فتح الاتفاق الأخير بين حزب الله وتنظيم داعش الباب لأسئلة طالما طُرِحت بثقة لكنها كانت عُرضة للتأويل أو اللامبالاة من جملة الاهتمامات الدولية وتركت إلى الفراغ بإرادة دول الصف الأول، وأهمها الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
خلاصة الصفقة بين ميليشيا الحرس الثوري الإيراني في لبنان وعناصر داعش الإصرار على استمرار استغفال الشعوب التي تقع ضمن جغرافيا قريبة للمشروع الإيراني وإيهامها بالحرب المذهبية والإقفال بالشمع الأحمر على عقلها أو بقايا عقلها عند بعضهم.
بمعنى آخر إنهم يقدمون لنا النُصح بعدم التفكر والتفكير، لأننا في نظرهم “جهلة” وهذا ما عبر عنه رئيس كتلة دولة القانون في برلمان العراق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي.
كل من لا يستوعب أو ينتقد أو يعترض مهما كانت مكانته فهو “جاهل” بنظر المالكي. لِمن توجه بكلامه ولماذا؟ فالعراق بمعظمه توحد في رفض الصفقة، وحتى رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو من حزب الدعوة، لم يستطع التملص ربما لأول مرة رغم سياسة أضعف الإيمان من القول إن الاتفاق غير مقبول. وهذا يحسب له.
لماذا لم يتجاهل نوري المالكي الاتفاق ويترك المأزق في ملعب العبادي؟ هل اضطر إلى هذا التصريح وتوجيه الإهانة ونعت المنتقدين بـ”الجهلة” ومنهم طبعا رئيس وزراء العراق الذي من كتلته وحزبه؟
ربما نجد عذرا للمالكي إذا وصف الشعب العراقي بما يشاء، فالشعب في ذيل قائمة اهتماماته، لكن كيف وموسم الانتخابات على الأبواب؟ هل يراهن المالكي بكل قوته على المعسكر الإيراني الذي ينتمي إليه مع حزب الله ويستند إلى الحشد الشعبي بميليشياته الأكثر قربا أو صلة بالحرس الثوري وقاعدتها الانتخابية بما أنه، أي المالكي، يستعرض نفسه كعراب للحشد.
أكيد أن مفردة “الجهلة” لم تكن زلة لسان، قد تكون استجابة برضا لأوامر أو رغبات المرشد خامنئي وحرسه الثوري اللذين لديهما قناعة بأن حيدر العبادي غير مقبول أو مرضي عنه رغم ما يقدمه من تنازلات مخجلة أحيانا وتضعه في مواقف محرجة بصفته رئيسا للوزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة. يبدو أن حماسته في الدفاع عن الحشد الميليشاوي لم تنفع أو لم تشفع لصقله إلى قيادة مرحلة أزمات قادمة في العراق والمنطقة.
إيران متطلِبة في العراق ولن يكفيها حاكم بوجه معلن كدولة عراقية ذات سيادة في تعاملها مع السياسة والعلاقات الدولية ووجه خفي معها وإن قلبا وقالبا. إيران تريد حاكما على طريقة التبليغات وأداء الواجبات كفرد في الحرس الثوري وبهيئة قاسم سليماني في المهمات الداخلية أو أي مسؤول إيراني آخر بما يتعلق بإدارة شؤون العراق مع العالم.
ما قاله نوري المالكي كسر القشرة الخارجية التي منعت طويلا المجاهرة بموقف العداء الصريح لأي تقارب عربي مع العراق وخاصة مع المملكة العربية السعودية وبما خرجت به قمة الرياض في محاربة التطرف وإدانة المشروع التوسعي لنظام ولاية الفقيه واعتباره الداعم والراعي الأول للإرهاب في العالم.
المالكي ردّ بفظاظة شملت الجميع، لكنه أراد مهاجمة الأصوات الأعلى الرافضة للاتفاق المشين وهي أصوات مؤثرة في المشهد العراقي وتحديدا منها أصوات كتلة الأحرار الصدرية في البرلمان، بما ينذر بكارثة صراع عام ومفتوح في العراق يستهدف أي شخصية تبتعد عن المشروع الإيراني ولو بمسافة تمليها المأساة التي تعرض لها شعب العراق من تمزيق في نسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية وبحربه على الإرهاب، وهي حقائق تستدعي عودة وإعادة بل وانتزاع العراق من ويلات المشروع الإيراني وما يمكن أن نتوقعه من حروب بالإنابة دفاعا عن أمن إيران وإبعاد الأذى عن حدودها، مع الاستفتاء في إقليم كردستان على الانفصال والشحن السياسي والمجتمعي في قضية كركوك وما يتبعها من مخاطر أمنية محتملة.
