ما إن فاز أحمدي نجاد بانتخابات الرئاسة الإيرانية في 2005 حتى شرع في حياكة الخطاب «الديماغوجي» المعتاد، فصرح قائلاً: «إن أمواج الثورة الإسلامية ستجتاح العالم قريباً».
هكذا الساسة الإيرانيون غارقون في حلم تصدير الثورة الخمينية، ولكن في المقابل، هل يستبعدون فكرة اندلاع الثورة داخل إيران؟ وهل يستبعد أتباع الولي الفقيه سقوط تلك الإمبراطورية الفارسية الحديثة التي يروِّجون لها كأنموذج ينبغي محاكاته في الدول العربية؟ وماذا عن المهتمين فينا بأخبار التمدد الإيراني والمحذّرين من خطره في المنطقة، هل نستبعد بدورنا اندلاع ثورة تقوّض نظام الولي الفقيه من الداخل؟
استطاعت إيران التغطية على «الدَّخَن» الداخلي عن طريق ترسانتها الإعلامية المُطَوّعة في خدمة نظام الملالي، وعن طريق التحرك خارج الحدود في أكثر ملفات المنطقة سخونة، ومحاولات التمدد الإقليمي، فألْهت الداخل والخارج عن النظر إلى عوامل الانهيار التي تهدد الدولة الصفوية، وتُنذر باندلاع ثورة جديدة بلا عمائم. ويمكننا رصد هذه العوامل من خلال العناصر التالية:
* خفوت الشحنة الدينية:
يرى المفكر الكويتي عبدالله النفيسي أن الثورة الإيرانية حقنت الشعب بشحنة دينية فوق طاقته وطبيعته، تحمّلها الإيرانيون إبان الحرب مع العراق لتبرير المواجهة، إلا أن الإيرانيين اكتشفوا بعد الحرب أن الملالي ألبسوهم لباساً غريباً على طبيعتهم، فبدأ الباطن يزاحم الظاهر، وبدأ الشعب يظهر على طبيعته التي تُنافي التقيّد الديني.
فالشعب الإيراني كان أقرب للطبيعة الليبرالية، فجاءت الثورة محمّلة على نظرية ولاية الفقيه التي أعطتها قدسية، فرضت نفسها على مظاهر الحياة في الشارع الإيراني، ولم تُراعِ مبدأ التدرج، لكن النظام استفاد من تلك الشحنة للتعبئة لخوض الحرب مع العراق. وعلى رغم الحرص الإيراني الشديد على إظهار التدين، والذي يُلمح بوضوح في رحلات الطيران والتمثيل السياسي والديبلوماسي للمرأة الإيرانية (مُرضِية أفْخَم أنموذجاً)، إلا أن تلك المظاهر أشبه بالبروتوكولات، ولا يصحبها تدين حقيقي في إيران. ومن ثم تعتري إيران حالة من صراع الإرادات بين نظام الولي الفقيه الذي يفرض سلطته الكهنوتية، وبين شعب بعيد عن صبغة التدين، وهو ما ينذر بالثورة على نظام الملالي.
فإيران بها أعلى نسبة إدمان عالمياً، إذ بها أكثر من مليون و325 ألف مدمن حتى 2012، بحسب مؤسسة مكافحة الإدمان، وحوالى 2.5 في المئة ممن تزيد أعمارهم على 15 عاماً مدمنون، وبحسب «ويكيليكس» فإن الإيرانيين من أكبر مهربي المخدرات في العالم. وعدد المومسات في إيران يزيد على 300 ألف امرأة والعدد في تزايد مستمر، ولا يدخل في هذا العدد الزنا المقنّع والمسمى بزواج المتعة. كما أفادت تقارير سابقة أن الدعارة انتشرت بين تلميذات المدارس بنسبة 63.5 في المئة، إضافة إلى أن 75 في المئة من عدد السكان لا يُصلّون، وكلها مؤشرات لفشل الثورة الإيرانية في إصلاح المسار الاجتماعي، إذ اقتصر النظام على التعبئة لمعارك إقليمية تحت شعار ديني، في الوقت الذي ينطوي المجتمع على الخواء الروحي والانحراف الأخلاقي والسلوكي.
* اهتزاز نظرية الولي الفقيه:
وهي نظرية قديمة في التراث الشيعي، إلا أن الخميني ابتعثها بصبغة مغايرة مختلفة، نقلتها من الإطار الفقهي إلى الفضاء السياسي، ومنحت الولي الفقيه سلطة دينية وسياسية مطلقة.
نظرية الولي الفقيه كانت الفكرة المركزية التي جمعت الشيعة في جميع أنحاء العالم، ووجهت ولاء الغالبية العظمى منهم إلى إيران باعتبارها تضم الولي الفقيه، النائب عن الإمام الغائب وفق العقيدة الشيعية، وترتب عليه وصول «الخُمس» من شتى البقاع إلى «قم»، لإنفاقها في مصالح الحكومة الإسلامية التي جادت بها قريحة الخميني، الأمر الذي مكّن إيران من نشر نفوذها سواءً عن طريق القوة الناعمة، أم عن طريق العمل العسكري، والإنفاق على الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في دول عربية عدة.
