تركزت الكثير من التكهنات في الآونة الأخيرة على مستقبل مدينة ومحافظة دير الزور في سوريا. وشكل النقاش حول وجهة نظر الولايات المتحدة حول دور إيران في سوريا أحد الأسباب الرئيسة لهذه التكهنات، وخصوصا هدف إيران إنشاء جسر بري من طهران إلى بيروت. وتشير التحركات العسكرية على الأرض إلى أن الجيش السوري وحلفاءه سيستعيدون دير الزور.
في عام 2012، خسر الجيش السوري نصف مدينة دير الزور لقوات المتمردين وسرعان ما سقطت بعد ذلك المقاطعة بأكملها. وبينما يربط طريق يمر عبر تدمر (بالميرا القديمة)، الجزء الذي تسيطر عليه الحكومة من دير الزور إلى حمص، استولى تنظيم "الدولة الإسلامية" في مايو 2015 على تدمر وعزل قوات الجيش السوري وسط منطقة شاسعة يسيطر عليها الجهاديون.
وبالفعل، تقلصت الأراضي التي تتحكم فيها الحكومة بعد الهجمات المتتالية لتنظيم "الدولة الإسلامية". وفي السابق، كانت إمدادات الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام تصل من المطار، ولكن في يناير 2017 فقدت الحكومة سيطرتها على الطريق الذي يربط المدينة بالمطار وتوقفت هذه التدابير.
ومن أجل درء الهجوم النهائي، تقوم قوات النظام السوري والقوات الروسية وحتى القوات الإيرانية بقصف الخطوط الأمامية لتنظيم "الدولة الإسلامية" بالصواريخ من دون توقف.
وبفضل الدعم الذي توفره الطائرات المروحية تبقى إمكانية التواصل مع الخارج ممكنة، كما تلقي طائرات الشحن كميات كافية من المساعدات لإطعام المدنيين الذين ما زالوا مقيمين في المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة ويبلغ عددهم 100ألف نسمة.
ويترسخ الدفاع الصارم للنظام السوري وحلفائه عن دير الزور في عزمهم على استعادة شرق سوريا في نهاية المطاف. وأُسند هذا الدور إلى أحد أفضل الجنرالات السوريين، عصام زهر الدين، الذي يعتمد على "كتائب الحرس الجمهوري" أي قوات النخبة في الجيش السوري.
وفي يناير 2017، أرسل "حزب الله" مئات المقاتلين تعزيزات إلى دير الزور التي كانت تتعرض لهجمات تنظيم "الدولة الإسلامية". وعبأ "جيش الدفاع الوطني"، إحدى القوات شبه العسكرية للنظام السوري، جميع الذكور الذين تتجاوز أعمارهم الخمس عشرة سنة في هذا الجهد. ويساند الجيش السوري أيضاً ست مائة مقاتل من عشيرة "الشعيطات" التي تسعى إلى الانتقام من المجزرة التي ارتكبها تنظيم "الدولة الإسلامية" في قراها.
في ربيع عام 2016، وبعد استئناف عملية تدمر حاول الجيش السوري إعادة فتح طريق تدمر - دير الزور ولكنه سرعان ما تخلى عن المشروع بعدما واجه مقاومة قوية من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية". وحُشدت بعد ذلك جميع القوات المتوفرة للسيطرة على حلب، حيث أدى الانتصار في ديسمبر 2016 إلى فتح المجال أمام عشرات الآلاف من المقاتلين لدخولهم المحتمل إلى شرق سوريا. وتتمركز الميليشيات الشيعة الأجنبية على الخطوط الأمامية أيضاً.
ومنذ مارس 2017، يتقدم الجيش السوري وحلفاؤه نحو الشرق، مستفيدين من انسحاب تنظيم «الدولة الإسلامية» من حول تدمر. وفي مطلع يونيو، وصلوا إلى الحدود السورية العراقية، ومنعوا بالتالي المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة والمتمركزين في التنف [من التقدم].
ويخطط حالياً الجيش السوري للاستيلاء على المنطقة الصحراوية شرق مدينة سلمية. ورغم هذا التقدم المحقق في أماكن أخرى، لا يبدو أن الهجوم الخاطف على دير الزور محتملاً نظراً لخطر الفشل المرير، كما حدث في ديسمبر 2016، عندما أدى هجوم مضاد شنه تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى إجبار مقاتلي النظام على التخلي عن تدمر.
