لنعترف بأن إيران خلال حكم باراك أوباما، عاشت ثماني سنوات سمان، وأن أغلب العالم العربي مر بثماني سنوات عجاف. ولنعترف أيضا بأن انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة كان له تأثير الانهيار الثلجي على الإعلام الأميركي، حيث لم تبق أي صفة سلبية لم يلصقها هذا الإعلام بترمب، لكن بالنسبة إلى إيران كان ترمب المرشح، هو ما تعتقد أنها تتمناه، فهو ركز على «أميركا أولا» وشن هجمات على كثير من الدول بينها الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، ودول الخليج، والصين، واليابان وطبعاً وصف الاتفاق النووي مع إيران بالأسوأ. فجعت إيران بالتحول الذي أصاب ترمب عندما أصبح رئيساً، فهي وضعت استراتيجيتها على خطبه النارية أثناء الحملة. كانت إيران نجحت خلال زمن أوباما، بتصوير كل مقاومة للنظام السوري على أنها إرهاب، ونجحت في تصوير الإرهاب كله على أنه سنّي ووهابي.
من مصادر إيرانية موثوقة، فإن استراتيجية إيران حسب المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، كانت بتصويره أن العدو الأول والأخطر للشعب الإيراني هو السعودية. وبالتالي سينتظر المرشد الأعلى حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام، فإذا لم ترفع الولايات المتحدة العقوبات عن إيران خصوصاً تلك المتعلقة بالمصارف، فلن يكون أمام المرشد إلا إعطاء الأمر بإشعال الوضع في الخليج. حساباته كانت قائمة على أساس أن ما من دولة ستقف مع دول الخليج، وأنه إذا هددت أميركا بالتدخل عندها ستقول روسيا إنها ستتدخل هي الأخرى. الخطة الإيرانية بدأ العمل عليها منذ التوقيع على الاتفاق النووي، وتبريرها أن القيادة توقفت عن العمل باستراتيجية الخميني وهي تصدير الثورة، بل العمل باستراتيجية خامنئي بأن إيران ستحمي الشيعة وتتمدد نحوهم في أي بلاد وجدوا فيها. تتضمن الخطة تفاصيل أكثر، لكن في نهايتها رأت إيران أنها ستطالب بنزع أسلحة دول الخليج! ثم كان ترمب، وكان فوزه وعاد الجمهوريون يدقون أبواب إيران الإرهابية، ثم جاءت زيارة الرئيس الأميركي إلى السعودية فقزمت مسرحية فوز روحاني بأغلبية ساحقة، لا بل كشفت عن اللافروقات في القيادة الإيرانية، وكان التوقيع على شراكة، استعاد البلدان السعودية والولايات المتحدة الشراكة الكاملة التي أطلقها الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت. رد فعل روحاني الفوري كان في تصريح لوكالة «رويترز» بمثابة تهديد: «وهل يكون أمن في الخليج من دون إيران! وقال إن زيارة ترمب لا معنى لها، مجرد استعراض». أما أمين سر مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي فقال: «يجب أن نأخذ التحالف السعودي مع ترمب على محمل الجد، السعودية تريد أن تأخذ مكان صدام».
انتهت الحرب العراقية - الإيرانية عندما قال الخميني «إنه أجبر على تجرع السم». أما علي شمخاني مسؤول الأمن القومي الإيراني فأسرع إلى موسكو، ودعا من هناك إلى اجتماع لمسؤولي الأمن في الدول «الحليفة» لسوريا.
ما جرى في السعودية أثبت قدرة المملكة على جمع ملياري مسلم تحت جناحيها وتحمل مسؤوليتهم. وهي كانت مصرة على عدم الانصياع للمناورات الإيرانية، فلو نجح محمد جواد ظريف وزير الخارجية بزيارة السعودية بعد توقيع الاتفاق النووي، لكان لعب هو دور الورقة الإيرانية التي نجحت مع الغرب وسيطرت على المنطقة. من هنا أراد روحاني الفائز بأغلبية للمرة الثانية، أن يتسلح بهذه الأغلبية فيقول للغرب، إن إيران تريد الانفتاح، ويصدر «أوامره» إلى الدول العربية ويحاول دك إسفين بين دول الخليج بقوله إثر انتهاء زيارة ترمب إن «سياسة دولة الكويت وسلطنة عُمان تجاه إيران سياسة جيدة جداً، ونطلب من باقي الدول العربية أن تنتهج السياسة نفسها».
