نُشر هذا المقال في 5/9/2011م على موقع "الحوار المتمدن"، ونظرا لما يحتويه المقال من معلومات وإحصائيات تكشف المستور الآن وجدنا أن نعرضه على القارئ الواعي ليدرك حجم الكارثة التي أحدثها الاحتلال الأمريكي الإيراني للعراق.
قد نختلف في بعض الألفاظ التي احتواها المقال ولكننا للأمانة الصحفية لا نستطيع أن نحذف حرفا واحدا من المقال (إيران بوست).
العراق المحتل، صاحب رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، لا يزال أشبه بمزرعة مليئة بالذهب مشرّعة الأبواب ليسرق الجميع منها. هنا جردة ببعض الأرقام الرسمية عن حجم السرقة والفساد في النفط، اللذين يشترك فيهما الجميع تقريباً: الأطراف العراقية الموجودة داخل «العملية السياسية» وعواصم الاحتلال سرقت ولا تزال تسرق ثروات الشعب يداً بيد منذ غزو عام 2003
لم تعد أطماع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في النفط العراقي التي دفعتهما إلى شنِّ حرب احتلال العراق سرية أو محض شائعات يروجها المؤمنون بعقلية "المؤامرة" فقد نُشِرَ الكثيرُ من الوثائق التي تؤكدها وتبين تفاصيلها. إنّ مجموعة الوثائق التي كشفتها "ذي أندبيندنت" مثلا، بينت أنّ وزيرة الدولة لشؤون الشرق الأوسط إليزابيث سيمونز اجتمعت بمسؤولين في "بريتيش بتروليوم" كبرى شركات النفط البريطانية قبل خمسة أشهر من الغزو، وقالت لهم إنّ حكومتها تعتقد أنّ شركات الطاقة البريطانية ينبغي أنْ تأخذ حصة من نفط العراق الهائلة واحتياطياته من الغاز كمكافأة على مشاركة توني بلير الولايات المتحدة في تلك الحرب.
وتكشف الوثائق أيضا، أن سيمونز اتفقت مع الشركات النفطية البريطانية على "الضغط" على إدارة الرئيس جورج بوش لكي تحصل شركة "بريتيش بتروليوم" العملاقة على حصتها من النفط العراقي، بسبب مخاوفها من أنْ توزِّع واشنطن نفط العراق على شركات أمريكية. وهناك الوفير من الوثائق المشابهة فيما يخص أطماع ومخططات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وشركاتها العملاقة.
على الأرض، تقول الأرقام أن إيرادات العراق المحتل من مبيعات النفط خلال سنوات الاحتلال الثماني تفوق إيراداته طوال ثمانين عاما. هذه الخلاصة التي أدلى بها وزير النفط العراقي الأسبق عصام الجلبي ليست كلاما في الهواء كما يقال، يمكن تصنيفه ضمن الهجاء والتحريض السياسي من أنصار نظام الحكم الشمولي الذي أطاحته حرب الاحتلال، بل هي موثقة بالأرقام والإحصائيات الرسمية. وزير النفط الحالي في حكومة المحاصصة الطائفية عبد الكريم لعيبي أعلن في مؤتمر صحفي في 20 من آذار من العام الجاري أنّ الإيرادات النفطية المتحققة منذ بدء الاحتلال في نيسان 2003 ولغاية آذار 2011 بلغت 289 مليار دولار، علما بأن الأرصدة النفطية المجمدة من عهد النظام الشمولي السابق لم تحتسب ضمن هذا المجموع. وبالعودة إلى الإحصائيات الرسمية لمنظمة "أوبك" نعلم أن إجمالي الإيرادات النفطية منذ سنة 1970 ولغاية سنة الاحتلال بلغت 262 مليار دولار. و بتخمين تقريبي أجراه متخصصون لإيرادات السنوات الواقعة بين 1938 وهي سنة اكتشاف النفط بكميات تجارية حين كان البريطانيون يدفعون للعراق بضعة شلنات "أجزاء من الجنيه الاسترليني" لقاء برميل النفط الخام، وحتى بداية السبعينات، وبإضافة المبلغ المخمَّن إلى المجموع السابق نجد أنّ مجموع الإيرادات منذ سنة 1938 وحتى سنة 2003 هو 270 مليار دولار أي أقل من إجمالي إيرادات سنوات الاحتلال الثماني بتسعة عشر مليار دولار.