ويتقدم الجيش السوري وحلفاؤه بشكل منهجي في "البادية"، ويستولون على نقاط المياه، وطرق المواصلات، وحقول النفط والغاز، ومناجم الفوسفات. وتحتاج سوريا إلى مواردها لإعادة بناء بنيتها التحتية وضمان الأمن الاقتصادي. وأُسندت مهمة استعادة السيطرة على هذه المنطقة الصحراوية، الغنية بالنفط والغاز، إلى "لواء صقور الصحراء"، وهو جيش خاص يموله رجل الأعمال أيمن جابر المقرب من الرئيس السوري بشار الأسد. فهو يحصل على حصة من إنتاج النفط والغاز من الآبار المحررة.
وفي خريف عام 2016، دُمج "لواء صقور الصحراء" مع "الفيلق الخامس" في الجيش السوري، ولكنه يحتفظ باستقلالية كبيرة ويتقاضى جنوده رواتب مستقلة. وهم أيضاً على خط المواجهة لاستعادة محافظة دير الزور، التي أنتجت ثلثي النفط السوري في عام 2011.
* السُخنة، العقبة الأخيرة:
في مايو 2017، عندما شنت الميليشيات الشيعية العراقية هجوماً على الحدود السورية - العراقية قطعت مسافة 150 كلم في يوم واحد على طريق من دون عوائق، على طول أرض مستوية في منطقة أُخليت من تنظيم "الدولة الإسلامية"، إلا أن الوضع يختلف في دير الزور التي تبعد مسافة 200 كلم عن تدمر. فعند التوجه من تدمر إلى دير الزور تغطي التلال القسم الأول الممتد على مسافة 70 كلم وحتى السخنة، ولا بد للجيش السوري أن يسيطر عليها أولاً قبل استخدامه الطريق الأكثر سهولة للاجتياز.
وفي يونيو 2017، استغرق الجيش السوري ما يقرب من شهر للسيطرة على قرية آراك وهذا دليل على حجم التحدي. وتتركز الجهود حالياً على السخنة وهي واحة ضمت حوالي 20,000 نسمة في عام 2011 وتحصن فيها تنظيم "الدولة الإسلامية" منذ ذلك الحين.
وتشكل السخنة العقبة الأخيرة قبل دير الزور وتقع في وسط شبكة سكك حديدية تمتد عبر "البادية" الوسطى إلى حلب، والرقة، وسلمية، ودير الزور. وبالتالي، من المرجح أن تستمر المعركة لبعض الوقت، وهذا هو سبب تقدم الجيش السوري نحو السخنة من عدة جبهات: تدمر، والرصافة، وسلمية.
وسيسهل الطريق المستوي شمال شرق السخنة تقدم الجيش السوري، ولكن ذلك لا يعني أن قوات النظام ستشن غارة خاطفة. بل على العكس من ذلك، فتمديد خطوط الاتصالات من شأنه أن يعرض للخطر مثل هذا الهجوم إذا لم يتم مسبقاً تطهير الصحراء من عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية".
وإذا هدد تنظيم "داعش" بشن هجوم جديد على حامية دير الزور، يستطيع النظام من جانبه أن يرسل دائماً تعزيزات عبر الطائرات المروحية قبل فتح الطريق البري. وبدلاً من ذلك، قد يختار الجيش السوري تجنب السخنة وبلوغ دير الزور مباشرة من محطة ضخ النفط الثالثة في شرق تدمر.
ولكن يبدو أن تنظيم "الدولة الإسلامية" يدافع بقوة عن هذه المحطة، وذلك لأن الجيش السوري بقي على بعد ما يقرب من عشرة كيلومترات غربها منذ منتصف يونيو، بدلاً من استيلائه على الموقع. وتتسم المحطة بأهمية إستراتيجية كبيرة، بوصفها نقطة لجمع النفط في وادي الفرات ومفترق طرق مؤدية إلى البوكمال، والميادين، ودير الزور.
* هل يمكن التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا في وادي الفرات؟
منذ إبريل 2016، تمركزت "قوات سوريا الديمقراطية" التي تدعمها الولايات المتحدة على بعد 40 كلم تقريباً شمال دير الزور ولكنها لم تحاول الاقتراب قط. وهذا الأمر منطقي في ضوء السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تأتي قوة يهيمن عليها الأكراد لإنقاذ الجيش السوري؟ ولماذا قد تضحي بحياة رجالها لتحرير مدينة عربية بعيدة عن الأراضي الكردية؟ وتماماً كما ينظر السكان العرب المحليون إلى الوضع يمكن اعتبار وصول المقاتلين الأكراد على أنه مجرد تغيير في الأسياد.
