يطرح المراقبون أسئلة كثيرة حول السيناريوهات المتوقعة في لبنان بعد إعلان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري استقالته السبت الماضي. وتنعطف أسئلة المختصين على أسئلة تقلق المواطن اللبناني، حيث تتعلق بحياته اليومية وبمستقبل البلد على ضوء مما يتردد عن أن خطوة الحريري لها ما بعدها.
ويروج داخل كواليس السياسة في لبنان أن أمر استقالة الحريري أكبر من البلد وأن الانتقال إلى هذه الخطوة لم يكن بالضرورة مستندا على حسابات محلية، بل إن مداولات بين العواصم الكبرى وفّرت للحريري معطيات داهمة جعلت من قرار استقالته خيارا وحيدا حتميا، وفق صحيفة العرب اللندنية.
وتقول المعلومات في هذا الصدد أن الساعات الأخيرة التي سبقت الإعلان عن الاستقالة شهدت تدفق كمية من المعلومات والتحليلات التي فاجأت الحريري نفسه ودفعته إلى إعلان الخروج من الحكومة وسحب التغطية التي كان يؤمنها لها من خلال شخصه ومن خلال ما يمثله من امتدادات إقليمية ودولية.
ويرى مراقبون أن سعد الحريري أراد من خلال استقالته رفع مستوى التحديات إلى ما يتجاوز التفاصيل اليومية للعمل الحكومي اللبناني باتجاه تثبيت موقف يتسق مع ما يرتب له في كل المنطقة.
ويضيف هؤلاء أن التطورات المتعلقة بمستقبل المشرق ما بعد داعش يتطلب إعادة تموضع لكافة العواصم المعنية، وأن الحريري أراد التبرّؤ من إعادة تموضع للبنان وفق أجندة تعمل عليها إيران وحزب الله والانسحاب من أي ورشة تروم إدراج البلد ضمن الحصة الإيرانية في المنطقة.
ويذكر العارفون أن سعد الحريري قد فاجأ الخصوم قبل المناصرين والحلفاء في أواخر عام 2016 حين دفع باتجاه ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، ولا سيما أن الأخير يعتبر صقرا من صقور تحالف 8 آذار ولطالما اعتبر نفسه صديقا شخصيا للرئيس السوري بشار الأسد. غير أن الحريري كان يدافع عن خياره آنذاك بأنه محاولة لشد التحالف الخصم نحو خيارات الدولة والسيادة والاستقلال.
وكان الرجل يرى أنه من خلال إيصال شخصية من الفريق الآخر إلى بعبدا، يضعه وفريقه أمام حقيقة أن رئاسة البلد تتطلب التمسك بمبادئ إدارة البلد وفق مصالح البلد فقط وليس وفق أجندات الخارج.
ويضيف هؤلاء أن الحريري ذهب باتجاه اللامعقول والمكيافيلية القصوى حين دعم في أكتوبر 2016 ترشح ميشال عون للمنصب الأول في البلاد بعد إدراكه استحالة إمكانية وصول فرنجية إلى بعبدا.
ويقول قريبون من الحريري أن هواجس الدولة والاستقرار ومنع الانهيار التي كانت وراء ترشيحه لفرنجية هي نفسها التي جعلته يبتلع العلقم المرّ من خلال دعمه لعون الذي لم يكن لينتخب رئيسا لولا هذا الدعم.
وتؤكد مصادر سعودية مطلعة أن الرياض لم تقف وراء مبادرات الحريري حيال فرنجية وعون إلا أنها لم تمانع في دعم حليفها ومواكبته ثم مباركة الإنجاز الذي تحقق بانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية وصولا إلى فتح أبواب السعودية أمام الرئيس الجديد والعهد برمته.
غير أن مراجع سياسية لبنانية ترى في انتخاب عون لحظة تقاطع عابرة بين السعودية وإيران في تعايش نفوذ الدولتين في لبنان لتغطية العهد الجديد، بما يوحي بإمكانية تحييد لبنان عن ميادين المواجهة غير المباشرة بينهما.
وترى هذه المراجع أن صفقة الحريري عون التي قيل إنها بنيت لتستمر ست سنوات، هي فترة ولاية عون، سرعان ما تعرضت لانتهاكات وتجاوزات كانت تهدف إلى إعادة كتابة التسوية من جديد أو الإطاحة بها نهائيا.
ويفهم من كلام زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع حول استغرابه من عدم حصول استقالة الحريري قبل ذلك، أن جعجع الذي كان بدأ في الأسابيع الأخيرة يلوح بإمكانية استقالة وزرائه من الحكومة، كان يدرك أيضا أن موقع الحريري بصفته حليفا عضويا مع السعودية لا يمكن أن يسمح بتمرير أجندة إيرانية يدفع باتجاهها حزب الله بتغطية كاملة من رئيس الجمهورية.
