يكاد يجمع المراقبون والمحللون للشأن العراقي على مسألتين:
الأولى أن المعركة لاستعادة الموصل ستكون شرسة وصعبة، والثانية أن استعادتها ربما تكون أسهل بكثير من تحقيق الاستقرار في الموصل وفي البلاد بعد ذلك.
يقول قائد القيادة المركزية الأمريكية جوزيف فوتيل، على وفق ما أوردته وكالة رويترز: يجب على الأمريكيين ألا يتوقعوا انسحاباً سريعاً وشاملاً من العراق بعد أن يفقد تنظيم داعش الموصل العراقية والرقة السورية، وإن «الشيء الذي لا نريد أن نفعله هو إعلان الانتصار والرحيل بعد ذلك»، وأضاف أن الجيش الأمريكي قد يطلب مزيداً من القوات الإضافية.
من جانبه، أكد المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية بترايوس في تصريح له يوم 18/ 8/ 2016م على خطورة ما بعد المعركة بقوله: «السيناريو الأسوأ الذي قد يواجهه الرئيس الأمريكي القادم هو أنه قد يضطر لإرسال المزيد من القوات للعراق وربما قد تشارك هذه القوات في معارك فعلية للحيلولة دون حدوث انهيار محتمل للوضع في العراق وعودة الأوضاع فيه إلى حافة هاوية الحرب الأهلية التي شهدها البلد في العام 2006»، وعقب أيضاً بالتأكيد على أن «احتمالية وقوع حرب أهلية سيكون أسوأ سيناريو»، وهذا بلا شك استنتاج وتوقع مهم يفضح النتائج المرجوة من السياسة الأمريكية المطبقة في العراق.
كما أبدت تركيا مخاوف مسبقة من مصير المدينة بعد طرد تنظيم داعش، وقد عبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن هذه المخاوف من سيطرة المليشيات الشيعية عليها، ولذا دعا إلى أن يكون تحرير الموصل بأيدي قوات تربطها صلات إثنية ودينية بالمدينة.
ويقول د. واثق الهاشمي الخبير السياسي المقرب من الحكومة العراقية في تصريح له إن «تحدي تحرير مدينة الموصل ربما يمثل الخطوة الأقل خطورة وصعوبة من مرحلة ما بعد تحرير المدينة».
وقال مصدر في مجلس أمن إقليم كردستان «إذا لم يتم دعم الهجوم على الموصل بتسويات سياسية حقيقية بين السنة والشيعة فإننا نعتقد أنها ستكون مجرد مسألة وقت قبل أن ينفجر (الوضع) مرة أخرى».
وهنا سنحاول أن نحدد أهم الإستراتيجيات التي ستشهدها الموصل بعد إعادة السيطرة عليها، وإخراج تنظيم داعش، منها:
الإستراتيجية الأمريكية:
باختصار تمثل امتداداً عملياً لتعزيز نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، بالتنسيق مع إيران، والحرص على تغذية الشعور بحاجة الإطراف العراقية إلى الحل الفيدرالي.
الإستراتيجية الإيرانية - الشيعية:
والتي ستنفذها مليشيات الحشد الشعبي بترسيخ المشروع الإيراني في المنطقة، وتأمين مناطق في نينوى وأن تكون خاضعة لسيطرتها ضمن مشروعها الإستراتيجي في إنشاء ممر آمن إلى البحر المتوسط، وما له من بعد في النفوذ السياسي والأمني والتجاري، ويبدأ هذا الممر من بعقوبة في محافظة ديالى، وهي أقرب مدينة عراقية للحدود الإيرانية، باتجاه الشرقاط في محافظة صلاح الدين التي سيطرت عليها المليشيات في سبتمبر الماضي، ويمتد باتجاه تلعفر وسنجار التي تسيطر عليها منذ نوفمبر الماضي قوات بي كا كا القادمة من سوريا، ويستمر امتداد الممر من معبر ربيعة بين العراق وسوريا مروراً بالقامشلي وعين العرب (كوباني) وصولاً إلى عفرين، وهي مناطق تسيطر عليها وحدات كردية، التي يعتقد النظام الإيراني أنها في «المكان المناسب»، وليس أمامهم بعد الموصل تحدٍ أخطر من مدينة حلب التي استعرت فيها الحرب بالتحالف مع روسيا.
الإستراتيجية التركية:
تسعى تركيا إلى تأمين مصالحها، وتغذية مشروعها الخاص لاسيما في محافظتي نينوى وكركوك، وأن تبسط نفوذها إلى عمق هاتين المدينتين؛ يقول مدير الأبحاث التركية في معهد واشنطن سونر كغبتاي: إن الخطاب الشديد اللهجة للمسؤولين الأتراك يظهر أنهم في صدد التحضير لمرحلة ما بعد الموصل، ولكن يبدو أن هذه الإستراتيجية قد تعرضت لانتقادات وتصعيدات داخلية وخارجية مع أولى مراحل المعركة، ومنذ أن مدد البرلمان التركي لبقاء القوات التركية في بعشيقة عدها العراق قوات احتلال، وصرحت الخارجية الأمريكية والبنتاغون بوجوب أن تتم كل الجهود العسكرية لتحرير الموصل بالتنسيق والتوافق مع الحكومة العراقية، ما يفسر انحيازاً لبغداد وانحرافاً لموقفها السابق تجاه أنقرة.
