كان من فضل الله علىّ أن قرأت رسالة صغيرة فى حجمها كبيرة فيما أصَّلته فى فهمى لما يبدو مختلفاً فيه بين العلماء ، هذه الرسالة التى نصحنى أخى الحبيب د محمد جبارة بقراءتها فى بواكير إلتزامى و هى " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام إبن تيمية ، فكان مما حفرته هذه الرسالة القيّمة فى نفسى ، فساد ما يدعيه مشاهير الوعاظ من أن السلف لم يتركوا شيئاً إلاَّ و حسموه و أنه " ما ترك الأول للأخر " ، بل الصحيح هو ما نَصَّ عليه المجتهدون دائماً " كم ترك الأول للأخر " ، و أنه إذا أردت تناول قول عالم من العلماء و لو كان من الأئمة الأربعة ، فيجب عليك أن لا تخرجه من سياقه الزمانى و المكانى ، و إلاَّ كنت متجنياً على أصحاب الفضل و الفضيلة ، بل و أبلغ من ذلك محاكمتهم و تبديعهم و تفسيقهم - و هم أئمة عصرهم و مصابيح الهدى بين أقوامهم - على رسائل كتبوها أو أَمْلوها على عوام الناس من غير أهل الإختصاص و العلم ، فحاكموهم على فَهْمِ مَنْ جاء بعدهم و أَوَّلَ أقوالهم !!! و لا يخدعنك قول عالم و جرحه لمن سبقه فى إعتقاد أو علم ، فهو ناصح أمين إلاَّ أنه أسرف فى البيان و لم يقتصر على بيان خطأ قول من سبقه ، بل تعداه إلى القائل و فاته الظرف المكانى و الزمانى لهذا القول و فيمن قيل هذا القول ..
هذه المقدمة أراها كافية لنتبين ، أن تدوين العلم مرَّ بمراحل تحريرية ، وَصَلَنا منها القليل من فَهْمِ وَ قَوْل أهل العلم السابقين ، و نحمد الله أن وَصَلَنا العلم نقياً جلياً بفضل هؤلاء الأعلام الذين حملوا لنا هذا الدين عبر السنين ، و أن سجالات العلماء فى العقيدة و الفقه التى رصدوها فى كتبهم ما كانت إلاَّ للبيان و رَدّ الشُبهات ، بعدما فتح الله على الأمة و جمعهم على تفرقهم فى البلاد على أمر جامع فى العقيدة و العمل . و عامة أهل العلم على أن الأشاعرة و الماتريدية قد خالفوا الصواب حين أولوا بعض الصفات لله عز و جلّ ، و لكنهم من أهل السُنة و الجماعة و ليسوا من الفرق الضالة الإثنين و السبعين ،إلاَّ من غلا منهم فى التعطيل و وافق الجهمية فحكمه حكم الجهمية ، أما سائر الأشاعرة و الماتريدية فليسوا كذلك ، و هم معذورون فى إجتهادهم و إن أخطأوا الحق ، ويجوزالتعامل و التعاون معهم على البر و الإحسان و التقوى ، و لم يفت أحد من أئمة الإسلام بعدم جواز الاقتداء بهم في الصلوات والقتال تحت رايتهم في الجهاد ، فلم يفت أحد مثلاً بتحريم القتال مع المعتصم يوم عمورية ، مع توافر الأئمة في ذلك الزمان كأمثال أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأضرابهم من كبار أئمة القرن الهجري الثالث. ولم نسمع أن أحداً منهم حرم التعامل مع أولئك القوم ، أو منع الاقتداء بهم ، أو القتال تحت رايتهم ..
و كان من فضل الله علىّ أيضاً أن تنبهت مبكراً للفارق بين أن تتعلم المذهب الفقهى أو العقدى و أن تتعبد لله به ، و أن العصبية للمذهب ( الفقهى أو العقدى ) من العصبية الجاهلية ، بل الصحيح أننا ندور مع الدليل حيث دار ، و أن العوام معذورون فيما اتبعوا فيه شيوخهم و مَنْ ظنوهم علماءهم .
و كان من فضل الله علىّ أيضاً أن فطنت مبكراً إلى أن مسائل الإعتقاد كما ساقها كثير من العلماء السابقون و الحاليون ، يستحيل على البسطاء فهمها و تحريرها بهذا الشكل من التفصيل و التحرير و إعتبار لوازم الأقوال لها ، بل أن ما نُقِلَ إلينا من صحيح سُنَّة نبينا أنه يكفى فيها الإجمال الذى تحتمله العقول البسيطة حين قال النبى صلى الله عليه و سلم فى حديث الجارية التي أراد سيدها إعتاقها كفارة لما حصل منه من ضربها ، إذ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : رسول الله ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة .
كل هذا شاركنى فيه الكثيرون ممن تزامنوا معنا فى الإلتزام فى شبابنا ، ثم نسى من نسى و إنحرف من إنحرف و غالى من غالى ، حتى صِرنا إلى ما نحن عليه الأن من محاكم التفتيش العقدية ، و بدلاً من أن تَعْرِضَ ما فتح الله به عليك فى المسألة العقدية على الأشعرى ( الذى عادة لا يعرف من أشعريته شئ ) إذا بك تفسقه و تبدعه و تخرجه من أهل السنة و الجماعة ، و بدلاً من الإنصاف فى أبو الحسن الأشعرى الذى كان حجة زمانه على المبتدعة من المعتزلة ، إذا بك تشكك فى عقيدته و توسم من إتبعه بالضلال فى تعميم مخل ، خرج من كل معانى الإنصاف التى تقتضى إعتبار الزمان و المكان و مَنْ قيل فيه هذا الكلام ..