وكان جعجع قد زار الرياض قبل أسابيع واطلع على أجواء السعودية ومعارضتها الكاملة لورشة جرّ البلد من خلال حكومة الحريري نحو خيارات الخروج من الدائرة العربية العروبية والالتحاق بالهلال الفارسي الذي تود إيران تثبيته من طهران نحو بيروت مرورا ببغداد ودمشق، وتؤكد المعلومات أن الظروف التي أملت على الحريري القبول بالتسوية التي أنتجت هذا العهد تغيرت وأن الرجل لم يعد مضطرا للعب دور هامشي ضمن مخطط كبير تحيكه إيران.
إخراج لبنان من دائرة النفوذ الإيراني
وتضيف المعلومات أن رئيس الحكومة اللبنانية، الذي زار مؤخرا واشنطن وموسكو وباريس وروما وعواصم أخرى والتقى بزعماء هذه الدول، أدرك أجواء دولية ضاغطة لإخراج لبنان من دائرة النفوذ الإيراني.
وينقل عن بعض كواليس الحكم في لبنان أن الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران تتسق مع الحركة العسكرية الأميركية في العراق وسوريا وترعى الإشارات التي صدرت من واشنطن، سواء لجهة العقوبات الجديدة ضد إيران وحزب الله أو لجهة إحياء ذكرى تفجير مقر قوات المارينز في لبنان قبل أكثر من ثلاثة عقود، على نحو يوحي بأن واشنطن مجمعة، بكافة مؤسساتها هذه المرة، على التصدي لطهران ووضع حد لميليشياتها في لبنان.
وتقول المعلومات إن قرار بعض الوزراء اللبنانيين المحسوبين على تحالف 8 آذار الذهاب إلى دمشق والتنسيق مع نظرائهم السوريين وتلبية دعواتهم، وأن الدعوة من داخل الحكومة اللبنانية للتنسيق مع النظام السوري لإعادة اللاجئين السوريين، تندرج ضمن ضغوط متصاعدة لن تنتهي إلا بوصل القرارالسياسي اللبناني بدمشق، وبالتالي تمدد الوصاية الإيرانية على النظام السوري ليشمل وصاية على النظام السياسي اللبناني.
وفيما بدا أن سعد الحريري لم يتخذ مواقف صارمة ضد هذا التوجه تاركا لمصادر تيار المستقبل التعامل معه بالمفرق وليس بالجملة، وفيما بدا أن الحريري لا يريد التصادم مع بعبدا بانتظار تغير الظروف الإقليمية الدولية فإن الرجل توصل في الأيام الأخيرة إلى قناعة مفادها أن مشروع خطف البلد نحو طهران قد أنجز وأن إشادة الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين لحزب الله بشخص الحريري وحكمته وحسن مواقفه، كانت تهدف إلى مداراة رئيس لحكومة ودفعه باللين نحو الاستسلام لخيار الحزب الكبرى.
وتؤكد مصادر دبلوماسية غربية في بيروت أن معطيات جديدة توفرت في السعودية في شأن الخطط الإيرانية في لبنان، وأن الرياض لم تعد تستطيع، من خلال حليفها الأول سعد الحريري، الاستمرار في تغطيتها للعهد وحكومتها الأولى.
وتضيف المصادر أن قرار استقالة الحريري اتخذ بعد ورود معلومات من أجهزة دولية عن عملية اغتيال تستهدفه شخصيا.. وقالت المصادر إن المعلومات أتت عاجلة على نحو لا يحمل لغطا وعلى نحو لم يعد يسمح للحريري بالبقاء في لبنان على رأس حكومة يشارك فيها وزراء من حزب الله وحلفائه.
وتؤكد بعض المعلومات أن قرار الاستقالة اتخذ في أعقاب الزيارة الأولى للحريري أوائل الأسبوع الماضي، وأن الرياض والحريري نفسه أوحيا بمرونة سياسية بعيدة عن أي قرارات دراماتيكية لأسباب أمنية.
وتضيف المعلومات أن لقاء الحريري في بيروت مع علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني كان دبلوماسيا فارغ المضمون هدفه، كما كشف لاحقا، إعلان ولايتي من على باب القصر الحكومي عن “انتصار محور الممانعة في العراق وسوريا ولبنان”، بما أوحى أن موقع رئاسة الحكومة اللبنانية أضحى جزءا من هذا المحور ومنبرا له. وقد كان تصريح ولايتي “محرجا وقاسيا” بالنسبة للحريري، على حد تصريح القيادي في تيار المستقبل مصطفى علوش.
