في السنوات الأخيرة بات اسم قاسم سليماني مألوفا إعلامياًّ بالنسبة لرجل يتولى مهام قيادية ضمن تشكيل عسكري مثير للجدل. وكما هو حال العديد من الشخصيات المحاطة بهالة أمنية في الشرق الأوسط فإن الكثير من الروايات تحاك بشأن قاسم سليماني لتلامس حدود الأساطير من قبل أنصاره، و”شيطنته من قبل خصومه. وقد ازدادت هذه الصورة رسوخاً لاسيما بعد ظهوره الأخير على مشارف مدينة الفلوجة العراقية. وفي هذا السياق نتساءل من هو قاسم سليماني، وما هو دوره في السياسة الإيرانية الخارجية تجاه دول المشرق العربي؟
ولد قاسم سليماني عام 1957 في بلدة رابور بمحافظة كيرمان الإيرانية لأب فلاح.كان مهددًا بالسجن من نظام الشاه؛ مما اضطره للعمل وهو في سن الثالثة عشر، ليحاول تسديد الديون عن والده، عشية الثورة الإسلامية في إيران 1979 انضمّ سليماني لقوات الحرس الثوري الإيراني.وشارك في الحرب العراقية الإيرانية قائدا لفيلق (41 ثأر الله) وهو في العشرينيات من عمره، ثم تمت ترقيته ليصبح واحدًا من بين عشرة قادة إيرانيين مهمين في الفرق الإيرانية العسكرية المنتشرة على الحدود. ثم ارسل الى الحدود الأفغانية لمكافحة تهريب المخدرات.
عيّن في بداية عقد التسعينيات من القرن المنقضي قائدا للحرس الثوري في محافظته كيرمان على الحدود مع أفغانستان، وساعدته خبرته العسكرية في الحد كثيرا من تهريب المخدرات من أفغانستان إلى تركيا وأوروبا عبر إيران كما كان رائجا. وفي العام 1998، عين قائدا لـ “فيلق القدس”، وحدة النخبة المكلفة عمليات سرية في الخارج والتابعة لـ “الحرس الثوري” الايراني، خلفًا لأحمد وحيدي. ونظراً لتكريس نفسه خدمة للجمهورية الإيرانية، وصفه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في عام 2005 بأنه “شهيد حي”. واتهمت الولايات المتحدة سليماني في عام 2008 بتدريب الميليشيات الشيعية لمحاربة قوات التحالف الدولي في العراق. وفي 2011 قام مرشد الثورة علي خامنئي بترقية سليماني من لواء إلى فريق في الحرس الثوري.
أما عن صعوده السريع فيعود إلى عام 1999م عندما اندلعت ثورة الطلاب في عهد الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، كان قاسم سليماني واحدا من 24 قائدا في الحرس الثوري وقعوا رسالة إلى الرئيس، بأنه إذا لم تتصد الحكومة لحراك الطلبة فإن الحرس الثوري سيفعل ذلك، وسينفذ انقلابا ضد خاتمي نفسه. كان أحد المرشحين بقوة لخلافة يحيى رحيم صفوي في قيادة الحرس الثوري عند تخليه عن المنصب عام 2007. وفي عام 2008 قاد فريقا إيرانيا للتحقيق في مقتل عماد مغنية القائد العسكري لحزب الله اللبناني، وتوسط في العام نفسه لوقف النار بين الجيش العراقي وجيش المهدي التابع للتيار الصدري في العراق.
تعتقد مصادر استخباراتية أميركية أن قاسم سليماني قام بتدريب المقاتلين العرب في البوسنة بغية إرسالهم عبر الحدود الإيرانية الأفغانية في عامي 1996 و1997، وسط تصاعد التوتر بين إيران وحركة طالبان خلال حكمها لأفغانستان.تولى أيضا -بأمر من المرشد علي خامنئي- مسؤولية السياسة الخارجية الإيرانية في عدة دول منها: لبنان والعراق وأفغانستان التي يجري اختيار الكثير من كوادر سفارات إيران فيها من بين ضباط الحرس الثوري الإيراني. بمعنى أنه يدير مشروع التمدد الإيراني في العالم بأسره، وليس في المنطقة العربية وحدها، ويعتبره البعض القائد الفعلي للجناح العسكري لحزب الله اللبناني.
أما عن حضوره اللافت في العراق وسوريا يمكن القول شكل سيطرة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” على مدينة الموصل في يونيو عام 2014م، بداية الحديث عن الحضور العلني والدور الصريح لقاسم سليماني وفيلق القدس في معارك العراق، وكان أبرزها معركة مدينة آمرلي في محافظة صلاح الدين في أغسطس عام 2014م، التي تمكنت فيها قوات سليماني والمليشيات الشيعية والقوات الكردية من كسر حصار تنظيم الدولة للمدينة. إذ نشر فيديو للواء سليماني وهو يرقص مع بعض الجنود في العراق، بعد تحرير قرية آمرلي العراقية من حصار تنظيم الدولة في العراق والشام “داعش” الذي استمر 70 يومًا. جاء في تصريحات لهادي العامري وزير المواصلات العراقي السابق ومسؤول قوات بدر، الإشادة بدور سليماني في التصدي لتنظيم الدولة ومنعه من اجتياح إقليم كردستان العراق، ولولا سليماني “لكانت حكومة حيدر العبادي في المنفى، ولما كان هناك وجود للعراق”.