هذه النظرية قضت على التعددية الفقهية والدينية، وأنكرها العديد من المرجعيات الشيعية، وعلى رأسهم «شريعتمداري»، الذي كان قد منح الخميني لقب «آية الله»، وحين رفض أفكار الخميني، عُوقب بالسجن في بيته، وقُتل بمنع العلاج عنه.
وعندما زار الكاتب فهمي هويدي إيران، دوّن بعدها كتابه «إيران من الداخل»، وسجّل فيه مشاهداته، كان أبرزها رائحة الخلاف بين المرجعيات الكبرى حول النظرية من حيث مداها ونطاقها، وما إذا كانت تشمل نظام الدولة أم لا.
أما الوضع الآن فهو انقسامي، بين قلة تتبع ولاية الفقيه وتتحكم بمؤسسات الدولة الصلبة كالحرس الثوري والاستخبارات والمالية…، وبين كثرة ترفض نظام الولي الفقيه، وهو ما يكسر حاجز تقديس النظام، ومن ثم يُمهد الطريق لتثوير الشعب الإيراني.
* اتساع رقعة التيارات المعارضة:
الثورة الإيرانية جاءت بمشروع قومي فارسي صفوي مُحمّل على رأس طائفي، وذلك البعد القومي يمتزج بنظرة شعوبية، ترى أفضلية القومية الفارسية على من عداها، وتحوي الجمهورية قوميات مختلفة لم يتم استيعابها وتوظيفها لصالح الأمن القومي الإيراني، وتعاني من وطأة الاضطهاد والإذلال والإقصاء الفارسي، الأمر الذي خلق حالة دائمة من الغليان وصلت حدّ الصراع المسلح.
فهناك حركات التحرر في الأحواز وخراسان وأذربيجان وبلوشستان، والمقاومة التركمانية والكردية، وأحزاب معارضة في الداخل، ومعارضة إيرانية قوية في الخارج، أبرزها حركة مجاهدي خلق، وكلها حركات رافضة لولاية الفقيه تتسع دائرة تأثيرها، وربما بتكثيف التنسيق بينها، يمكن لهذه الحركات إحداث تغيير جذري في إيران، وتحريك الشعب للإطاحة بالنظام، خصوصاً إذا استثمرت الدول العربية تلك الأوضاع ودعّمت تلك الحركات التحررية. واعتبرت رئيسة منظمة «خلق» الإيرانية المعارضة «مريم رجوي» أن الظروف الراهنة تشبه الانتفاضة الشعبية ضد النظام في 2009، عقب تزوير الانتخابات الرئاسية والتضييق على المنافسين الإصلاحيين وقمعهم.
* الأزمة الاقتصادية:
تمويل إيران للحرب في العراق واليمن وسورية، والإنفاق على ميليشياتها وأذرُعها بالدول العربية، الذي يصل حجمه إلى 30 بليون دولار سنوياً، وسعيها الدائم للتمدد الإقليمي، ولعِب دور في المنطقة يفوق حجمها بمراحل، لا شك أنه أرهق الخزانة الإيرانية، إذ جاء على حساب الشعب، بخلاف ما يعتقد الكثيرون من أنّ المواطن الإيراني يتمتع بحياة كريمة ورغد من العيش، إذ إن 25 في المئة من الإيرانيين يعيشون في منازل من الصفيح، و44 في المئة منهم يعيش تحت خط الفقر حتى 2012، وأعلن البنك المركزي الإيراني أن نسبة التضخم خلال (2012-2013) بلغت 25 في المئة، وارتفعت نسبة البطالة في 2012 إلى 12.6 في المئة، كما أن ظاهرة «بيع» الأطفال في تزايد مستمر، بل وصل الأمر إلى عمل مزادات لبيع الأطفال قبل ولادتهم، وهو ما صرّحت به مساعدة الرئيس روحاني لشؤون المرأة والعائلة «شهيدنخت مولاوردي» في حزيران (يونيو) الماضي، إذ قالت: «تجارة بيع الأطفال أخذت أشكالاً مختلفة في إيران، ومن ضمنها بيع الأطفال في الرحم قبل الولادة».
* نظام قمعي:
الفرق بين الشاه والخميني عمامة سوداء، هكذا يرى كثير من الإيرانيين، فكانت مجانية الخدمات والمرافق وحرمة الضرائب والكرامة والحرية، شعارات رفعها الخميني إبان الثورة، فجاء الملالي إلى السلطة وفرضوا الضرائب الباهظة، واستحوذوا على ثروات الشعب، وقمعوا حريته، واشْتُهر لدى الإيرانيين أنهم يقولون ما يريدون، بينما السلطة تفعل ما تريد.
وتمـارس الأجهــــــزة الأمنيــــة والاستخباراتية ألوان البطش ضد الشعب الإيراني، لاسيما القوميات غير الفارسية، وصل الأمر إلى هجرة الملايين فراراً من القمع، وكشفت تحقيقات غربية عن ارتداد نسبة كبيرة من الإيرانيين عن الإسلام، بسبب تنكيل نظام الولي الفقيه بالشعب، وأحكام الإعدام العشوائية التي تُنفّذ بحق عرب الأحواز وغيرهم خير شاهد.
إيران تتآكل من الداخل، وعوامل الثورة متوافرة، وكثُرت التنبّؤات بسقوط نظامها، أو ربما تؤول الأوضاع إلى التقسيم، إلا أن قوة وتماسك النظام الإيراني قد يؤخران ظهور تلك النتائج.