و كل ما سبق يصلح لبيان أن سَلَّة أهل السنة و الجماعة كبيرة تشمل أغلب أهل القبلة و السواد الأعظم منهم ، و هذا مقتضى حِرص السلف و الخلف على أن مصطلح " أهل السنة " كان دائماً و أبداً مقترناً بلفظ " و الجماعة " ، و أنهما لايفترقان أبداً فى لسان العلماء ، فمعنى ´الجماعة كان أحد أهم مقومات مفهوم " أهل السُنَّة و الجماعة " عند أهل العلم .
إذا عرفنا ذلك تبين لنا شؤم ما يدعون إليه الأن فى مؤتمر الشيشان من قسمة الأمة ، و إشعال نار الفتنة العقدية ، و إدارة طواحين التفسيق و التبديع و التكفير ، الذى لن يثمر إلاَّ مزيداً من شيطنة المعسكر السنى ، فإذا أضفنا إلى ذلك شخوص مَنْ تولى كِبْرَ هذا الإفك مِنْ دجالين السلاطين الظالمين كشيخ الأزهر أحد أكبر من مَرَّرَ مذابح العسكر فى مصر و على جمعة الذى لَبَّس على الناس دينهم و أفتى بقتل الألاف غيلة بدم بارد ، و مفتى مصر الذى ألبس ظلم الحاكم زوراً لباس الشرع حين أقَرَّ مئات من أحكام الإعدام فى محاكمات إستمرت لبضع دقائق لم تتجاوز الساعة و الساعتين ، و مفتى سوريا الذى يلهث ليل نهار بجواز قتل شعبه على يد السفاح بشار الأسد ، إذا رأينا من يضمهم هذا المعسكر تبين لنا من هم أهل الحق و من هم أهل الباطل ، و قديماً سُئِلَ الإمام الشافعى رحمه الله " كيف تعرف أهل الحق فى زمن الفتن ؟ فقال " اتبع سهام العدو فهى ترشدك إليهم ..
و لا يفوتنى أن من نحا نحوهم من غُلاة من ينتمون لمذهب السلف فى الخليج ممن خاض فى الإفك و زعم إحتكار مفهوم أهل السنة و الجماعة من دون الأشاعرة ، هم أيضاً ممن يشقون صف الأمة و ممن فاتهم مقصود أهل السنة و الجماعة و غالبهم من حملة العلم و ليسوا من العلماء ، فتنبه .
و صنف ثالث ممن طحنتهم المحنة ممن يدَّعون السلفية ، أجبرتهم مواقفهم السابقة من نصرة أهل الباطل و خيانتهم لأهل الحق ، على الخرس على هذا الإفك حتى و إن نالهم فى عقيدتهم ، و صدق فيهم قول شيخ الإسلام إبن تيمية " إن وقوفك فى صفوف الظالمين خيانة ، و لو نطقت بآيات القرآن ، فيقول رحمه الله " إذا وجدتمونى فى صفوف التتار و فوق رأسى مصحفاً فاقتلونى " .. فهؤلاء أدعياء ، كَذَّب صنيعهم قولهم ، و جَرَّ عليهم شؤم عملهم ما هو أشد و أنكى من صنيعهم ، إذ أنهم يسمعون بآذانهم تفسيقهم و إخراجهم من حظيرة أهل السنة و الجماعة ممن نصروهم سابقاً من أهل الباطل ، ثم هم لا يستطيعون حتى رَدَّ هذا عن أنفسهم اليوم .
و لم يبق إلاَّ صِنف رابع هم إلى الحيرة أقرب منهم إلى الحياد ، ذلك الذى أصيب بالخرس تجاه أهل الباطل بدعوى الحياد حتى توالت عليه البلايا و لم يزل صامتاً ، فدعوى الحياد فيما نحن فيه باطلة بلا شك ، فالأمر إما حق و إما باطل و قد حسم الله الأمر حين قال " فماذا بعد الحق إلا الضلال " ، إذ أن مَنْ يدعى الحياد و إن كان لم ينحز إلى الباطل و ينصره ، فإنه خذل الحق و أهله ، و قلل سواده ، و أخَّر نصرته و لَبَّس على الناس فى أمرهم ، ففتنهم و أضلهم بعد أن ضلل نفسه قبلهم .
و بعد كل هذا فلا الأشاعرة الذين إجتمعوا بالشيشان أشاعرة ، و لا الصوفية منهم صوفية ، و لا بعض مَنْ إنقلبوا عليهم ممن يدعون السلفية بسلفية ، بل كلهم على دين الملوك ، و هم تبع لمن غلب ، يتاجر بهم الظلمة لتعبيد البسطاء لهم ، و لتمكين المتجبرين فى الأرض ، و مَن نجا منهم من شِرْك القبور سقط فى شِرْك القصور ، فَجُلُّهم يأكلون بالدين فى مشهد فاضح ، إذ جمعهم أمر " تفريق الجماعة " و ليس لَمّ شمل " أهل السُنّة و الجماعة " !!!!
فلا حول و لا قوة إلاَّ بالله ...