وبحسب خبراء في الشأن العراقي، فإن قاسم سليماني ممسك بزمام الأمور في العراق بشكلٍ كامل، كما أنه المؤسس للسياسة الإيرانية في العراق “من الألف إلى الياء ”أرسل سليماني رسالة إلى الجنرال ديفيد بترايوس عندما كان قائدًا للقوات الأمريكية في العراق على هاتفه الشخصي يقول فيها: عزيزي الجنرال بترايوس، يجب أن تعرف أنني أنا، قاسم سليماني، المسيطر على مجريات السياسة لإيران فيما يتعلق بالعراق ولبنان وغزة وأفغانستان”. ليس هذا فقط، بل إن قائد القوات الجوية في الحرس الثوري العميد علي حاجي زادة أعلن أنَّ القائد سليماني استطاع مع 70 شخصًا فقط أن يوقف تقدُّم تنظيم داعش على العاصمة الكردية أربيل. إضافةً إلى تواجده العسكري بشكل شخصي في العراق، فإن تنظيمات عدة داخل العراق تتلقى تمويلها من إيران تتعامل مع سليماني بشكل مباشر، وتخضع لقيادته.
وعندما بدأ يظهر عجز النظام السوري عن التصدي للمعارضة المسلحة،في النصف الثاني من عام 2012، تدخل قاسم سليماني بنفسه في إدارة تدخل قوات حزب الله اللبناني ومليشيات عراقية في المعركة بسوريا، من قاعدة في دمشق. وكانت معركة القصير إحدى أهم المعارك التي أشرف عليها سليماني وتمكن من استردادها من المعارضة في مايو 2013. حسب تحليلات عديدة فإن إيران هي التي تقود المعركة في سوريا؛ ماليًّا دعمت إيران الأسد بأكثر من سبعة مليارات دولار، وعسكريًّا القائد الفعلي للعمليات العسكرية في سوريا هو الجنرال سليماني، بل إنه يقود العملية في سوريا من على الأرض بشخصه. وهو يدير العمليات العسكرية من مبنى شديد التحصين في دمشق، وقد كوَّن سلسلة من القادة متعددي الجنسيات الذين يديرون الحرب، بينهم قادة الجيش السوري، وقادة من حزب الله، وممثل للمليشيات الشيعية في العراق.
وخلال احدى اطلالاته النادرة، كشف سليماني صاحب اللحية الرمادية الكثة في يناير 2012 عن مدى نفوذه. وقال في خطاب اوردته وسائل اعلام ايرانية ان “ايران موجودة في جنوب لبنان والعراق. وفي الواقع هاتان المنطقتان متأثرتان الى حد ما بعقيدة واعمال الجمهورية الاسلامية”، قبل ان تقر طهران بارسال مستشارين عسكريين لمساعدة النظام السوري في مواجهة مقاتلي المعارضة المسلحة.وفي فبراير الماضي، اعتبر سليماني انه “ما من بلد او قوة باستثناء ايران قادرة على قيادة العالم الاسلامي اليوم، نظرا لدعم ايران للحركات الثورية والاسلامية والمقاتلين، وكذلك دفاعها عن المسلمين من المعتدلين”. وقال مصدر ديبلوماسي لوكالة “فرانس برس” أن سليماني “يعرف سورية وكأنه ولد فيها، ويعرف جيدا العراق ايضا”. وأضاف “انه يحظى أيضا باحترام شديد من قبل عناصر فيلق القدس بفضل مسيرته وشخصيته”.
أما قصة قاسم سليماني مع لبنان فهي تبدأ مع بداية تأسيس حزب الله في الثمانينيات من القرن المنقضي، لا يتعلق الأمر بالتمويل فقط، بل إن عناصر حزب الله تنال تدريبًا على يد فيلق القدس. أثناء حرب تموز عام 2006 زار سليماني لبنان، واطلع على تطورات المعركة، ونقلت صحيفة “نيويوركر” الأميركية عن مسؤول عراقي قبل عامين قوله إن سليماني وجه رسالة الى القياديين الأميركيين في العراق بعد انتهاء الحرب، وفي فترة تراجعت فيها أعمال العنف في بغداد، قال فيها “اتمنى أن تكونوا قد نعمتم بالسلام والهدوء في بغداد. لقد كنت مشغولا في بيروت”. تعني الرسالة أنه كان مشغولاً في حرب لبنان، وأنه عائد لإقلاق الأمريكان في العراق.
في العام 2015م اختير قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني شخصية العام في إيران بحسب استطلاع للرأي، وقد برز اسمه في الفترة الأخيرة كرمز للتدخل الإيراني في العراق وسوريا.ووفقا لموقع خبر أونلاين الذي أجرى الاستطلاع بمناسبة عيد النوروز -رأس السنة الفارسية- حصل سليماني على 37.3% من أصوات المشاركين. وجاء في المرتبة الثانية في الاستطلاع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي حصل على 29.9% من أصوات المشاركين، بعد أن كان في المرتبة الأولى العام الماضي.
هذا هو الجنرال قاسم سليماني، الذي اعتبره محللون ووسائل إعلام أهم شخصية أمنية في الشرق الأوسط، حسب الصحفي ديكستر فيلكينز فإن سليماني “عندما يظهر في العلن، لا يظهر إلا في احتفالات المحاربين القدماء، أو لمقابلة مرشد الثورة الإيرانية”. وهو شخص هادئ نادرًا ما يعلو صوته، إنه ذلك الرجل الذي “عندما يدخل غرفة بها عدد من الناس، يذهب فيجلس وحيدًا في ركن الغرفة، لا يتكلم، لا يعلق، فقط يجلس ويستمع”. فهو بالنسبة للإعلام الغربي الرجل الغامض والصامت دومًا. وبالنسبة للنظام الإيراني هو مهندس مشروعها التوسعي في المشرق العربي.