الاتفاق على ترحيل تنظيم داعش من الحدود اللبنانية السورية له حسابات في الداخل اللبناني لن نخوض فيها لكنها أيضا على صلة بالإرادة الإيرانية والمناورة داخل الأراضي السورية. وكما قيل إن انتقال عناصر داعش تم من أرض سورية إلى أرض سورية وإن كان ترحيلهم إلى البوكمال القريبة من الحدود العراقية أو إلى دير الزور المحاذية كذلك للعراق. فلماذا هذه الضجة المفتعلة وردود الفعل في العراق؟
الاتفاق المذكور دون شك سحق تماما فكرة توازن الرعب التي تبناها داعش في سياسته التي ترتكز على الترويع والصدمة والعزلة واستحالة الحوار معه والتوحش واللامبالاة بالحياة وليس له إلا الموت بالقتال أو الانتحار بالسيارات المفخخة أو الأحزمة الناسفة. لكننا رأيناهم يتواصلون ويتفقون ويبتسمون للكاميرات ويشربون الماء باردا وبرفقتهم عوائل من نساء وأبناء وأمهات وآباء. ومع من يتفقون، أليست هذه أكبر المفاجآت؟
للمتتبع كان وقعها استكمالا لسياسة المشروع الإيراني واستباقا للأحداث وتقاطعا مع المستجدات. السؤال الأكثر وقعا في نفوسنا: لماذا لم يُفتح أي اتصال أو حوار مع مقاتلي داعش بعد أي صفحة من صفحات معركة الموصل؟ لماذا لم تفتح ثغرة لهروبهم إلى خارج الموصل القديمة واصطيادهم هناك أو إيقاعهم في الأسر بما أننا نتابع مصائر أعداد منهم في معركة تلعفر أو تركهم ليغادروا الحدود العراقية؟
ماذا كانت مهمة الحشد الميليشاوي إلا العزل والتطويق من جهة الواجبات المكلف بها غرب الموصل؟ ما هو الاستنتاج الذي نخرج به غير الإبادة الممنهجة والتشريد والإهانة والإذلال وتدمير الموصل؟
رأينا بفضل تواطؤ النظام السوري وحزب الله تنظيم داعش كيف يتحول إلى بعض عشيرة تائهة في الصحراء أعيدت إلى مضارب خيام أهلها الذين استقروا قرب الحدود العراقية. لماذا الحدود العراقية السورية أصبحت مركزا للتجمعات المسلحة من تنظيم داعش الذي أُخرِجَ من الموصل وتلعفر بالدم العراقي؟
الحشد الميليشاوي يحاول السيطرة على الحدود. هل كانت وظيفته مطاردة داعش وإلحاق الهزيمة به أم أن الاتفاق أو الصفقة المشبوهة نبهتنا إلى مضمون الاتفاق في إعادة احتلال المدن العراقية لما له من غايات أدرى بها نوري المالكي الذي سلم الموصل دون قتال ويصف اليوم شعب العراق وكل من يقف بوجه المشروع الإيراني بـ”الجهلة”؛ وهو قبل زيارته إلى موسكو كان يصرح متحمسا عن وحدة الموضوع بين العراق والنظام الحاكم في سوريا بما يخص الحرب على إرهاب داعش ولولا قتال “العراقيين” دفاعا عن سوريا لسقطت بغداد.
ما الذي تغير لتكون البوكمال بعيدة كل هذا البعد عن الحدود العراقية في رأي المالكي وأتباع المشروع الإيراني؟ هل هي فضيحة مقبلة لتعاون صريح لميليشيات الحشد مع داعش لمواجهة التوجهات الأميركية في العراق لفصل الهلال الطائفي ومنع التمدد الإيراني إلى البحر المتوسط.
*كاتب عراقي
(العرب اللندنية)