة عبر المحيط الهادئ قبل أن ينظر مجلس الشيوخ في موضوع المصادقة عليها، غير أن هيلاري كلينتون وعدت بالقيام بذلك أيضاً. وصحيح أيضاً أنه سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، وهذا خطأ آخر، غير أنه باستطاعة أيّ رئيس أمريكي عتيد أن ينقض القرار وينضمّ إلى الاتفاق من جديد، مع ضرر محدود لا أكثر يتمّ تكبّده في الفترة الانتقالية. في المقابل، يشكّل إلغاءٌ أحاديّ الجانب لاتفاق نووي متعدد الأطراف تمّ التفاوض عليه بشقّ الأنفس وحصل على بركة قرارٍ من مجلس الأمن ازدراءً فادحاً للقانون الدولي وسيفاً يطعن خاصرة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وجحوداً لآراء حلفاء الولايات المتحدة الأساسيين. والأسوأ من ذلك أنه قد يكون قراراً لا رجوع عنه، فيطلق بالتالي يد إيران بالكامل لاستئناف الكثير من الأنشطة النووية بدون قيود، وبدون أي وسيلة ممكنة لإعادة فرض العقوبات الاقتصادية المتعددة الأطراف التي دفعت طهران إلى الإذعان والجلوس إلى طاولة التفاوض والموافقة على الاتفاقية في المقام الأول.
ومع ذلك، لنسلّم جدلاً أن ترامب صادق ولنتطرّق إلى التحدّي الذي يطلقه. فهو ليس مخطئاً في التعبير عن مخاوف جدّية بشأن سلوك إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط الأوسع. وسيتساءل أمريكيون آخرون كثرٌ، وهم محقّون في تساؤلهم، حول كيفية التوصّل إلى اتفاق ودّي مع إيران بشأن المسائل النووية في حين يبدو أن الولايات المتحدة تغضّ النظر عن المغامرة الإيرانية المدمّرة في جميع أنحاء المنطقة. ونظراً إلى السلوك الإيراني في هذا الموضوع الأخير، الذي يبقى مستمراً وغيرَ متزعزع منذ توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2015، باتت شروط إنهاء الاتفاق النووي أكثر إثارة للقلق، فما من أيّ دليل يشير إلى أن إيران ستصبح أقل خطورة مع مرور الوقت.
في الواقع، لنكن واضحين وضوح الشمس: على مدى الجيل الأخير، ما من حكومة أجنبية سفكت بالدم الأمريكي أكثر من ثيوقراطية إيران الثورية ما بعد العام 1979، إذ كانت العقل المدبّر خلف تفجيرات الثكنات البحرية في لبنان في العام 1983 وتفجيرات أبراج الخبر في المملكة العربية السعودية في العام 1996. وفي العراق، ومنذ العام 2003، قدّم فيلق القدس التابع لإيران الأسلحةَ للمتمرّدين السنة والشيعة الذين قتلوا مئات الأمريكيين. وقد ساهمت جهود طهران المتواصلة الرامية إلى إثارة المشاكل أينما عاش الشيعة في الشرق الأوسط، من شرق المملكة العربية السعودية إلى العراق وسوريا فاليمن والبحرين وخارجها، في مفاقمة الحروب التي أدّت إلى مقتل أكثر من خمسمائة ألف شخص وتهجير أكثر من 15 مليوناً منذ العام 2011. ويعرّض دعمها المتواصل لحماس وحزب الله إسرائيلَ إلى خطر مستمر.
لذلك نعم، نحن بحاجة إلى استراتيجية أفضل لاحتواء إيران وإبقائها ضمن السيطرة، ونحن بحاجة إلى هذه الاستراتيجية الآن. وإذا نجحنا، قد يتراجع تهديد ترامب الخاطئ بالإطاحة بخطّة العمل الشاملة المشتركة أمام أحداث قد تشكّل مكسباً للرئيس ونقّاده على حدّ سواء.
أولاً، لنقيّم موقفنا الراهن حيال السياسة مع إيران. فالولايات المتحدة تبقي على وجود عسكري متيقّظ في مياه الخليج للحرص على مرور النفط بحُرّية، خشية أن تحاول إيران التدخل. وتتعاون مع شركائها الأمنيّين في مجلس التعاون الخليجي لبناء دفاعات إقليمية ضدّ إيران أيضاً. وتساعد إسرائيل على الحفاظ على قوّتها وأمنها في ظلّ التهديدات المحتملة من حلفاء إيران، أي حركة حماس وحزب الله. وتُعتبر جميع هذه العناصر في سياسة أمنية تجاه إيران سليمةً.
