منذ قيام الجمهورية الإيرانية عام 1979 وهي تخوض حروباً إعلامية وهمية أولاً، وتخوض حروباً فعلية دموية ثانياً، أما الحروب الإعلامية الوهمية فهي موجهة ضد أمريكا التي تصفها بالشيطان الأكبر، وموجهة إلى الكيان الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين، وهي تهدد بإزالته من الوجود والقضاء عليه كلياً، ولكنها وخلال سبعة وثلاثين عاماً لم تطلق عليه صاروخاً واحداً باسم الجمهورية الإيرانية، ولم ترسل لمحاربة الدولة الإسرائيلية كتيبة إيرانية واحدة، سواء من الجيش الإيراني أو من الحرس الثوري، أو من فيلق القدس، الذي شُكل بهدف إعادة القدس، منذ عقود أيضاً، والدليل على أنها وهمية أن أمريكا لم تقم بأي ردة فعل على تهديدات الحرس الثوري بإغلاق مضايق الخليج العربي على السفن الأمريكية، بل لم تكترث أمريكا بتهديدات إيرانية بقصف المدن الأمريكية بصواريخ إيرانية؛ لأنها على يقين بأنها حرب إعلامية وهمية مخادعة للشعب الإيراني فقط.
أما حربها الثانية الفعلية، وهي الحرب القاتلة الدموية، فقد خصت بها الجمهوريةُ الإيرانية الدول العربية والأمة الإسلامية وشعوبها، فمنذ أن وصل نظام الملالي إلى السلطة السياسية في إيران عام 1979، وهي تخوض حروباً دموية على شعوب الأمة الإسلامية دون توقف، وقد بدأت بالشعب الإيراني المعارض لنظام الملالي، لا المؤيدين للنظام الإيراني السابق فقط، فقتلت منه مئات الألوف في الأشهر الأولى للثورة؛ لأنهم عارضوا النظام الجديد، ولإرهاب باقي الشعب الإيراني، وقد كان تشكيل الحرس الثوري من أوائل الأعمال التي قامت بها القيادة المذهبية الطائفية بزعامة الخميني لتولي شؤون الدولة الأمنية داخلياً وخارجياً، في حين أنيط بالجيش الإيراني والأجهزة الأمنية الشرطية الأخرى الأمور الحدودية والمدنية العادية، لتشبيه الجمهورية الإيرانية الثورية بالدول الأخرى شكلياً، وإلا فالحكم الحقيقي والسلطة الفعلية هي لقيادة الحرس الثوري الإيراني المرتبط مباشرة بالمرشد الأعلى للثورة؛ خميني، وخامنئي من بعده، فأجهزة الاستخبارات الإيرانية الأمنية مرتبطة بالحرس الثوري وتابعة لها.
هذه الازدواجية في نظام السلطة الإيرانية أصبحت ظاهرة للمتابعين، وظنت القيادة الطائفية للحرس الثوري الإيراني أنها بذلك تحمي البلاد من أعداء الداخل والخارج، بل وذهب بها الغرور إلى تنفيذ أوامر المرشد الأول بتصدير الثورة الشيعية إلى دول الجوار، فكان ذلك سبباً لقيام الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، واستمرت ثماني سنوات، أهلكت أكثر من مليون مسلم عراقي وإيراني، ودمرت اقتصاد البلدين.
ومع ذلك؛ لم توقف نهاية الحرب العراقية الإيرانية أطماع الحرس الثوري الإيراني في الأمة الإسلامية، بل استمر بحياكة المؤامرات على باقي الدول الخليجية والعربية والإسلامية، فلم ينجُ بلد عربي أو إسلامي أقام علاقات دبلوماسية مع الجمهورية الإيرانية الرسمية من سعي كتائب الحرس الثوري الإيراني السرية لزرع خلاياها فيها، وهو ما أفسد العلاقات الإيرانية مع معظم الدول العربية والإسلامية، وهذا بسبب ازدواجية السلطة في إيران، فالحكومة الإيرانية الرسمية تمارس اللغة الدبلوماسية مع الخارج، في حين يمارس الحرس الثوري الإيراني لغة التغلغل والتمدد داخل الدول العربية والإسلامية، وكان لبنان من أوائل الدول العربية التي أوجد فيها الإيرانيون نفوذاً لهم فيها، وكذلك في سوريا، بحكم حاجة حافظ الأسد إلى من يسند حكمه الطائفي في سوريا.
وجاء الاحتلال الأمريكي للعراق بتحريض من المخابرات الإيرانية والحرس الثوري وتوابعهما العراقية، ومشاركتهما في تحضير المعارضة العراقية سياسياً، وتدريبها عسكرياً في معسكرات داخل إيران، ثمرة من ثمار التعاون الإيراني الأمريكي لاحتلال العراق عام 2003، بعد نجاح تعاونهما العسكري باحتلال أفغانستان عام 2001، ومن ذلك التاريخ والعراق يغرق في الحرب والدماء والفشل والدمار، فلم يكن هدف أمريكا وإيران إلا الفوضى المدمرة (الخلاقة)، التي تدمر العراق، كما اعترفت بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس، وليس بناء العراق الحر والديمقراطي.
