لقد كان النصر الذي حققه أهالي الفلوجة مفاجئاً ومذهلاً للجميع، وقد شعرت الأمّة العربيّة والإسلامية حينها بردّ اعتبار كرامتها بعد الجرح العميق الذي أصابها بسقوط بغداد، حتى قال لي رئيس أكبر جماعة إسلامية في تونس: «الكعبة قبلتنا في الصلاة، والفلوجة قبلتنا في المقاومة»، وبزيارتنا للرباط رأينا الجماهير في تجمع كبير للعدالة والتنمية تهتف وتغنّي للفلوجة، وقد أبكتني إحدى الأخوات هناك، حينما خلعت ما معها من حليّ وقالت، هذا لأهل الفلوجة، أما دول الخليج وسوريا والأردن وفلسطين فقد كان النصر نصرهم والفخر فخرهم.
بهذه الروح كان أهل الفلوجة يتعاطون مع الإنجاز الذي حققوه، ولم يكن مقبولاً لديهم أن «يلوّثوا» هذا الإنجاز بمكاسب سياسيّة أو «دنيوية» على حدِّ تعبير أحد مشايخهم!
كانت هناك أسئلة كثيرة بحاجة إلى جواب، مدينة الفلوجة تحررت نعم، ولم يبق فيها أميركي واحد، لكن ماذا بعد؟ ماذا عن بغداد والمحافظات الأخرى؟ ماذا عن الشيعة والأكراد، والذين يرى غالبيتهم أن الاحتلال الأميركي خلّصهم من ألدّ أعدائهم، بل ماذا عن الفلوجة نفسها؛ كيف ستعيش، كيف ستنظّم أمور حياتها وخدماتها ورواتب موظفيها، ماذا لو طال أمد الاحتلال، ماذا لو تمكن الاحتلال من تشكيل حكومة قويّة في بغداد بمعزل عن أهل الفلوجة وعن أهل السنّة جميعاً؟ هذه الأسئلة لم يكن المزاج العام يستسيغ طرحها لأنها قد تفسد نشوة النصر!
في تلك الأيام قررت الذهاب إلى هناك، حاول سائق السيارة أن يجد طريقاً فرعياً للدخول إلى المدينة من جهتها الشمالية، لأن الجيش الأميركي قد قطع الطرق الرئيسية التي تربط الفلوجة ببغداد والرمادي، كنت أشعر بالإذلال المتعمّد، وأقلقني كثيراً الخوف على مستقبل المدينة، صحيح أن عمليات المقاومة كانت تتصاعد في كل الأنبار والمحافظات السنّية الأخرى، لكن لم تكن لتصل إلى مستوى القدرة على طرد الأميركان وإزاحتهم عن الطرق الخارجية، وصلت إلى داخل المدينة فرأيت عالَماً آخر، المآذن لا تكف عن التكبير بمناسبة وغير مناسبة، والناس في فرح غامر، وهم يشعرون باسترداد عزتهم وكرامتهم، ذهبت إلى مقبرة الشهداء فوجدتها أشبه ما تكون بعرس دائم، الناس يتفاخرون؛ هذا قبر أخي، هذا قبر ابن عمي، وكل واحد يروي لك قصّة وهو في غاية الفخر والابتهاج.
التقيت هناك اثنين من وجهاء المدينة ممن كان لهم دور بارز في المفاوضات، وفي «إجبار الجيش الأميركي على الانسحاب بطريقة مذلة»، فوجدتهما لا يختلفان عن المزاج العاطفي العام الذي يكسو المدينة كلها، لا يرغبان في الحديث عن المستقبل، ولا عن شكل الدولة التي بدأ الأميركان بتشكيلها، وما موقفنا من الجيش والمؤسسات الأمنية التي أخذت تتشكل على عين المحتل ومن المكون الشيعي فقط، والتي شاركت فيما بعد مع الأميركان بتدمير الفلوجة.
لقد كان بإمكان أهل الفلوجة أن يفرضوا شروطاً عملية وطويلة الأمد، متعلقة مثلاً بالدستور والجيش وميزانية الدولة والتعليم والخدمات، ولقد كان بإمكان الدول العربية أن تستثمر هذا النصر، وأن يكون لها سياسة فاعلة في العراق في مقابل التغول الإيراني، لكنه من المؤسف أن الأمور لم تتجه في النهاية إلا لصالح إيران.
(جريدة العرب)