وقد عبر محللون أتراك عن امتعاضهم من هذه المواقف وتحذيرهم من إهمال الدور التركي؛ إذ كتب الباحث برهان الدين دوران: «إن الولايات المتحدة التي أرادت في مرحلة أولى أن تشارك تركيا في عملية الموصل تنحاز راهناً للعراق وثانياً لإيران، واستبعاد تركيا من الملف العراقي أو إسناد دور ثانوي لها بضغط من إيران لن يسهم في قيام عراق جديد يسوده السلم».
ويبدو أن هذه الإستراتيجية ستلاقي مواقف حادة من قبل الشيعة الموالين لإيران في العراق لما يرون فيها عرقلة لمشروعهم الإيراني - الشيعي، ولذا نجد أكثر من مرجع ديني شيعي يعلن فتوى قتال القوات التركية الغازية للعراق، معتبرين أن «مقاومة التواجد التركي في العراق عسكرياً، واجب شرعي وأخلاقي واجتماعي»، ومطالبين أيضاً بمقاطعة البضائع التركية والشركات التابعة لها في العراق.
وقد أعقبت هذه الفتاوى تصريحات لقادة في «الحشد الشعبي الشيعي»، قالت فيها: إنها ستضرب القوات التركية. ليتم في اليوم ذاته إدراج موضوع التواجد التركي بالعراق رسمياً على جدول أعمال البرلمان العراقي حيث أقرَ البرلمان أن القوات التركية هي قوات محتلة للأراضي العراقية، وسبق لجامعة الدول العربية أن أصدرت بياناً نددت فيه بما أسمته دخول القوات التركية إلى الأراضي العراقية. وقد أعقب كل هذا زيارة ودية لرئيس الوزراء التركي للعراق تمت فيها مناقشة أوجه التعاون المشترك ووجود قواعد حزب العمال الكردستاني في العراق وتأجيل طرح وجود القوات التركية.
الإستراتيجية الكردية:
لقد صرحت القيادة الكردية عن إستراتيجيتها لما بعد معركة الموصل على لسان المتحدث باسم حكومة الإقليم، سفين دزيي بقوله: «إن البيشمركة ستستمر في تقدمها حتى تحرير كل المناطق الكردستانية في محافظة نينوى»، ثم أضاف: «البيشمركة لن تنسحب من المناطق التي حررتها أو التي ستحررها في المستقبل»، باعتبار أن الهدف النهائي، هو السيطرة على وحدات إدارية إضافية من نينوى، فالبيشمركة اليوم تسيطر على ١٣ وحدة إدارية من أصل ٣١، وترغب في إكمال العدد ١٦ وحدة إدارية، أي بضم 3 وحدات إدارية أخرى.
ويبدو أن المسؤولين الكرد لا يجاملون في إعلان إستراتيجيتهم حتى في أثناء لقاءاتهم الرسمية بحكومة بغداد، فعلى إثر أحد لقاءاته برئيس حكومة كردستان صرح رئيس الوزراء حيدر العبادي في يوم 17/ 8/ 2016م، أن «هناك تفاهماً مع إقليم كردستان، بأنه لا يجب على البيشمركة أن تتحرك من أماكنها في أثناء عملية استعادة الموصل أو أن تتوسع، ويجب أن تبقى في مواقعها الحالية، حتى إذا قامت بمساعدة الجيش العراقي»، فكان تصريح وزارة البيشمركة أنها «ستبقى تدافع عن المناطق التي تمت استعادتها من قبضة داعش والبقاء فيها لحين إبعاد خطر الإرهاب».
إستراتيجية العرب السنة:
بلا شك إن هذه الحلقة هي الأضعف منذ احتلال أمريكا للعراق 2003، ويأتي ضعفها جزئياً من داخلها إذ لم تتفق القوى السنية على مشروع إنقاذ لأهل السنة، ولم تضع خطة إستراتيجية في رسم برنامجها السياسي بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية، ولذا لا نجد لها برنامجاً موحداً أمام أي تحد تواجهه، وما تعلنه بعض قياداتها لا يمثل أكثر من وجهة نظر، لا تجد لها رصيداً على أرض الواقع فيما بعد، وما أعلن عن رؤيتهم بعد استعادة الموصل جاء على لسان المحافظ السابق لنينوى وقائد حرس نينوى السيد أثيل النجيفي في تصريح له جاء أثناء إلقائه كلمة في ملتقى ميري، والذي أقيم في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق برعاية معهد الشرق الأوسط للبحوث السياسية والاقتصادية، إذ يقول: «بعد إتمام السيطرة على مدينة الموصل وتحريرها من تنظيم داعش وإعادة الأمن والاستقرار إليها يجب إنشاء إقليم نينوى ودستورها الخاص بها وذلك تجنباً لعدم تكرار ما حصل فيها».