ويبدو أن القوة الأكثر ملاءمة لتحرير المحافظة لا بد أن تكون سنية عربية في تركيبتها، وهذا ما يوضح الدعم الأمريكي لـ"جيش أسود الشرقية"، وهي جماعة مقاتلة كانت في الأصل في هذه المنطقة. ومع ذلك سيصد تطويق النظام وحلفائه للتنف في مايو 2017 أي هجمات جديدة تشنها هذه الجماعة في منطقة دير الزور، إلا إذا أخرجت الولايات المتحدة المتمردين جواً من التنف إلى الجنوب من الحسكة، في المنطقة التي تديرها "قوات سوريا الديمقراطية".
ومع ذلك، لا يتعدى عدد أفراد هذه القوات بضع مئات وفرص انتصارها على تنظيم "الدولة الإسلامية" ضئيلة من دون دعم "قوات سوريا الديمقراطية". بالإضافة إلى ذلك، فإن خصومها المحتملين يشملون أيضاً الميليشيات الشيعية العراقية، التي احتلت مواقع إلى جنوب وشرق وشمال مدينة دير الزور وهي مستعدة للهجوم، وبالتالي تكتسب السيطرة على الطريق المؤدية إلى دير الزور.
وإذا نجحت الميليشيات الشيعية في مثل هذا الجهد، ستكون الاشتباكات مع العشائر السنية المحلية التي لا ترغب في رؤية الميليشيات الشيعية تحتل أراضيها مخيفة. وقد توقع الأسد هذه الاحتكاكات إلى حد ما من خلال الحفاظ على الولاء والحوار مع بعض زعماء العشائر. وأتى هذا النهج بثماره في حالة نواف البشير، رئيس اتحاد "البقارة" النافذ، الذي عاد من منفاه في إسطنبول للعيش في دمشق في ناير 2017. وبصفته مؤيداً للنظام في وادي الفرات، يجسد البشير على نحو مثالي نوع الشخصيات المحلية التي يستطيع النظام تخويلها السلطة بعد الحرب.
وبطبيعة الحال، لدى حلفاء واشنطن في الخليج علاقات مع القبائل العربية المحلية أيضاً ويمكن تفعيل هذه العلاقات، رغم أن مثل هذه الجهود قد تستلزم مبالغ كبيرة من المال ودعم عسكري على الأرض.
ومع ذلك، فوفقاً لمقال الكاتب "ديفيد إيغناتيوس" في صحيفة "واشنطن بوست" في 4 يوليو 2017، ربما تكون واشنطن وموسكو قد قسمتا بالفعل وادي الفرات: الرقة للولايات المتحدة ودير الزور لروسيا.
* متسع من الوقت لجيش النظام:
يبدو أن الوضع العسكري الحالي يؤكد وجود هذه الصفقة بين الولايات المتحدة وروسيا، وهي صفقة لا تعجب النظام السوري من دون شك، حيث هو يسعى لاستعادة السيطرة على الضفة الجنوبية لنهر الفرات و"سد الثورة"، والرقة، ما إن تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" على المدينة.
ومع ذلك، إذا أراد النظام إعادة فرض نفسه في محافظة دير الزور سيحتاج إلى الدعم الجوي الروسي، وسيتعين عليه بالتالي الرضوخ لإرادة موسكو. وفي خطوة تظهر استعداد روسيا الواضح لتكون شريكة جدية للولايات المتحدة في سوريا، لم يرد الكرملين بقوة على إسقاط الأمريكيين لطائرة سورية هددت قوات سوريا الديمقراطية قرب الرقة في 18 يونيو.
ومن الممكن أن يستعيد الجيش السوري مدينة دير الزور بالكامل في خريف عام 2017 مع إبعاد تنظيم "الدولة الإسلامية" نحو البوكمال. وتشير الأدلة إلى أن تنظيم "داعش" لن يتمكن من السيطرة على المدينة... ومن جهتهم، فإن الثوار الذين تدعمهم الولايات المتحدة لا يتمتعون بالقوة الكافية لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" والوصول إلى دير الزور، مما يترك المجال أمام قوات النظام لتنفيذ حملتهم.
*أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في "جامعة ليون" الفرنسية
مجلة العصر