• المرأة الإيرانية تصدرت الحراك الاحتجاجي قبل أن تتحوّل المظاهرات إلى مسيرات مطالبة بإسقاط النظام الحاكم
• النظام مازال يتمسك بدعايته الساذجة لتفسير أي احتجاج شعبي بأنه من صنع "أعداء الثورة"
• "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى": بعض أرجاء البلاد مستعدة لـ "حمل السلاح" في وجه النظام
دخلت الاحتجاجات الإيرانية، التي اندلعت في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، بسبب وفاة الشابة الكردية مهسا أميني أثناء احتجازها لدى "شرطة الأخلاق"، يومها الـ 100، دون أن تبدو في الأفق نهاية لهذه الانتفاضة الشعبية الأكثر عنفًا ودموية في تاريخ إيران الحديث، رغم تنفيذ حكم الإعدام شنقًا في حق متظاهريّن اثنين، وصدور حكم ثالث بإعدام الفتاة صوفيا شريف "16عامًا"، بسبب مشاركتها في المظاهرات.
وتصدّرت المرأة الإيرانية ومطالبها الحراك الاحتجاجي، قبل أن تتحول المظاهرات إلى مسيرات مطالبة بإسقاط النظام الحاكم، وعلى رأسه المرشد علي خامنئي، في احتجاجات غير مسبوقة على مدار 43 عامًا من ثورة 1979.
وأسفرت حملة القمع الدموية التي أطلقتها السلطات منذ اندلاع الاحتجاجات عن مقتل 506 محتجين على الأقل، بينهم 69 قاصرًا، فيما وصل عدد الاعتقالات إلى 18516 متظاهرًا، وهو أكبر عدد يتم اعتقاله خلال انتفاضة واحدة منذ "الثورة الخضراء" عام 2009، حتى الآن.
ترهيب وترغيب
يواجه النظام الإيراني واحدًا من أصعب التحديات الوجودية، خصوصًا مع استمرار الانتفاضة الشعبية، على الرغم من الخطوات التصعيدية والتنازلات التي قدمها النظام، حيث استمرت عمليات قمع الاحتجاجات، وسط ارتفاع عدد القتلى وتصاعد عمليات الإعدام من جهة، فيما قررت السلطات إلغاء "شرطة الأخلاق" من جهة أخرى.
لكن هذه الخطوات، بشقيّها، لم تحقق أهدافها، إذ لا تزال العديد من المدن الإيرانية تشهد عمليات احتجاج، لم تتوقف حتى لحظة كتابة هذه السطور، ما يؤكد فشل نظام الملالي في التعاطي مع الانتفاضة الشعبية العارمة.
ومنذ انطلاق الاحتجاجات في مدينة "سقز" الكردية، مسقط رأس الفتاة مهسا أميني التي راحت ضحية شرطة الأخلاق، تأرجحت لغة مسؤولي النظام الإيراني بين التهديد والوعيد.
في البداية، هدد الرئيس إبراهيم رئيسي ومسؤولون آخرون المحتجين، غير أن المرشد الأعلى علي خامنئي لم ينبس ببنت شفة إلا بعد مرور نحو شهر على الانتفاضة، إذ كان يتوقع أن تسيطر قوات الشرطة و"الباسيج" على الوضع، لكن لم يحدث ذلك.
وبعد مرور نحو شهرين على التظاهرات، ظهر القائد العام لقوات "الحرس الثوري" مهددًا المتظاهرين، ومطالبًا المحتجين بأن "تنتهي الاحتجاجات فورًا". وعقب فشل كل التهديدات خرج رئيس السلطة القضائية محسني ايجئي بمقترح "فتح باب الحوار" مع المحتجين، وكررها إبراهيم رئيسي ومسؤولون آخرون. غير أن المتظاهرين لم يأخذوا هذا الكلام بعين الاعتبار، واعتبروه محاولة لشراء الوقت بهدف إخماد الانتفاضة.
وفي تسجيل صوتي مسرب، أكد شكوهي المساعد الأمني لوزارة الاستخبارات، أن "الانتفاضة فاجأتنا وشلت عمل النظام"، مؤكدًا "أننا فشلنا في فهم ما يقوم به الشباب في المجتمع الإيراني".
وحسبما جاء في التسريب الصوتي، فإن المرشد خامنئي قال خلال لقائه مع قائد الشرطة الإيرانية حسين أشتري: "حذار أن تفقدوا الثقة في أنفسكم". وطالب مسؤولو وسائل الإعلام الرسمية في الاجتماع بزيادة رواتب القوات الخاصة للشرطة، مؤكدين "لا تأتينا أنباء جيدة عن أوضاع قوات الشرطة، فهم متعبون ومستاءون، لا سيما بعد أحداث سيستان – بلوشستان".
الانتفاضة مستمرة
استجابت فئات عديدة من المجتمع الإيراني لدعوات كانت قد انطلقت للإضراب العام، لمدة ثلاث أيام في 5 و6 و7 ديسمبر/كانون الأول، فبالتزامن مع حدوث خلل في الإنترنت، انتشرت موجة الكتابة على الجدران للدعوة للانتفاضة في مدن مختلفة من إيران.
