كان تنظيم القاعدة هو المستهدف بمسلسل "الحور العين" للمخرج نجدة أنزور في العام 2005، وربما "ما ملكت أيمانكم" لذات المخرج في 2010، فيما يركز المسلسل الجديد "غرابيب سود" على تنظيم الدولة أو "داعش" كما يطلق عليه في الإعلام، وجميعها تم بثها على ذات المحطة.
من العبث أن يتم تصنيف هذه السطور بوصفها دفاعا عن التنظيم المذكور، ذلك أن خلافنا معه يتجاوز السياسي إلى الفكري، وكتبنا في ذلك مرارا وتكرارا، مع العلم أن خلافه كان مع الغالبية الساحقة من العلماء، وحتى مع تياره الفكري (السلفية الجهادية)، بما في ذلك تنظيم القاعدة نفسه، والذي كان التنظيم بايعه وعمل تحت رايته منذ أيام الزرقاوي.
"غرابيب سود" مسلسل ينطوي على سقوط مريع في المعالجة الفكرية والسياسية، وينطوي على إساءة بالغة لغالبية المسلمين (السنّة بتعبير ضروري هنا)، وللنساء منهم على وجه التحديد.
يبدأ السقوط في المسلسل بإقامة بنيانه على كذبة رخيصة روّجت لها فضائية تمولها إيران، وعنوانها “جهاد النكاح”، ونُسبت في البداية زورا إلى داعية معروف، ثم جرى تعويمها، ثم ترديدها مرارا وتكرارا، وصولا إلى جعلها حقيقة عند من استهوتهم، فيما لم يصدقها أبدا أي مسلم عاقل، لأن أصلا لها لا يتوافر أبدا حتى ولو من باب الفتاوى الشاذة.
المصيبة أن المسلسل لا يقدم النساء المقبلات على “جهاد النكاح” بوصفهن “رساليات” يستندن إلى فتاوى مشايخ التنظيم، ويردن منح المتعة لـ”المجاهدين”، كي يستعينوا على ذلك في جهادهم!! كما في أصل الكذبة الرخيصة، بل بوصفهن باحثات عن الجنس، وسعيدات بفكرة أن تعاشر الواحدة عدة أزواج تباعا، بدل زوج واحد.
ليس هذا فحسب، فكل شيء في السياق ينطوي على تفسيرات رخيصة وشاذة؛ الهدف منها إدانة التدين، بل الدين من حيث أتى بوصفه منتجا للعنف، لكأن هذا الذي يجري ليس له أي سياق سياسي على الإطلاق، أو لكأنه نبت شيطاني خرج هكذا فجأة من بطون الكتب، ليداهم الحضارة والعدل والرفاه الذي كان يشيعه بشار الأسد في سوريا، أو أشاعه أتباع خامنئي في العراق بعد الاحتلال.
طبعا، لا وجود هنا للسياق الآخر.. أعني لأولئك الذين جرى تجميعهم من أصقاع الأرض بشعارات طائفية (ميليشيات سليماني أعني)، ولا يتورع “بطل صنديد” من أبطالهم (أبو عزرائيل) عن حرق الجثث وتصوير المشاهد كي يستمتع بها الجميع!! لم يسأل هذا المسلسل ولا سواه عن دوافع هؤلاء، ولماذا جاؤوا إلى سوريا كي يقاتلوا شعبا خرج يطلب الحرية والكرامة، ولماذا وقف “وليهم الفقيه” ضده، وهو يُقتل شهورا في الشوارع دون رصاصة واحدة، ومن دون أن يكون هناك “داعش” ولا نصرة ولا سواهما؟!!
إنها معالجة رخيصة ومبتذلة، بل وبالغة الفجاجة لظاهرة معقدة ومركبة، لا تحضر الأفكار فيها إلا حضور الدافع، فيما أصلها سياسي بامتياز، وإلا؛ ألم يكن هذا العنف كله برسم الاختفاء حين اندلع ربيع العرب بخياره السلمي، فكان أن أعادته بقوة إلى الواقع طائفية المالكي، ودموية بشار، ثم جنون الحوثي. وإذا تنطح أحدهم ليسأل عن وجوده في مناطق أخرى، فهو يعكس جهله، وربما تجاهله للسياق السياسي والمنطقي للسياسة، ممثلا في أن الصعود القوي لتيار فكري وسياسي في منطقة ما سيرتب صعوده في عموم المنطقة، وسيحوّله إلى حالة جاذبة.
محاربة العنف والتطرف فنيا لا تكون بصناعة الكذب الرخيص، بل بالمعالجة التي تفند الطروحات الفكرية والسياسية، وبكشف الأسباب الحقيقية التي أدت إلى وجوده، والعمل على إنهائها، لكنهم لم يكونوا ممن طلبوا الحق فأخطأوه، بل ممن طلبوا الباطل فأدركوه.
المصدر | الدستور الأردنية