فأمريكا تعلم أن دخول الإيرانيين إلى العراق سوف يفتح أبواب الانتقام الطائفي ثماني سنوات من الحرب الأخيرة بينهما، وانتهزت إيران الاحتجاجات الشعبية في الدول العربية وردود أفعالها المحلية والدولية ضد الربيع العربي للتغلغل في البلاد العربية والإسلامية، بحجة حماية محور المقاومة المزعوم، بحسب زعم سعيد جليلي رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني السابق، فتدخلت إيران وحرسها الثوري في سوريا، فقتلت أكثر من مليون سوري، وهجّرت أكثر من عشرة ملايين منهم، ودمرت المدن السورية الكبرى؛ دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب وغيرها، وجاء لاريجاني ليتهم أمريكا بتسليم الموصل لداعش، وهو يعلم أن كيري، وزير الخارجية الأمريكي السابق، يتهم نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق، بتسليم الموصل لداعش، وكأنهما- أي كيري والمالكي- يتراشقان التهم على ما جرى بينهما من اتفاق سري، بتقديم تسهيلات للاحتجاجات الشعبية العراقية المسلحة لتتحول إلى مشروع خلافة وهمية؛ لتبرير تدمير باقي العراق وسوريا وتشريد أهلها منها، وتدمير باقي المدن العراقية الحضارية بعد تدمير بغداد وخرابها، وما أمر اليمن ببعيد، وكذلك التدخلات الإيرانية في مصر والمغرب وتونس والجزائر والسودان وموريتانيا، غير خافية على أحد.
وأما على صعيد الدول الإسلامية فإن تصريح نائب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس النواب الإيراني، منصور حقيقت بور، بأنهم يعلمون جيداً "أن جهاز مخابرات الجيش الباكستاني، المعروف بـ"آي إس آي"، يدعم تنظيم "جيش العدل" البلوشي"، كاشف عن علاقات إيران مع باكستان، كما أن تهديد نائب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس النواب الإيراني إسلام آباد بأنها "إذا لم تقم بواجباتها إزاء الحفاظ على أمن الحدود، فستتخذ طهران قرارات حاسمة بهذا الشأن"، هو دليل على علاقات سيئة بينهما، ولا تخرج التصريحات الأخيرة للأمير محمد بن سليمان "بنقل المعركة إلى إيران إذا لم تتوقف إيران عن أعمالها العدوانية في السعودية والخليج والمنطقة"، عن كونها تحذيراً بهذا السياق، لردع إيران عن أخطائها وعدوانها.
أما تركيا فلم تنج من التهديدات الإيرانية، فالحملات الإعلامية الإيرانية ضد تركيا من داخل إيران لا تتوقف، وهناك أكثر من عشرين مؤسسة إعلامية، ما بين وكالة أنباء وإذاعة وقناة تلفزيونية ومواقع إخبارية في تركيا تعمل إعلامياً لخدمة الدعاية الإيرانية ضد تركيا، وقد أغلقت الحكومة التركية بعضها في السنوات الأخيرة؛ بسبب ثبوت أدلة إدانة عليها بقيامها بأعمال مخالفة للقانون وحرية الإعلام بتركيا، فلم تأت تصريحات الرئيس أردوغان باتهام السياسة الإيرانية باتباع سياسة طائفية خاطئة في المنطقة، أو بتحذيرها من السياسة التوسعية الفارسية، إلا أدلة قطعية لا تستطيع الحكومة الإيرانية نفيها أو الرد عليها إلا بالأكاذيب.
هذه السياسة الإيرانية الخاطئة ضد الأمة الإسلامية لم تعد تحتمل، والتقارب العربي والإسلامي لمواجهة هذه السياسة العدوانية نحوها له ما يبرره، وتعاون الدول العربية والإسلامية مع أمريكا أو غيرها ضد التوسع الفارسي الطائفي في المنطقة ليس تحالفاً إسلامياً أمريكياً ضد إيران من دون أسباب، وإنما هو نتيجة طبيعية للسياسات الإيرانية الخاطئة والعدوانية والمدمرة والقاتلة والدموية، فقد أودت بحياة أكثر من أربعة ملايين عربي مسلم منذ قيام الجمهورية الإيرانية الطائفية، فماذا تنتظر الدول العربية أكثر من ذلك، وقد دمرت إيران عواصم الحضارة العربية الإسلامية في بغداد ودمشق وصنعاء وحلب والموصل وحضرموت، هل تنتظر تدمير مكة والمدينة وإسطنبول وإسلام أباد والقاهرة؟
إن ما يقع في إيران اليوم من احتجاجات شعبية ضد استبداد الحرس الثوري والحكومات السياسية الشكلية هو حق طبيعي للشعب الإيراني، فنتائج الثورة الإيرانية بعد أربعة عقود تقريباً هي دمار كامل، وفشل شامل، وخسارة كبيرة للشعب الإيراني، والدول العربية والإسلامية معنية بإنقاذ الشعب الإيراني من الظلم الذي يتعرض له بكل قومياته ومذاهبه المضطهدة، وتياراته السياسية المقموعة، وهذا ليس تدخلاً بالشؤون الإيرانية، وإنما هو رد للعدوان الإيراني على الدول العربية والإسلامية، الذي يتحمل مسؤوليته نظام الحكم الإيراني ومليشياته الإرهابية، وليس الشعب الإيراني المظلوم، فالقيادة الإيرانية الطائفية نقمة على الشعب الإيراني وعلى الأمة الإسلامية جمعاء، ولذا فإن من مسؤولية الشعب الإيراني أن يساعد نفسه على التحرر من الاستبداد، ونزع الخوف من قلبه، فالشعوب الحرة لا تخضع للمستبدين أبداً، وتحاسب حكوماتها السياسية والثورية على أخطائها المدمرة، وعلى قتلها لشبابها وهدر أموالها في أعمال تخريبية عدوانية في الدول الأخرى دون فائدة، إلا الظلم والجور والفساد في الأرض، و"ما جزاء من يفعل ذلك إلا أن تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف"؛ كي لا يعودوا لمثلها.
المصدر|الخليج أونلاين