قراءة تحليلية لهذه الإستراتيجيات:
- إن التصعيد في مسألة ما بعد استعادة مدينة الموصل هو بلا شك مقصود، وله بعدان:
الأول: سلبي، للتحريض وتهيئة الأجواء لصراع طويل الأمد بين مكونات العراق الثلاثة، ينتهي إما بنفوذ قطبين هما الكرد والشيعة كل بأجندته الخارجية، وتهميش متواصل وتبعية ذليلة لأهل السنة في أكبر مدنهم سكانياً في العراق لتحقيق طموح الشيعة وإيران بالهيمنة على العراق، أو اللجوء بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الرضا بالنظام الفيدرالي.
والثاني: إيجابي، له مخاوفه من جرّ البلاد إلى صراع طائفي أو قومي، وقوده أبناء العراق الأبرياء، وما سيعقب استعادة الموصل من محاولات لخلق الفتنة بين الإقليم والحكومة العراقية تصل إلى درجة الصدام المسلح كما صرحت مليشيات كلا الطرفين، وزج بعض المليشيات من الحشد الشعبي الشيعي غير الخاضعة للقائد العام بعد السيطرة على المدينة، من أجل الهيمنة واستخدام القوة والانتقام من السنة بحجة «داعش»، ونشر التشيع، كما حصل فعلاً في المحافظات والمدن الأخرى، كديالى وتكريت وبيجي والرمادي والفلوجة والصقلاوية.
- إن العراق سيبقى دولة ضعيفة، وتريد كل دولة مشاركة في عمليات استعادة الموصل أن يكون لها نفوذ في شمال العراق لتحقيق أجندتها، وهذا يستلزم حرص كل دولة على تجنيد المكونات العراقية ترغيباً وترهيباً.
وهنا قد يتساءل بعضهم: ما هي إستراتيجية حكومة العبادي - المدعومة أمريكياً ودولياً - بعد استعادة الموصل؟ ونقول ليس لهذه الحكومة ولا حتى لمجلس النواب أكثر من تكتيك يحاول من خلاله استرضاء الأطراف كل بحسب قوته ونفوذه، ويتمثل بالإجراءات الآتية: إناطة إدارة المحافظة إلى قائد عسكري مقبول من قبل أهالي الموصل، وإعادة النازحين، ومحاولة إعادة رسم الخريطة الإدارية للمحافظة مع تقديم صلاحيات محدودة للحكومة المحلية، أما ما يتعلق بقضاء تلعفر، فسيكون العمل على جعله محافظة مستقلة.
- سيبقى التأثير والنفوذ الإيراني حاضراً في ظل غياب الإرادة العربية عن المشهد العراقي، وستعمل إيران على الموائمة بين الكرد والشيعة للحفاظ على التحالف الإستراتيجي بينهما زيادة في إقصاء المكون السني، ولذا نجد بعض المحللين الشيعة يطالبون أن يكون لقاء حكومتي المركز والإقليم تحت مظلة القيادة الإيرانية، وأن يترافق الحوار السياسي للحكومة مع أربيل بوساطة من إيران وهي - بزعمهم - محترمة ومحل تقدير لدى قيادة كردستان، حتى لا يقال إن حكومة العبادي تفرض نفسها على أربيل وعلى الشعب الكردي، وهكذا تستخدم كل الوسائل لتعميق وترسيخ النفوذ الإيراني - الشيعي في الساحة العراقية ولاسيما فيما يتعلق بالمحافظات السنية، ومع ذلك من المتوقع أن نشهد تراجعاً في المستقبل القريب في بعض الإنجازات التي حققها المشروع الإيراني في العراق والمنطقة.
- ستشهد الساحة العراقية تصعيداً في العنف الدموي ولاسيما المناطق المتنازع عليها، وستحدث مناورات في إدارة صراع العنف بما يدفع إلى الاستقطاب الطائفي، ولن تكون بغداد وحزامها بمنأى عن ذلك.
وأخيراً على العرب السنة أن يتداركوا ما فاتهم، ويتحملوا مسؤوليتهم الشرعية والوطنية والتاريخية، من خلال بلورة مشروع إنقاذ تكاملي تراكمي حقيقي يديره المخلصون المؤثرون من قادة أهل السنة (المقاومون وعلماء الدين والسياسيون، والنخب المجتمعية) برعاية عربية وإسلامية، ورسم تحالف محلي مع الكرد، وإعادة رسم العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة، بما يصحح المسار الذي انتهجته أمريكا لما بعد احتلال العراق في عام 2003، وإلا فإدارة البوصلة باتجاه روسيا.
فمن لم يكن له مشروع فهو جزء من مشاريع الآخرين، أو يتولى مشروعه أدعياء يفسدون أكثر مما يصلحون.
اللهم احفظ أهلنا في الموصل من كل عدو حاقد أو بعيد ملكته أمرهم.
المصدر|مجلة البيان