هذا الروحاني، الذي يصوره الإعلام الغربي وعلى الأخص الأميركي بأنه إصلاحي ومعتدل ويريد الانفتاح قال في مشهد، قبل يوم واحد من الاقتراع: منذ انتصار الثورة وأنا إلى جانب الحرس الثوري وقوات الباسيج فهل تظنون أن لي مشكلة مع الحرس الثوري «العزيز» والباسيج «الأعزاء». أميركا وضعت الحرس الثوري على قائمة المنظمات الإرهابية. وبعد انتهاء زيارة ترمب قال إن إيران هي من تواجه الإرهاب التكفيري. لم يقل روحاني - ملاحظة حتى الآن لم يصدر أي تعليق عن المرشد الأعلى، الاعتماد هو على قوة إقناع روحاني للغرب - لم يقل روحاني إن إيران أنشأت «حزب الله» في لبنان منذ أوائل الثمانينات وتعتبره خط الدفاع الأول، وهو أثبت لها ذلك في كل المعارك في سوريا بالذات، وإن كان تمدد حتى تدريب الميليشيات الشيعية في العراق، ووصل إلى اليمن. كان شعار الدولة الإسلامية المزعومة: «داعش»، قائمة وتتمدد، ويبدو أن «حزب الله» يريد لنفسه هذا الشعار! أيضا حاولت إيران تطبيق نموذج «حزب الله» في العراق وتحاول تطبيق هذا النموذج في سوريا منذ عام 2011 من خلال إنشائها الدفاع الوطني الموالي للنظام، وأيضا رعايتها وتسليحها وتمويلها للحوثيين في اليمن. قبل زيارة ترمب إلى السعودية جرى تطور عسكري مثير، إذ اتخذت واشنطن قرار تسليح وحدات حماية الشعب الكردية السورية، هذا القرار أصاب عصفورين بحجر واحد، إذ به أجبرت واشنطن إيران على التخلي عن خطتها لإمداد ممر حتى البحر الأبيض المتوسط من خلال المناطق الكردية على طول الحدود السورية - التركية. وكانت إيران اتخذت قراراً استراتيجياً بتحويل الجزء السوري من الممر الذي يفترض أن يربط طهران باللاذقية على طول 225 كلم، بتحويله جنوباً لتجنب مراكز وجود القوات الأميركية. واتخذ قرار تحويل الممر قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» وهادي العامري أحد قادة «الحشد الشعبي» العراقي. يبدأ الممر من إيران ويتجه شمال غربي عبر المناطق التي تسيطر عليها الأحزاب الكردية الموالية لطهران، على أن يمر جزء طهران - اللاذقية في المناطق الكردية السورية القامشلي وكوباني.
وتحقيقاً لهذه الغاية بدأت إيران في بناء خط سكة حديد من طهران إلى سنندج عاصمة الإقليم الكردي الإيراني المتاخم للعراق. وكان الرئيس روحاني زار سنندج في شهر مارس (آذار) الماضي، حيث وصف السكك الحديدية بأهم مشاريع البنية التحتية، موضحاً بصراحة: «إنه بإطالة سكة الحديد من سنندج إلى المنطقة الكردية في العراق، سنربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط عبر سوريا».
هذا الممر، إذا أنشئ يمثل هدفاً استراتيجياً حيوياً لإيران، ويعتبر المتشددون أن هذا الممر ضرورة جوهرية لتفوق إيران. وكان السياسي العراقي الراحل أحمد الجلبي نقل عام 2014 عن قاسم سليماني قوله: «إذا فقدنا سوريا فقدنا طهران، لذلك سنحول كل هذه الفوضى إلى فرصة لنا». من هنا، تركيز إيران على الميليشيات الشيعية التي تقاتل في العراق وسوريا وهذه تتم تعبئتها بآيديولوجيا شيعية ثورية تغرس الولاء المطلق للمرشد الأعلى علي خامنئي، واعتبار سليماني القائد العسكري الذي «أرهب» الشرق الأوسط! وكان هادي العامري قال قبل عامين إن «خامنئي هو الزعيم الأول ليس فقط للإيرانيين بل للأمة الإسلامية».
الآن بعد التدخل الأميركي وتسليح الأكراد السوريين، أصبح الممر الذي سعت إيران إلى شقه لربطها بالبحر الأبيض المتوسط يعتمد على نجاح ميليشياتها في السيطرة على الأراضي التي يحتلها «داعش» في «تلعفر» في العراق، ودير الزور شرق سوريا، وهنا الدور الأميركي.
لم تنس أميركا ترمب خلال الحملة أو بعدما أصبح رئيساً برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية. قال روحاني: صواريخنا من أجل السلام ولمنع الآخرين من إساءة الحساب! لكن قبل أسبوعين كشفت التقارير الأمنية أن طهران حاولت إطلاق صاروخ كروز من غواصة صغيرة، وقالت إن الغواصة اعتمدت تصميم إحدى سفن كوريا الشمالية التي استعملت لإغراق سفينة حربية تابعة لكوريا الجنوبية عام 2010. وقال مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية إن إيران حاولت إطلاق صاروخ تحت الماء للمرة الأولى لكنها فشلت. كما حذر خبراء دفاع من أن إيران وكوريا الشمالية تتبادلان الخبرات العسكرية، وأن أحدث صواريخ إيران الباليستية تقوم على تصاميم كوريا الشمالية، وأن صاروخ «تايبودنغ» الكوري الشمالي يبدو متطابقاً تماماً مع صاروخ «شهاب» الإيراني.
هذه هي إيران المعتدلة، وقد بدأ ثوب الحمل يسقط عنها.
نقلا عن الشرق الأوسط