بيد أنّ الولايات المتحدة والدول الحليفة لها تعاني على جبهات أخرى. فقد أعطى كلّ من الرئيس أوباما والرئيس ترامب الأولوية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بدلاً من بذل جهود أكثر شمولاً لتحقيق الاستقرار في البلدين. فاستفادت إيران من الفراغ الأمني. وتشكّل الحرب الأهلية اليمنية كارثة إنسانية أخرى في الشرق الأوسط. ويجد التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية نفسه في مأزق هناك. وكلّما طال الوضع ازدادت الكلفة البشرية، مما يتيح فرصاً متواصلة ليس لإيران فحسب بل لتنظيم القاعدة وربما تنظيم الدولة الإسلامية أيضاً. وينبغي على الولايات المتحدة أن تفرض نفسها على الأطراف الفاعلة الرئيسية لدفع عملية السلام إلى الأمام. وتضطلع واشنطن بدور ضئيل جداً في المساعدة على تقوية دول مهمّة مثل الأردن ومصر، وهي دول قد تكون عرضة للتداعيات الناجمة عن حروب المنطقة التي تساعد إيرانُ على إزكاء لهيبها.
بناء على ذلك، ينبغي أن تتضمّن الاستراتيجية الأمنية لاحتواء إيران وتحدّيها إقليمياً العناصرَ التالية:
التعهّد بالحفاظ على وجود عسكري أمريكي في العراق لفترة أطول وتمديد مجموعة المساعدات للبلد. في الوضع الأمثل، ينبغي أن يحظى هذا الالتزام بدعم الحلفاء في دول الخليج وحلف شمال الأطلسي (الناتو). ويتماشى هذا النوع من الالتزام تماماً مع تطلّعات حلف شمال الأطلسي المتكيّفة للمساعدة على إرساء الاستقرار في الدول ذات الوضع المتقلقل في المنطقة. وقد عانى العراق جيلاً من الحروب وسوء الحكم وسنوات من انخفاض أسعار النفط أيضاً. أما الآن، ومع تحرير معظم المدن الواقعة تحت سيطرة الدولة الإسلامية، أصبح من الضروري للغاية بذل جهود ناجحة لقيام عملية إعادة بناء تنخرط فيها المجموعات الطائفية الرئيسية الثلاث وتحول دون العودة إلی الحرب الأهلية أو إلى بروز نسخة جديدة من الدولة الإسلامية. فعندما يكون العراق أقوى وأكثر استقراراً يصبح في وضع يخوّله مقاومة هيمنة إيران بشكل أفضل. ونظراً إلى ما هو على المحكّ وإلى استثمار أمريكا السابق، ينبغي الالتزام بمستويات مساعدة تقارع تلك التي يتمّ تقديمها إلى أفغانستان أو مصر. ومن شأن الالتزام بهذه الطريقة أن يسمح للولايات المتحدة أيضاً بمساعدة بغداد على مراقبة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران عندما يتم حلّها جزئياً ودمجها جزئياً في قوات الأمن العراقية في الأشهر المقبلة.
في سوريا، اقتراح أكثر صرامة، بدون اعتماد استراتيجية واحدة. مع ذلك، على الولايات المتحدة والدول ذات التوجّه المماثل، إلى جانب المنظمات المعنية بالمساعدات الدولية، المساعدة على توفير الأمن والدعم الاقتصادي للمناطق غير الخاضعة لحكم الأسد والدولة الإسلامية. وينبغي التعامل مع بعض هذه المناطق كمناطق مستقلّة ومساعدتها على إدارة نفسها أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، تبرز حاجة إلى المزيد من القوة العسكرية والدعم من الدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليجي للمتمرّدين المعتدلين في الأجزاء الشمالية الغربية من البلاد، على غرار إدلب وجوارها، حيث لا يزال التنظيم التابع لتنظيم القاعدة، المعروف سابقاً باسم جبهة النصرة، ناشطاً. وإن لم يتمّ ذلك، فمن المرجّح أن يكون النصر حليف ذلك التنظيم أو قوات الأسد المدعومة من روسيا وإيران.
مع تهديد شديد ناجم عن 1.4 مليون لاجئ سوري يعيشون بين عدد سكان صغير يبلغ 8 ملايين نسمة، يحتاج الأردن أيضاً إلى المزيد من المساعدة. بالإضافة إلى استراتيجية أفضل لإنهاء الحرب الأهلية السورية، يحتاج الأردن إلى المزيد من الدعم المالي، ولا سيّما من أجل أنواع التنمية الاقتصادية التي من شأنها استحداث فرص عمل للشباب والحدّ من تقبّلهم لنوع التطرّف الذي يولّد الإرهاب والفوضى والفرص لطهران.
من المؤكّد أن هذه قائمة ليست كاملة. غير أن التهديدات غير الحكيمة التي يطلقها ترامب بشأن الاتفاق النووي مع إيران قد تساعد على خدمة هدف أوسع، أو على الأقل تمنع حدوث أزمة أخرى، إذا صوّبنا أفكارنا نحو هذه المساعي.
مركز بروكنجز