لا نعلم هل نقول لقاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وهو يصلي قرب الحدود العراقية السورية وإلى جانبه عدد من عناصر لواء "فاطميون" الأفغاني، "تقبل الله صلاتك" أم "تقبل الله أضحيتك" التي سالت دماؤها أنهارًا من دون أن يلتفت إليها ذو قلب رحيم.
يبدو أننا نرجح الاحتمال الثاني، فالرجل بذل مجهودًا يذكر فلا يشكر عليه في قتل وتشريد وتدمير منازل عشرات آلاف المدنيين في سوريا والعراق، فبفضل "حنكة" ملالي طهران وحماقة حلفاء أمريكا، تمكن الجنرال الإيراني من إعلان رسميًا كسر الحدود العراقية السورية ولكن هذه المرة بمباركة دولية صامتة.
من الملاحظ أن الجنرال سليماني متأثر بالدعاية الإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية ويحسب جيدًا خطواته وتحركاته وتنقلاته أمام الكاميرا، فالرجل الذي ظهر يصلي رفقة عدد من المقاتلين، أراد تذكير المتابعين بما فعله الناطق الرسمي لتنظيم الدولة أبو محمد العدناني في نفس الشهر ولكن قبل 3 سنوات، بإعلانه كسر حدود "سايكس بيكو" وإقامة "دولة الخلافة" وتولية أبي بكر البغدادي خليفة عليها.
لم يختلف السيناريو كثيرًا عن سابقه، لكن من المؤسف ألا نرى اللطميات الدولية على الإعلان الأولي لـ"إمبراطورية فارس الكبرى" مثلما رأيناها سابقًا مع "دولة الخلافة"، خاصة أن هؤلاء النائحين الذين ملأوا الدنيا صراخًا بدعوى الدفاع عن أهل السنة، كانوا ولا يزالون يصدعون رؤوسنا بأنهم الحصن المنيع ضد التمدد والتوغل الإيراني في المنطقة.
يجب علينا الاعتراف بأن الفرس دهاة السياسة في المنطقة دون منازع، ولا يعني اعترافنا هذا بأننا مناصرون لهم ولمشروعهم القومي الاستعماري التخريبي الذي لن يتوقف إلى حين السيطرة على مكة والمدينة وكل الدول العربية، بل هذا دليل على صدق وعودهم وكذب المتشدقين بالدفاع عن أهل السنة في وجه الأطماع الإيرانية، الذين وصل بهم الأمر إلى حصار دولة خليجية ومعاقبتها بدعوى ارتمائها في الأحضان الإيرانية.
إن وصول الجنرال قاسم سليماني إلى الحدود السورية العراقية وإعلان رسميًا ربطها ببعض و"كسر الحدود 2" بنكهة شيعية، أثبت للمراقبين أن مستقبل المنطقة ليس واضحًا ولم يعد يرسم في المكتب البيضاوي مثلما كان يحدث سابقًا، فالولايات المتحدة التي بذلت مجهودًا كبيرًا لإحباط مشروع الحزام الأمني الإيراني الذي يبدأ من العراق ويمر بسوريا ويصل إلى لبنان، وقعت في ورطة جديدة أمام حلفائها المتآمرين على الشعبين السوري والعراقي.
من جهة أخرى، كشفت التحركات المريبة للجنرال قاسم سليماني عن رفض أمريكي لتصفيته، فتنقلات الأخير في سوريا والعراق تحت أعين طائرات "الدرونز" الأمريكية وعدم استهدافه ولو لإرعابه فقط، دلت على أن المشروعين الإيراني والأمريكي يتقاطعان في أكثر من نقطة رغم اختلافهما في طريقة الوصول إلى تحقيق الأهداف والمنافع المرجوة.
يبدو أن سليماني المصنف ضمن القائمة السوداء الأمريكية لا يزال بجعبته الكثير ليقدمه للولايات المتحدة قبل التخلص منه أو تحجيم نفوذه، فقد ساهم الرجل في إخراج تنظيم الدولة من عديد من المدن التي كان يسيطر عليها، بفضل المليشيات التي تدين بالولاء لطهران، كما أنه المهندس الحاذق والمشرف على تطبيق المخطط المرسوم منذ سنوات، لتفتيت المنطقة وإعلان "إيران الكبرى".
الاندماج السوري العراقي في كيان مسلح موحد لقتال الجهاديين والمناوئين للمشروع الإيراني في المنطقة، في مراحله الأخيرة، والهدف القادم بلا شك سيكون لبنان المستعمرة من حزب الله، كل هذا تحت أنظار الدول العربية التي فشلت مجتمعة في هزيمة الحوثيين في اليمن، بل العاجزة أصلاً عن إعادة الأمن إلى المحافظات اليمنية المحررة.
السؤال المطروح اليوم: هل انتهت المعركة بين المليشيات الشيعية وتنظيم الدولة الإسلامية أم أن القتال الحقيقي سيبدأ الآن؟
بلا شك، ضُرب تنظيم الدولة في مقتل في كل من سوريا والعراق، فبعد سقوط أكثر من 90% من الموصل وخسارة غالبية المدن العراقية والسورية، وانطلاق معركة الرقة الفاصلة وتضييق الخناق على مناطق سيطرته في دير الزور، لم يعد للتنظيم ما يخسره خاصة أنه تحرر من التزامات "الدولة" و"الرعية" ومسك الأرض، لذلك سيعود في العراق إلى استخدام الصحراء كقاعدة لانطلاق عملياته داخل العمق العراقي لمزيد من الإثخان في القوات العراقية المرهقة من طول أمد الحرب، تمهيدًا لإعادة السيطرة على المدن التي خسرها، محققًا بذلك نصرًا معنويًا على خصومه.
بدورها ستشهد الساحة السورية ضراوة في القتال وصمودًا من مقاتلي التنظيم، فمن جهة، تقول تقارير إعلامية إن قياداته العسكرية قد تعلن في قادم الأيام انطلاق معركة كبيرة بهدف السيطرة على مركز محافظة دير الزور وتعزيز خطوط الدفاع حولها، تمهيدًا لاتخاذها عاصمة بديلة عن مدينة الرقة المنكوبة، ومن جهة أخرى، يظهر أن معركة الرقة قد تقلب معادلة الصراع وتعيد خلط عدد من الأوراق وحرق البعض الآخر، نتيجة لبداياتها الوعرة ومفاجآتها غير المنتظرة كما يؤكد مراقبون.
المستقبل يخفي عديد من المفاجآت للمنطقة، ولا أحد قادر اليوم على تقديم قراءة صحيحة نتيجة تداخل الأدوار وتسارع الأحداث وخروجها عن السيطرة، لكن من المؤكد أن لتنظيم الدولة وقاسم سليماني قراءتهما الخاصة بعيدًا عن استعراض العضلات أمام الكاميرات وفي القمم العربية والإسلامية الداعية لمحاربة الإرهاب والتمدد الإيراني في المنطقة.
نون بوست