في مثل هذه الأيام من سنة 2004 وقعت المنازلة الكبرى والمفتوحة بين الجيش الأمريكي وأهالي الفلوجة، في معركة غير متكافئة بكل المقاييس، لكنّ نتائجها فاجأت الجميع، حيث أعلن الجيش الأمريكي خضوعه لشروط الأهالي وانسحابه منها بطريقة مهينة.
اليوم ربما غاص هذا الحدث الكبير في زحمة الأحداث والطوفان المتلاطم في أغلب المنطقة العربية من الهلال الخصيب إلى اليمن السعيد، بل إن هناك من لا يريد أن يتذكر ذلك التاريخ المشرّف، لأن أولويات الصراع اختلفت، فصارت الأمة تواجه الخطر الأكبر والأشد على يد "الجمهورية الإسلامية" وأخطبوطها الطائفي، وأذرعها الخفيّة، أكثر بكثير مما تواجهه على يد الأمريكيين، وحسبك أن ترى كثيراً منّا من صار يأمل في سياسة ترمب لعلها تمثل مخرجاً للمأزق الذي صنعته إيران لهذه المنطقة.
هنا لا بد من دراسة الحدث دراسة موضوعية بإيجابيّاته وسلبيّاته وحيثياته المختلفة.
بداية لم يكن أهل الفلوجة يخططون لخوض مثل هذه المعركة، وإنما كان أقصى ما عندهم أن يعتمدوا سياسة الكر والفر على الطرق الخارجية، وفي المعسكرات المعزولة عن المدن، وهذا شأن كل المقاومة التي انطلقت شرارتها في المحافظات السنّية، بل هو النهج الصحيح للعمل المقاوم، حيثما كان هناك احتلال عسكري، إلا أن العنجهية الأمريكية تعمّدت استفزاز الأهالي وإذلالهم بكل الطرق، ومن ذلك أن قامت إحدى المجندات بوضع حذائها على رأس أحد الباعة في سوق المدينة، ثم اعتقال امرأة فلوجية في يوم عرسها من غير سبب، وأخيراً كان الاعتداء على تلاميذ مدرسة تظاهروا بعد أن احتل المارينز مدرستهم الكائنة في حي سكني مكتظ بالسكان.
لقد أخذ الغضب بالأهالي كل مأخذ، خاصة الشباب المتحمس، الذي لا يفهم معنى هذا الاستفزاز المتكرر، فكانت الفرصة لهؤلاء بقتل ثلاثة أفراد من البلاك ووتر سيئة الصيت، وتعليق جثثهم على جسر الفلوجة القديم.
بدأ الأمريكيون بحشد قواهم للانتقام من الفلوجة كلها، وكانوا على غير دراية كافية بطبيعة الفلوجة وأهلها ومحيطها العشائري الممتد في كل الاتجاهات.
استعد الأهالي كلهم، من دون استثناء للمواجهة، كما استعدت العشائر في الخارج لقطع إمدادات الجيش الأمريكي، وما إن بدأت المعركة حتى انهارت معنويات الجنود، وأدركوا أنهم وقعوا فيما يشبه الكمين المحكم، وتوالت خسائرهم، حتى قال بوش الصغير حينها: "إني لم أتوقع كل هذه الخسائر في أرواح جنودنا، إني أصلي للرب من أجل تقليل الخسائر فقط".
اضطرت القيادة الأمريكية إلى التفاوض بغية تخليص جيشها من هذا المأزق، وهنا كانت الفرصة التي لم يكن الأهالي ولا كل فصائلهم المسلحة بالمستوى الذي يؤهلهم لاغتنامها والبناء عليها، حيث لم يكن هناك إطار سياسي متفق عليه، ولا رؤية مستقبلية واضحة.
لقد كان الوفد التفاوضي مشكلاً من وجهاء وعلماء وقلة من الساسة الجدد، ولا أظن أنه كان من بينهم من هو مؤهل لمثل هذه المفاوضات، كما أن الاتفاق- وأقولها لله وللتاريخ- كان برضا الجميع، فقد التزم الجميع بوقف النار بعد أن نفّذ جيش الاحتلال التزاماته بالخروج السريع من المدينة وتشكيل إدارة محلية، لقد اكتست المدينة حلّة النصر، لكنها ربما لم تحسب لما بعد ذلك.
(جريدة العرب)