فجر السبت ٣٠ يناير/ كانون الثاني انشغلت وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية بخبر إطلاق صافرات الإنذار في منطقة غربي العاصمة الإيرانية طهران والذي تبين أنه ناتج عن خطأ فني مرتبط بتحليق غير مصرح به لطائرة مدنية تركية فوق موقع عسكري.
في الظروف الطبيعية وفي بلد غير إيران كان ليمر الأمر بشكل طبيعي، لكن بعد أيام فقط من تهديد رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي بالخيار العسكري ضد إيران، وبعد يوم على تصريحات بنجامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية المعترضة كما رئيس أركانه على إمكانية عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، يصبح أي شيء خارج السياق الطبيعي محل ريبة وتشكيك. ففي إسرائيل، كما في الرياض وأبو ظبي قلق بالغ من إمكانية عودة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الاتفاق النووي المعلن في فيينا في يوليو تموز ٢٠١٥، والذي خرج منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مايو/ أيار ٢٠١٨ بحجة أنه كان اتفاقا ضعيفا، بل وأسوأ اتفاق يمكن التوصل إليه مع إيران.
لا تبدو الحكومة الإسرائيلية قلقة من إيران في هذه الأيام بقدر قلقها من الإدارة الأميركية الجديدة، والتي لا يذاع سر إن قيل إنها من زاوية نظر رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو تبدو جامحة باتجاه صناعة ظروف مؤاتية للحوار مع طهران. التعيين المثير للجدل لروبرت مالي، المفاوض النووي السابق في إدارة الرئيس باراك أوباما، ورئيس مجموعة الأزمات يرسل رسالة واضحة من بايدن بأن خطته الموضوعة سابقا لمحاولة إحياء الاتفاق النووي، بما في ذلك الأشخاص الذين سيتولون هذا الأمر، لن تخضع للضغوطات، لأنها تسير وفق تقييم الأمن القومي الأميركي. وقد حدد جايك سوليفان، المستشار الجديد للأمن القومي في البيت الأبيض التعامل مع ما وصفه باقتراب إيران من القدرة على بناء سلاح نووي كأولوية، مشيراً إلى أن واشنطن ستتعامل مع “أنشطة طهران الخبيثة في المنطقة” لكن بعد التأكد من وضع ضوابط على برنامجها النووي وعند ذلك “سيكون الأمر بمثابة أساس تبنى عليه الجهود الدولية، بما فيها جهود حلفائنا في المنطقة وفي أوروبا وغيرها، لمواجهة التهديدات الأخرى التي تمثلها إيران.”
لكن حتى حل المسألة النووية، في الوقت الذي ينتظر كل طرف الآخر للقيام بالخطوة الأولى، تلوح في الأفق إمكانية دخول عوامل جديدة على المشهد تزيده تعقيدا، ولعل العامل الأكثر خطورة في مثل هذه الحالة، قيام إسرائيل بعمل عسكري أو أمني يستهدف البرنامج النووي الإيراني ويؤدي بدوره إلى توتر جديد في الحد الأدنى، أو ربما اشتباك محدود قد تجد فيه الولايات المتحدة نفسها مضطرة للتعامل مع أمر واقع مغاير، بل ناسف لخطتها الأساسية في المنطقة. هكذا خيار لا يمكن لأحد ضمان عدم وقوعه لأنه يقع في صلب استراتيجية نتنياهو لضرب البرنامج النووي الإيراني، وهو الأمر الذي كان مخططا في العام ٢٠١٠ وعجل بالمفاوضات النووية. حينها، وضع نتنياهو وزارة الدفاع والموساد تحت التدبير رقم صفر + ٣٠ والذي يستخدم للدلالة على الاستنفار، لكن، وبحسب كتاب الصحفي الإسرائيلي رونن بيرغمان “أسرع واقتله”، فقد عمد رئيس الموساد السابق مئير داغان لتسريب خطة الهجوم المفترضة إلى أوباما لعرقلته. لا شك أن الظروف الداخلية الإسرائيلية قد تمنع حصول الضربة، كما في الحالة أعلاه، أو حتى تناقض الخلاصة التي يتحدث عنها نتنياهو دوما ألا وهي اقتراب إيران من الحصول على السلاح النووي، كما كشفت وثائق سرية نشرتها قناة الجزيرة في العام ٢٠١٥، لكن هذا لا يمنع في ظل العلاقة الإيجابية جدا بين رئيس الموساد يوسي كوهين ونتنياهو ورئيس الأركان كوخافي الذي تعرض للتنبيه بشكل علني من وزير الدفاع وغريم نتنياهو من أن تحذيره بايدن من مغبة العودة للاتفاق النووي شكل تعنيفا لفظيا لرئيس الولايات المتحدة.
بالعودة إلى البيت الأبيض، تبدو التصريحات الصادرة عن فريقه حتى اللحظة مدروسة بشكل يسحب فتائل التفجير من الحلفاء المتوجسين خيفة من انفتاح أميركي جديد على طهران، ومبني بشكل جزئي على عقيدة أوباما التي أعلنها في سلسلة مقابلاته مع جيفري غولدبيرغ في الأتلانتيك والتي تقوم على قاعدة تقاسم النفوذ بين إيران والسعودية. هنا نأتي لنقطة تفجير ثانية للاتفاق، تحدث عنها الأميركيون في الماضي القريب، وكررها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالدعوة لإشراك السعودية في أي مفاوضات مقبلة مع إيران. تكرر الرد الإيراني الرافض على هذه الفكرة على ألسنة مسؤولية عدة، بالنسبة لطهران الاتفاق بأكمله ليس قابلا للحوار. هنا بعض الضبابية التي تسيطر على الطرح، هل المسألة في مشاركة الرياض في الاتفاق النووي الجديد المتخيل الموسع، أم أنها ستكون على طاولة المفاوضات الجديدة والتي يريد الأميركيون والأوروبيون أن تتسع دائريا لتتضمن ملفات كبرى، كنفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، البرنامج الصاروخي الإيراني، الأزمة في اليمن وغيرها من قضايا راهنة، مع ذلك هناك نقطة تستحق التوقف.
تريد واشنطن الحزم مع إيران، لكنها وعلى ما يبدو من خطوات موازية تريد الحزم حتى مع بعض حلفائها في المنطقة. مراجعة قرار وضع الحوثيين على لوائح الإرهاب نموذج على ذلك، كذلك تجميد بيع الأسلحة إلى السعودية والإمارات وربط الأمر بوقف الحرب على اليمن، وهنا اتجاه مناقض في الشكل لإبداء الرغبة في إشراك الرياض في المفاوضات مع إيران، أو على الأقل تحفظ ودّي على سياسات الرياض مع التأكيد على موقعها كحليفة استراتيجية للولايات المتحدة.
هذا أيضا يجعل من واشنطن محل توجس للحلفاء والأصدقاء، وهذا سبب آخر يضاف إلى أسباب مذكورة أعلاه لصناعة عوامل تحفز عودة واشنطن مجددا إلى موقع العالق في رمال المنطقة المتحركة رغم محاولاتها الحثيثة للنجاة بنفسها بعد عقود من الغرق في التفاصيل.
نقلاً عن: جاده إيران