بعد احتلال العراق سنة 2003 أصبحت عمليات النهب والسرقة والتدمير علنا ودون قيود. من المعلوم مثلا أنّ القوات الغازية دمرت جميع مرافق الدولة العراقية وأحرقت أو دمرت كليا أو جزئيا جميع الوزارات باستثناء مقر وزارة النفط فقد كُلِّفَت قوة متخصصة من "المارينز" بحمايتها ومنع اقتراب أي عراقي – مسؤولا كان أو مواطنا عاديا منها- حتى استحقت أنْ يُطلِق عليها الإعلام المحلي "قدس الأقداس". كما استغلت سلطات الاحتلال في عهد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر آنذاك، قضية عدم وجود عدادات على منافذ تصدير النفط في موانئ الجنوب خصوصا لحساب الكميات المصدرة من النفط الخام، دون أن يكلف أحد من المسؤولين العراقيين نفسه ويسأل إنْ كان انتزاع العدادات من المنافذ قد تم بعد الاحتلال أم أنها كانت أصلا بدونها. في هذا السياق يرى بعض الخبراء أن سرقة النفط العراقي لم تكن تتم عن طريق منافذ التصدير عديمة العدادات بشكل رئيسي، صحيح أنهم لا ينكرون لها دورا ولكنهم يركزون على أنّ السرقات الأكبر والأكثر خطورة إنما كانت تتم عن طريق ثلاثة وسائل هي: التلاعب في حسابات التصدير المدارة آنذاك من طرف الموظفين الأميركيين أنفسهم، بشكل مباشر وتحت إشراف سلطات الاحتلال المدنية والعسكرية. وثانيا من خلال الأسعار العالية جدا و المضاعفة عدة مرات التي كانت تحتسبها الشركات الأميركية لتصليح و تأهيل المنشآت النفطية العراقية والتي لم يتم تأهيل أو إصلاح أيٍّ منها في نهاية المطاف. وثالثا من خلال وضع أسعار خيالية ومضاعفة للمشتقات النفطية التي كان يستوردها المحتلون من الكويت ويحسمونها من واردات النفط العراقي.
إنّ بحر الأموال العراقية النفطية التي سرقت لا ضفاف له كما سيتضح، ويمكن للشذرات التي تسربت من ملفات التحقيق أنّ تعطينا فكرة عن ضخامة المسروقات النفطية: في حادثة واحدة، اعترفت بها السلطات الأميركية، يظهر تقرير رسمي لمسؤول أمريكي منخرط في التحقيقات الخاصة ( أن حوالي 7 مليارات دولار من أموال النفط العراقي المخصصة لإعادة إعمار البلاد قد نُهبت) واللافت أن واشنطن تعلل عدم فعالية جهودها في البحث عن هذه الأموال بـ ( تردد عراقي واضح في التعاون مع لجنة التحقيق) والتفسير الممكن لهذا "التردد العراقي الواضح" لا يمكن تفسيره إلا بوجود أطراف عراقية متورطة مع الجانب الأميركي في تقاسم حاصل هذه السرقة التي يعتبرها المفتش الأميركي العام لبرنامج إعمار العراق، ستيوارت بوين ( واحدة من أكبر الجرائم المالية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية ! ) أما صغار اللصوص من مقاولين أميركيين وسياسيين رفيعي المستوى، فقد ذكرت تقارير أميركية إنهم متهمون ( بالاستيلاء على عشرات الملايين عن طريق العمولات والكسب غير المشروع خلال أيام الفوضى الأولى عقب الغزو الأمريكي للعراق، إلا أنهم ادعوا أنّ المسؤولين في العراق آنذاك كان لهم النصيب الأكبر في الاستيلاء على هذه المبالغ )
إن جبل الفساد الخاص بالحكومات العراقية التي شكلت بعد الغزو لم تبرز منه سوى قمته حتى الآن، ومن المتوقع أن يتم الكشف عن حقائق لا تقل هولا وغرابة عن تلك التي اكتشفت والمتعلقة بإيرادات النفط المجمدة أو التي سلمتها سلطات الاحتلال لتلك الحكومات.
لا يُعرف على وجه التدقيق كيف تصرفت الحكومات العراقية المتعاقبة بإيرادات النفط الخام في الوقت الحاضر، وما مدى قدرتها وحريتها في التصرف بتلك الأموال التي تودع في بنك أميركي هو "بنك نيويورك الاتحادي". فمنذ هزيمة نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وفرض الحصار الدولي على العراق إثرها وحتى اليوم، أجبرت الاتفاقياتُ الإجرائية التفصيلية لقرارات الأمم المتحدة العراقَ على أن يودع إيراداته النفطية في حساب خاص يدعى "صندوق التنمية العراقي" في البنك الأميركي سالف الذكر. هذا يعني أنّ العراق لا سيادة حقيقية ومباشرة له على هذه الأموال لكونه تحت طائلة البند السابع. ويعني أيضا أنّ تلك الأموال ستفقد الحصانة القانونية وتصبح عرضة للمصادرة والنهب من جانب الأطراف الدولية ومن بينها إيران والكويت المطالِبتان بتعويضات ضخمة عن حروب نظام صدام ضدهما بمجرد إصدار قرار أمريكي بهذا الصدد تنفيذا لإخراج العراق من طائلة ذلك البند. أما حين تخرج الأموال من البنك الأمريكي المذكور وتدخل في حسابات الحكومة العراقية فإنّ أفواه وحوش الفساد المتغول في مؤسسات حكم المحاصصة ستكون بانتظارها وهذا مبحث آخر له سياقاته الخاصة.