عودة مستبعدة للحريري
يرى مراقبون أن استقالة الحريري هي حدث لبناني يتجاوز حدود لبنان. وبعتبر هؤلاء أن إعلان الاستقالة من الرياض هي رد من الحريري ومن السعودية يؤكد بأن قرار لبنان ليس إيرانيا على ما فهم من تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني الأخيرة.
وأضافت هذه الأوساط أن لحظة التقاطع الظرفية التي جمعت السعودية وإيران لإنتاج العهد في لبنان برأسي عون والحريري قد انتهت، وأن السعودية، ومن خلال استقالة الحريري، مستمرة في مواجهتها للنفوذ الإيراني داخل كل ميادين هذا النفوذ في العالم العربي.
وقد وصلت الرسالة السعودية إلى طهران مباشرة التي اعتبر الناطق باسم خارجيتها أن إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته هو “سيناريو صهيوني سعودي أميركي جديد الغرض منه تأجيج التوتر في لبنان والشرق الأوسط كله”.
ولفت دبلوماسيون إلى أن خطاب الاستقالة لم يأت لبنانيا فقط، بل إنه كان مطالعة هجوم على إيران وسلوكها المدمر في كل المنطقة. كما أن هجوم الحريري ضد حزب الله لم يكن بسبب دور الحزب في لبنان ، بل بسبب ما يرتكبه الحزب أيضا في كافة دول المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورا بدول الخليج والعراق وسوريا، وأن الحريري لا يريد من خلال هذه الاستقالة أن يكون متواطئا في خطط إيران والحزب ضد لبنان والمنطقة.
ورغم بيان صدر عن رئاسة الجمهورية اللبنانية قال إن الرئيس ميشال عون ينتظر عودة الحريري إلى لبنان لاستيضاح حيثيات الاستقالة، استبعد مراقبون عودة الحريري لأسباب أوردها في خطاب الاستقالة تتعلق بأمنه الشخصي.
ورأى هؤلاء أن الحريري يدرك صعوبة تشكيل حكومة بديلة وصعوبة قبول شخصية سياسية سنية بتشكيل حكومة جديدة في ظل موقف السعودية والولايات المتحدة حيال إيران وحزب الله، وبالتالي فإن عودة الحريري لممارسة دوره على رأس الحكومة الحالية ولقيادة حكومة أخرى يتطلب تعديلا كبيرا في بنود التسوية التي أنتجت العهد، كما تتطلب ضمانات دولية روسية أميركية أوروبية أممية تحصن أمنه الشخصي من أي اغتيال. ولا يرى المراقبون في الظروف الحالية إمكانية ظهور أعراض تعدّل من سلوك حزب الله ونظرته إلى وظيفته اللبنانية داخل المشهد الإيراني الإقليمي العام.
بيد أن مصادر لبنانية مطلعة لم تستبعد أن يكون قرار الاستقالة قد جاء على خلفية معطيات عن خطط عسكرية قد تستهدف حزب الله في لبنان، علما أن أي خطط سواء دولية أو إسرائيلية لا تحتاج ولم تحتج سابقا إلى استقالة رئيس الوزراء اللبناني، لا بل إن هذه الاستقالة قد تربك وتعطل هذا الاحتمال.
وترى هذه المصادر أن استقالة الحريري يراد منها فصل لبنان الحكومي الرسمي عن أي سلوكيات يتحمل مسؤوليتها حزب الله وحده (وفي ذلك ردعلى تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي الأخيرة حول مسؤولية بيروت والمؤسسات اللبنانية في ما يمثله حزب الله من خطر قد يستدعي حربا).
وتضيف المصادر أن الاستقالة يراد منها أيضا الدعوة إلى تغير في شكل وأسلوب الحكم في لبنان ودفع حزب الله وإيران إلى احترام الخصوصية اللبنانية بما يرفع عن البلد التهديدات المتزايدة بحرب مدمرة لا تفرق بين أبنائه.
وقد لمّح رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة إلى ذلك بالقول إن “الحل يكون بالعودة إلى اتفاق الطائف والدستور وإعادة الاعتبار للدولة اللبنانية التي يجب أن تكون صاحبة السلطة”.
وتقر مراجع دبلوماسية عربية ودولية بأن حدث الاستقالة كان له صداه الكبير في بغداد وأنقرة والقاهرة كما في واشنطن وموسكو وباريس ولندن وبرلين، وأن هذا الموقف تقرأه العواصم بصفته رسالة متعددة المعاني والاتجاهات تطلق من الرياض بما يستدرج المجتمع الدولي لإعادة قراءة المشهد الإقليمي وفق قواعد جديدة.