وأظهر تنفيذ أصحاب المتاجر لدعوات الإضراب العام أن الاستياء من سياسات النظام لا يزال منتشرًا في المدن الكبرى، مثل طهران وكرج وأصفهان ومشهد وتبريز وسيراز، وبالإضافة إلى السوق والمحلات التجارية، انتشرت الإضرابات في مدن عدة منها العاصمة طهران وشيراز وأصفهان وكرمان، وغيرها من شمال البلاد إلى جنوبها، كما أضرب نحو 500 من عمال العقود العاملین في شركة خزانات بتروكيماويات معشور، جنوب غربي إيران.
وبذلك، تحوّل الحراك الشعبي المندلع على مدار مئة يوم، بلا توقف، إلى تحدٍ كبير لنظام الملالي الحاكم وسلطته الدينية، حيث وضعته الاحتجاجات أمام سؤال حقيقي، يتمحور حول صحة السياسات والآليات التي استخدمها على مدى العقود الأربعة الماضية في إدارة مشروعها لأسلمة المجتمع، وتوظيفه في السياق الذي يخدم سلطة حكومة رجال الدين، وحتى مصادرته لخدمة مشاريع النظام الاستراتيجية والتوسعية، وعداءاته السافرة مع القريب والبعيد من القوى الإقليمية والدولية.
ووضع الشارع الإيراني في حركته الاحتجاجية، النظام وسلطته الحاكمة أمام تحدٍ لم يمر فيه من قبل. فطبيعة الاحتجاجات هذه المرة تختلف عن سابقاتها، والقوى "الإصلاحية" أو التي تقبل العمل تحت هامش محدود من الحرية وفي ظل الأصول الدستورية لا وجود لها في الشارع، وهي غير قادرة على التواصل مع الشريحة الشبابية التي تمسك بعصب الاحتجاجات وترسم خريطة الاحتجاج.
مثل هذا الأمر، جعل النظام ينظر إلى هذه التحركات باعتبارها تهديدًا لماهيته الدينية والولائية وآلياتها السلطوية، وأن أي خطوة تراجعية لقبول الحوار حول الشعارات التي ترفعها الانتفاضة الشعبية، هو بمثابة "انتحار"، لذلك تجد المنظومة الحاكمة نفسها مُجبرة على الذهاب إلى أقسى حدود القمع والعنف، دفاعا عن نفسها ومكتسباتها ومصالحها، وتغليف هذا الخيار بالبعد العقائدي أو مواجهة "المؤامرة الخارجية"!
وإذا كان النظام مازال يتمسك بدعايته الساذجة لتفسير أي احتجاج شعبي بنظرية المؤامرة، وأنه من صنع "أعداء الثورة" ممثلين في أمريكا و(إسرائيل)، فإن هذا النظام يتجاهل أن معارضة سياساته لم تعد مقتصرة على المعارضة السياسية، إذ ثمة أوساط قريبة من رموز قمة النظام نفسه، لا تخفي معارضتها للكثير من سياساته الظالمة.
ويقول المحلل السياسي الإيراني فريدون مجلسي، إن الشعب يشعر باستياء شديد، فهو يعرف أن إيران هي أغنى الدول في المنطقة، لكن شعبها تحول إلى أفقر الشعوب، كما أغلقت أبواب العالم أمام الإيرانيين، وانتشر الفساد بشكل كبير في الداخل، بعد أن استغلت مجموعات قليلة إمساكها بالسلطة وراحوا يستحوذون على أموال البلد عبر الاختلاس والسرقة، وهذا الوضع جعل الشعب الإيراني اليوم يصبح غاضبًا للغاية.
من جهة ثانية، يؤكد المراقبون أن حالة الغضب الشعبي التي يشهدها الداخل الإيراني ستتواصل، في ظل استمرار بحث النظام عن الآلية التي من شأنها احتواء غضب المحتجين، دون المساس بالثوابت التي قام عليها، وهو أمر ليس بالهيّن، خصوصًا في ظل ربط المتظاهرين مطالبهم بتغيير النظام ككل، وعدم الاكتفاء بإجراء "إصلاحات" محدودة حول تطبيق بعض القوانين، ما يعني أن جموع الإيرانيين يريدون إسقاط نظام الملالي، إلى غير رجعة.
وخلص تقرير حديث لـ "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، إلى أنه لا يزال لدى النظام الإيراني وسائل إضافية، لجعل حملة القمع التي يقوم بها أكثر فتكًا، ومن المحتمل أن تكون بعض أرجاء البلاد مستعدة لحمل السلاح ردًّا على ذلك، مع تداعيات غير مؤكدة على الأرض.
وأضاف التقرير، أنه قد يكون من الصعب تصوّر تحول المظاهرات في إيران نحو الكفاح المسلّح، لكن من المتوقع أن يشهد الوضع تصعيدًا نتيجة عوامل متعددة، منها جو المواجهة غير المسبوق في وجه النظام؛ واستعداد المحتجين المثبت للردّ بخطوات دفاعية عنيفة في بعض الأحيان، وعدم استعداد طهران الواضح للنظر بجدية في مطالبهم السلمية؛ وتعدّد الخيارات الفتاكة التي لم تلجأ إليها بعد قوات النظام.
* رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- ميزات الثورة الراهنة في إيران، موقع إندبندنت عربية، 9 ديسمبر/كانون الأول 2022.
2- الانتفاضة الإيرانية وغياب التضامن، موقع البلاد، 10 ديسمبر/كانون الأول 2022.
3- ما هي إمكانات نجاح الانتفاضة الشّعبية وسقوط النظام الإيراني وكيف تتأثّر المنطقة؟ موقع النهار، 10 ديسمبر/كانون الأول 2022.