خارج إطار التصدير الحكومي الرسمي للنفط الخام، سواء كان بعدادات أو بدونها، كشف الإعلام ومنظمات المجتمع المدني النقابَ عن مسارب أخرى غير رسمية لعل أكثرها فعالية وشهرة ذلك الذي تعتمده جهات كردية لتهريب النفط الخام من الإقليم الشمالي نحو إيران. إنّ شركة "سومو" العراقية هي الجهة الرسمية المخولة بتصدير النفط ومشتقاته إنْ وجدت، ولكن جهات حزبية ومليشياوية و مافياوية كردية تهرب نفطا خاما مستخرجا من آبار في الإقليم تصل قيمته إلى 264 مليون دولار شهريا. أما الواقعة التي أثارت ردود أفعال قوية في الشارع العراقي فتمثلت في الكشف عن قيام تلك الجهات الكردية بتهريب مشتقات نفطية مستوردة من طرف الحكومة الاتحادية وموزعة بأسعار مخفضة كحصة استهلاكية لإقليم كردستان العراق إلى إيران والاستيلاء على عائداتها المالية. وقد تصاعد التوتر بين بغداد والسلطات المحلية الكردية في العام الماضي بعد أنْ بلغت عمليات التهريب حد جعل قوافل الحاويات والسيارات الحوضية التي تقوم بالتهريب تمتد لمسافة عدة كيلومترات في الطريق الدولي الرابط بين إيران وشمال العراق. حينها، ولامتصاص الغضب الشعبي كما يبدو، وجهت حكومة المالكي مذكرات احتجاج ومطالبات بتفسير ما يحدث إلى حكومة أربيل المحلية، وقال الناطق الرسمي باسم وزارة النفط عاصم جهاد لـصحيفة "الحياة" اللندنية في 27 تموز 2010 بأن وزارته أرسلت فعلا مذكرات احتجاج واستفسارات إلى حكومة أربيل وتنتظر إجابات على تلك التفسيرات، ويبدو أنها ستنتظر ذلك طويلا!
في جنوب العراق اتخذت عمليات تهريب النفط طابعا لا يقل خطورة وتحديا وساهمت فيها الأحزاب والمليشيات والجماعات المسلحة الشيعية. هنا، تمت السيطرة على بعض الموانئ الصغيرة كما حدث مع ميناء "أبو فلوس" في البصرة وبدأ تهريب كميات من النفط الخام واستمر الحال على ما هو عليه حتى شنت الحكومة المالكي عملية "صولة الفرسان" في 25 آذار / مارس 2008 التي حدّت كثيرا من تلك الظاهرة ولكنها لم تقض عليها قضاء مبرما!
يجري كل هذا التدمير الخارجي والذاتي وسط ظروف أمنية وإنتاجية بالغة الصعوبة، فالبنية التحتية لاستخراج وتكرير وتصدير النفط العراقي صارت بالية وأقرب إلى "الخردة" والحطام. على سبيل المثال، فإن أكبر مصافي البلاد وهو مصفاة "الدورة" في ضواحي بغداد كان قد انشأ في العهد الملكي وتحديدا سنة 1953 وبطاقة إنتاجية تصل إلى 110 ألف برميل يوميا، ورغم أنه تحول إلى الحطام ودمر الطيران الأميركي أجزاء واسعة منه خلال الحرب، ولكن النظام السابق أجرى عليه عملية ترميم واسعة، ثم أدخلت عليه الحكومات العراقية في عهد الاحتلال تطويرات داخلية تمثلت في إضافة وحدات مستقلة للتكرير داخله وخارجه صعدت بالإنتاج إلى 215 ألف برميل يوميا وهي كمية متواضعة وبائسة إذا ما قورنت بمصافي الدول المجاورة كالكويت وإيران رغم أنها كلفت من الأموال – كما يقول متخصصون - ما يكفي لبناء أكثر من مصفاة بحجم مصفاة الدورة وإنتاجيتها.